تحدث وزير العدل في هذا الحوار عن قضايا حيوية هي محل نقاش وجدل واسع الآن مثل استقلالية القضاء ومحاكمة كبار رموز النظام السابق وإعادة الأموال المنهوبة وكذلك الأوضاع في السجون وملفات الشهداء والجرحى. هل ستدخل الوزارة في عملية تطوير القضاء وإصلاحه أم أن استقلالية القطاع التي تحرصون عليها تقف ضدكم؟ إن مرحلة الانتقال الديمقراطي عادة ما تتزامن مع دعوات ملحّة الى إصلاح المنظومة القضائية بتدعيم استقلالها وترسيخ مبدإ المساواة بين الجميع أمام القانون خصوصا أن الأنظمة المستبدة كثيرا ما تجعل السلطة التنفيذية مسيطرة ومهيمنة على القضاء من خلال فرض وصاية على المحاكم بوسائل شتى ومن خلال تطويع القانون الأساسي المنظم لمكوّنات المرفق العام وفقا لمصالحها وذلك عبر النقل والترقيات والعقوبات المقنعة وغيرها. وبما ان القضاء المستقل يعتبر عنصرا أساسيا في معركة كسب رهان الانتقال الديمقراطي واستحقاقا من استحقاقات الثورة فإنه لابدّ من تكريس هذا المطلب المشروع وذلك من خلال: تبني المعايير الدولية ذات العلاقة بمسألة استقلال القضاء. اتخاذ التدابير والاجراءات اللازمة التي تجعل من القضاء سلطة حقيقية ومستقلة. صياغة منظومة قانونية متكاملة تستند الى دستور يكرّس بصفة جلية وضع القضاء كسلطة. رفع الوصاية الفعلية التي كانت مسلطة على القضاء والحيلولة دون تسخيره لأغراض النظام السياسي القائم. إقرار مبدإ انتخاب أعضاء المجلس الأعلى للقضاء بما يحقق الضمانات القانونية والفعلية بطريقة تضمن للقاضي عدم الانحراف عن مساره المهني ويعزّز ثقة المتقاضي في مرفق العدالة. تشريك كل المعنيين بالشأن القضائي من جمعيات ومجتمع مدني وجامعيين وهياكل مهنية في وضع هذه البرامج والتصوّرات التصحيحية تفاديا للسلوك الأحادي الذي كان منتهجا في السابق. تحسين الوضع المادي للسادة القضاة ولكل المهن والوظائف المساعدة للقضاء والمشاركة في إقامة العدل بما يدعم الاستقلالية والنزاهة وتوفير المناخات اللازمة التي تمكّن الجميع قضاة وكتبة وأعوان محاكم ومحامين وعدول تنفيذ وعدول إشهاد وخبراء عدليين وأعوان سجون وغيرهم من القيام بواجباتهم في أفضل الظروف بما يضمن استمرار المرفق العام وقيامه بواجباته كاملة. ما هو الدور الذي ستلعبه الوزارة لجلب رموز النظام السابق الفارّين وفي طليعتهم الرئيس المخلوع؟ ولإعادة الأموال المنهوبة والمودعة في الخارج؟ الحمد لله ان هناك وعيا بأهمية وخطورة هذا الموضوع بما يضمن توفّر إرادة جدية تسعى الى تسريع اجراءات طلب جلب ومحاكمة كل من ثبت تورطهم في ما تسلط على التونسيين من مظالم وما استهدفهم من جرائم وفساد واستيلاء على الأموال العمومية ونهب وتعدّ على الأملاك الخاصة وذلك من خلال متابعة مطالب التسليم وتفعيل اتفاقيات التعاون القضائي الثنائية ومتعددة الأطراف المبرمة بين تونس وعدد من الدول الشقيقة والصديقة كما لن تدّخر الوزارة جهدا في التنبيه الى ضرورة تفعيل الدور الديبلوماسي لتونس للتعاون مع كل الدول الصديقة والشقيقة بهدف تسليم هؤلاء للمحاكمة مع طلب مساعدة الهياكل والمؤسسات المعنية في المجتمع الدولي كل ذلك مع الالتزام بضمان