اعتاد التونسيون كما بقية المجتمعات الإسلامية الأخرى منذ قرون على الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف بتلاوة السيرة العطرة لمولده عليه الصلاة والسلام وذكر الله وإطعام الطعام والحلوى حُباً في الرسول الكريم وشكراً لله تعالى على نعمة بروز النبي. وللأسف ظهر في أيامنا من يحاول تحريم هذا الاحتفال بل يذهب إلى اعتباره بدعة وفسقا ولا أصل له في الدين. وقامت بعض المحاولات في المدة الأخيرة لإفساد بعض العادات التونسية بتعلّة أنها بدع لا جدوى من ورائها وهي دعوات تستند إلى تراث سلفي وهابي متشدّد يحاول إدخال تغييرات في المجتمع التونسي، وقد بدأت هذه المحاولات بتعطيل عمرة المولد النبوي لإلغائها كخطوة أولى في انتظار إلغاء الاحتفال نهائيا. المولد.. تقليد قديم وتكاد تجمع المراجع التاريخية على أن أول احتفال تونسي بالمولد يرجع إلى عصر الدولة الحفصية أيّام السلطان أبي فارس عبد العزيز المتوفى سنة 1434 ميلادي، وقال المؤرخ التونسي عبد الستار عمامو أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف عادة تميّز بها ملوك تونس منذ قرون عديدة ورّجح أن يكون هذا الاحتفال قد انطلق في العهد الفاطمي باعتبار أن الفاطميين يستمدون شرعيتهم من آل البيت. وأكّد علماء الدين والمؤرخون في تونس أنّ الاحتفال بهذه المناسبة بدعة حسنة باعتبارها مناسبة لتكريم خاتم الأنبياء وتأصيل الوازع الديني في النفوس فمنذ العصور الوسطى اعتاد التونسيون قديما على المبالغة في تزيين المدينة وإضاءة الجوامع وإكثار المدائح والأناشيد حيث يقع جمع صبيان الكتاتيب والاجتماع ليلة المولد في مقامات الأولياء الصالحين والمساجد لسرد قصيدة البردة للإمام البصيري والسيرة النبوية وترديد قصائد في مدح الرسول على البردة وتتتزايد الصدقات سواء ليلة المولد النبوي أو بعده ولا سيما إثر ختم التلاوة. وقد حافظ العثمانيون عند قدومهم إلى تونس على هذه العادة وأضفوا عليها طابعا رسميا بتنظيم مواكب في قصور البايات يدعى إليها كبار رجالات الدولة والأيمة ووجهاء البلاد في تونس. احتفاء خاصّ بمولد النبي ويقول الأستاذ عبد الباسط الغابري الباحث في مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان أنّ الاحتفال بالمولد النبوي في العهد الحسيني اتخذ طابعا رسميا وخاصة في عهد المشير الأول أحمد باي الذي أصدر أوامره بإقامة موكب رسمي احتفالا بالمولد النبوي في العاصمة والقيروان سنة 1841 وأكثر الصدقات طيلة شهر المولد. وقد وسّع محمد الصادق باي مجال الاحتفال بهذه المناسبة بنشره في كامل الإيالة التونسية وخصّص لذلك ميزانية وكانت طقوس الاحتفال تنطلق بقدوم الباي في موكب ضخم للحاضرة لزيارة قبور أولياء اللّه الصالحين ثم يتوجه إلى جامع الزيتونة فيستمع إلى قصّة المولد التي ألفها الشيخ إبراهيم الرياحي وعندما ينتهي من قراءة الأبيات الشعرية المعروفة إلى قوله: «فقم أيها الراجي لنيل سعادة قيام محبّ صادق الحب والأدب» يقوم الباي ويقف كل من في الجامع على قدميه وتطلق المدافع من برج الزلاج، ثم يختتم الإمام القصة الشريفة جالسا ويتبعها الدعاء للأمير وآل بيته ورجال دولته ولعامة المسلمين. بعد هذه الطقوس تقدّم كؤوس الحليب على وجه البركة للباي وحاشيته وللشيوخ، ثم يطاف بكؤوس الشراب المعطر على عموم بقية الحاضرين بالجامع وينتهي المجلس برشّ الجميع بماء الطيب ثم يخرج الموكب ويشرع في زيارة الأسواق وقد كانت تسكب القهوة أثناء مروره تفاؤلا بالخير ثم أصبحت تسكب قوارير العطور ويفرش الديباج في عهد البايات المتأخرين في أثناء ذلك يدخل الأسواق قصد التسوّق. يكتفي بزيارة حانوت أمين السوق لرؤية المجوهرات الفاخرة المعدّة للبيع، ثم سوق الشواشية لتناول قهوة الاكرام من حانوت أمين الصناعة، ثم سوق الحرايرية وحانوت أمين سوق البلاغجية ويختم الزيارة بدخول سوق العطارين وخاصة حانوت أمين السوق. طقوس استثنائية وفي أواخر الدولة الحسينية وقع إضافة زيارة المغازة المنصورية التي اشتهر صاحبها بالاتجار في الأقمشة البديعة وصناعة العطور السليمة ومياه الطيب. وأما في سوق الترك فينصب مقعد للباي بعد صلاة العشاء يطلّ على كامل السوق. وكانت تقام مأدبة ملكية فاخرة يحضرها ولي العهد والأمراء والوزراء التونسيون وبعض الأعيان. كما تعمد بعض العائلات العريقة والمشهورة وبعض الزوايا إلى التفنّن في إعداد أشهى الأطعمة وإهدائها إلى الباي. وتواصل الاحتفال بالمولد النبوي بعد الاستقلال لكن وفق رؤية مغايرة. وفي إطار ذلك اعتلى الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة منبر جامع عقبة ابن نافع بالقيروان ليبيّن رؤيته الخاصة للإسلام وللاجتهاد في ظل الدولة الجديدة. ومن الطرائف التي رواها الحبيب بورقيبة بنفسه أنه تلقى في أول مولد نبوي بعد إعلان الجمهورية سنة 1957 هدية من الأكلات الشهية من إحدى العائلات التي اعتادت على إهداء الباي أطباقها فأعلمهم أنه لم يعد لهذا الصنيع من مجال ولكنه مع ذلك لم يتوان عن التهام ما في الأطباق رفقة من كان معه في ذلك اليوم. ويشهد يوم المولد حركية استثنائية في كامل مناطق البلاد إذ يتوافد الرجال والأطفال على المساجد أين تتلى المدائح والأذكار وخاصة قصيدة «الهمزية في مدح خير البرية» للإمام البصيرى ويتم إنشادها على وزن المالوف التونسي بطريقة بطيئة في أولها ثم يتسارع النسق في آخرها. والى جانب بعده الديني يكتسي الاحتفال بالمولد النبوي الشريف الذي يعتبر مظهرا من مظاهر حب الرسول واجلال شخصيته في نفوس التونسيين طابعا اجتماعيا حيث تلتقي الأسر فيما بينها ترسيخا للروابط العائلية والتمسك بالتقاليد التونسية الأصيلة والتشبث بالقيم الحميدة.