حق الجميع في محاكمة عادلة تتوفّر فيها كل الضمانات طبق المعايير الدولية. أما فيما يهم اجراءات استرجاع الأموال بالخارج فالوزارة بصدد العمل على تفعيل الإنابات القضائية اللازمة لجميع الدول المشتبه في وجود عقارات وأموال ومنقولات على ذمة الاشخاص المصادرة أملاكهم فيها ممن تورّطوا في عمليات فساد وتهريب أموال بالخارج او تبييضها وذلك لغاية تجميدها وعدم التفريط فيها لاسترجاعها لاحقا. علما أن وزارة العدل ممثلة وفاعلة في مختلف اللجان المحدثة على المستوى الوطني والمتمثلة في لجنة المصادرة ولجنة استرجاع الاموال الموجودة بالخارج ولجنة التصرف في الممتلكات المصادرة واللجنة التونسية للتحاليل المالية والتي تنسّق مع الآليات الدولية المختصة في عملية تقصي وتتبع الأموال المنهوبة والمودعة بالخارج. ولمزيد تفعيل المساعي الى استرجاع أموال شعبنا المنهوبة تسعى الوزارة الى تعزيز الكفاءات الوطنية المكلّفة بهذا الملف بعدد من المختصين وذوي الخبرة من الداخل والخارج وتوفير كل ما يلزمهم للقيام بالاجراءات القانونية اللازمة لانجاز المطلوب في أسرع وقت ومراعاة صعوبة وتعقّد الاجراءات في بعض الدول وآثار اختلاف الأنظمة القانونية. كل ذلك مع الاستفادة المثلى مما توفّره بعض الهياكل على غرار الآلية الافريقية للدعم القانوني. يلاحظ المواطنون بطءا في محاكمة كبار رموز النظام السابق في جرائم القتل وغيرها من الجرائم الثقيلة فكيف ستتصرّفون مع هذا الملف؟ وجب في البداية التذكير بأن عددا كبيرا من السادة قضاة التحقيق تكفّلوا بالتحقيق في ما ارتكب من جرائم قتل وقد اقتضى سماع المتهمين غير الفارين والشهود واجراء الاعمال الاستقرائية اللازمة، جهدا هاما يذكر فيشكر وقد اقتضت أحكام الاجراءات والاختصاص بين المحاكم والحرص على الالتزام بأحكام القانون وحسن تطبيقه تخلّي القضاء العدلي عن النظر في ما يخرج عن دائرة اختصاصه الى القضاء العسكري الذي تعهّد بالنظر والبتّ في هذه الملفات. أما فيما يهم باقي القضايا المتعلّقة بالفساد الاداري والمالي فإن المحاكم العدلية تعهّدت بالنظر فيها وقد أصدرت عديد الأحكام ولا تزال قضايا أخرى جارية في انتظار استيفاء الاجراءات القانونية في شأنها ورغم تقديرنا أن البعض من البطء الملحوظ في سير هذه القضايا إنما يرجع أحيانا الى ما تقتضيه اجراءات التقاضي والاستقراءات من وقت وجهد ومع شكري لكل السادة القضاة عمّا بذلوه ويبذلونه لحسن تطبيق القانون فإن الأمل معقود على أن نتمكّن من توفير كل ما يلزم لتيسير عمل القضاة وكتبة وأعوان المحاكم وكل مساعدي القضاء حتى يتم التسريع في فصل الملفات المعروضة دون تسرّع التزاما منّا باحترام المعايير الدولية الضامنة للمحاكم العادلة والتي من بينها الاسراع في البتّ في القضايا حماية لمصالح المتّهمين وحقوقهم وضمانا لحقوق الهيئة الاجتماعية ونفاذ القوانين على الجميع لا فرق في ذلك بين حاكم ومحكوم وفقير وغنيّ وما أؤكّده في هذا المجال ووفاء منّي بالواجبات المحمولة على وزارة العدل في حسن الاشراف على هذا المرفق العام وتوفير ما يضمن استمراره وفاعليته وتطويره حتى يكون قادرا على حماية الحريات والحقوق وأرواح الناس وأملاكهم وأعراضهم ومجسّدا العدل ومحققا للمساواة انطلاقا من كل ذلك والتزاما بما تعهّدنا به لشعبنا وأمّتنا وبالقسم الذي أدّيناه. أقول وأشهد ا& والناس على ذلك: «إن الضعيف عندنا قوي الى أن يستردّ حقّه كاملا والقويّ عندنا ضعيف الى أن يردّ حقوق الناس». هل لديكم برنامج لتطوير المنظومة السجنية وما هي ملامحه وأساسا في ما يخص حسن معاملة المساجين والموقوفين ومنع تعنيفهم او تعذيبهم؟ لا نشك أن الأوضاع في السجون احدى العلامات الدالة عما إذا كانت بلادنا تحترم حقوق الانسان وتحمي حرمته الجسدية والمعنوية وانسانيته أم لا والمطلوب اليوم اتخاذ كل الاجراءات العاجلة واللازمة حتى تقوم المؤسسة السجنية بدورها الاصلاحي والتأهيلي وذلك عبر تطوير الأوضاع المادية للسجون والأعوان وكل الساهرين على هذه المؤسسة لكي لا تحيد عن مهامها الاصلية وتتحول لا قدّر ا& الى مؤسسة تنكيل وتعذيب واهدار كرامة البشر. وإذ كانت المنظومة السجنية مثلها مثل كل المؤسسات قد تعرّضت في العهد البائد لعملية تدمير ممنهجة همّشت المساجين وعائلاتهم وأعوان السجون وموظفيها وعملتها فإن الروح الوطنية العالية التي يتّصف بها أغلبية الساهرين على إدارة هذا المرفق وإرادة التحدّي التي سرت بعد الثورة في صفوفهم كفيلة بتوفير جزء من شروط اصلاح شامل انطلق بمراجعة القوانين الاساسية لسلك أعوان السجون وموظفيها واعداد برنامج لاصلاح الاضرار اللاحقة بعديد المؤسسات السجنية بعد الثورة وبناء وحدات سجنية متطورة طبق المعايير الدولية لتحسين ظروف الاقامة والاعاشة وحماية انسانية السجين وعائلته ومساعدته على الاتعاظ من ماضيه واسترجاع ثقته في ا& وفي نفسه وفي المجتمع وقدرته على أن يكون عنصرا صالحا ومساعدته على تغليب نوازع الخير فيه حتى يعود الى حضن شعبه وأهله ويتحول من عبء على البلاد الى خادم لها. والثابت أننا لن ندّخر أي جهد لتطوير أوضاع السجون والمساجين ولتحفيز الجميع على العودة الى الجادة وتشجيعهم على التوبة الصادقة من خلال حماية كرامتهم وتعليمهم وتدريبهم وتأهيلهم ومن خلال تفعيل آليات العقوبات البديلة وتوسيع دائرة المنتفعين بالعفو والسراح الشرطي لتشمل كل من أثبت من خلال سلوكه حال تنفيذ العقوبة ارتداعه والتزامه بحسن السلوك. ومع حرص الوزارة على توفير مصادر التمويل اللازمة لتحقيق المطلوب فنحن ننبّه لأهمية الدور الموكول لمكوّنات المجتمع المدني والمنظمات والجمعيات في المساعدة على تطوير أوضاع السجون وتوفير فرص الاصلاح أمام آلاف التونسيات والتونسيين الذين زلّت بهم القدم والذين هم في حاجة الى الدعم والمساندة معنويا وماديا حتى يتمكنوا من طيّ صفحة مؤلمة في حياتهم ويكون السجن جسرا لهم نحو حياة جديدة مفعمة بالأمل وبحث الخير للجميع لا جسرا نحو اليأس والحقد والقنوط لا قدّر ا&. كيف ستتصرفون مع ملف الشهداء وجرحى الثورة؟ إن هذه المسألة هي موضوع اهتمام الحكومة ككل خاصة وقد تمّ إحداث وزارة تعنى بحقوق الانسان والعدالة الانتقالية والتي سيكون من بين مهامها معالجة هذه الملفات وغيرها. وما نؤكده هو السعي الى جبر الضرر عن كل الانتهاكات الفردية والجماعية ويكون التعويض ماديا ومعنويا من خلال منح ومبالغ مالية وحوافز مادية وخدمات مجانية تتصل بالصحة والتغطية الاجتماعية وغيرهما وتخليد فضل الضحايا وإحياء ذكراهم وبهذه المناسبة لا يفوتني إلا أن أترحّم على أرواح الشهداء الأبرار في كل الجهات ومن كل الفئات والأسلاك ومن ضمنهم أعوان السجون الذين استشهدوا التزاما بقيامهم بواجبهم ودفاعهم عن تونس والمساجين الذين ذهبوا وللأسف الشديد ضحايا أعمال إجرامية لا مبرّر لها كما أحيّي عائلاتهم جميعا وأقول لهم «شهداء تونس شهداؤنا جميعا ولا خوف على دماء الشهداء الأبرار ولا على تضحيات الجرحى وكل ضحايا العهد البائد في أي مكان في هذه الأرض الطيبة وإن إرادة حكومة الثورة صادقة في الوفاء لعهودها كاملة ولا نطلب منكم ومن كل من حلم بالثورة وضحّى من أجلها إلا العمل معا ووضع اليد في اليد من أجل تحقيق أهدافها النبيلة». معاناة المواطن في تباطؤ المحاكم في البتّ في القضايا هل من تعصير في الادارة في هذا الشأن؟ إن من أهم أسباب البطء في فصل القضايا في المحاكم ما يتطلّبه الالتزام باحترام قواعد المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع واحترام آجال الطعون في الأحكام والقرارات ما ينجرّ عنها من طول آجال فصل القضايا وضعف الموارد المادية والبشرية بالمحاكم دون أن نتجاهل آثار ما فرضه النظام البائد من مناخات وأساليب عمل وتدخلات وإجراءات شكلية لتلميع الصورة فقط ساهمت بأقدار كبيرة في انخرام الأوضاع وتعطيل سير المرفق العام وتعدد الأخطاء والتي زادها تعقيدا الترقية والتكليف بالوظائف على أساس الولاء الشخصي والسياسي والفئوي ونحن واعون بأن المطلوب اليوم القطيعة مع هذه الأساليب وردّ الاعتبار الى كل ضحايا العهد البائد وأن يتمّ التكليف بالوظائف على أساس الكفاءة ونظافة اليد والتجرّد لخدمة الصالح العام حتى يكون الرجل المناسب في المكان المناسب وإعطاء كل ذي حقّ حقّه من مناظرة الانتداب الى التقاعد. كما أنه من الضروري تدعيم وسائل العمل بالمحاكم من تجهيزات مكتبية وإعلامية وغيرها ودعمه الاطار الاداري من كتبة وأعوان وتكوينهم ورسكلتهم كما ستعمل الوزارة على تعزيز عدد القضاة بالمحاكم وحسن توظيف وتوزيع العدد الموجود بها وفقا لما توفّره المعطيات الاحصائية حول نشاط مختلف المحاكم. وسيتواصل عمل الوزارة في اتجاه مزيد تدعيم المنظومات الاعلامية بالمحاكم وبإدارة القضاء واستغلال الاعلامية واستعمال المعلوماتية في الربط والتواصل بين المحاكم ودعم التعامل مع المتقاضي والمحامين عن بعد قصد الحصول على المعلومة والقيام ببعض الاجراءات في إطار الادارة الالكترونية. ما هو موقفكم من مسألة «الحكم بالاعدام» ببلادنا بعد الثورة؟ إن هذا الموضوع شائك لمساسه بالنظام العقابي المكرّس على المستوى الجزائي واعتبر أن كل نقاش حول هذه المسألة يقتضي فتح حوار على نطاق واسع ومعمّق يشمل كل مكونات المجتمع ويأخذ في الاعتبار كل الأبعاد الفلسفية والاجتماعية والثقافية وغيرها وذلك للوصول الى توجّه بشأن هذه المسألة، علما أن هذا النقاش مطروح على أكثر الدول بما فيها العريقة في مجال الديمقراطية.