مع بدء اللّجان التأسيسية داخل المجلس التأسيسي عملها يتطلّع التونسيون إلى رؤية أولى ملامح الدّستور الجديد الذي يُجمع كثيرون على ضرورة أن يكون دستورا توافقيا، دستور كلّ التونسيين وليس دستور طرف سياسي معيّن. ورغم وعي مختلف مكوّنات المشهد السياسي بأنّ التوافق أكثر من ضروري لإدارة المرحلة التأسيسية وتهيئة أجواء ملائمة لكتابة دستور في مستوى تطلّعات التونسيين فإنّ حالة التّجاذب القائمة حاليّا والاستقطاب الإيديولوجي الحادّ يطرحان تساؤلات كبيرة عن مصير الوفاق وعن المدّة اللّازمة لإعداد الدستور. ولا تكاد الأطراف السياسية المكوّنة للمجلس التأسيسي وحتّى تلك الأطراف غير الممثّلة داخله تختلف حول ضرورة أن يُنهي المجلس مهامه في غضون سنة، كما تمّ الاتفاق عليه سياسيا وأخلاقيا بين أبرز المكوّنات، أو سنة ونصف السّنة كما ألمح إلى ذلك كثيرون سواء من داخل الائتلاف الحاكم أو المعارضة (الكتلة الديمقراطية) خصوصا لدى مناقشة قانون التنظيم المؤقت للسلطات العمومية، لكن يبقى المشكل الأساسي وفق قراءة البعض التوافق الغائب وليس مشكلة الوقت. وقال أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد إنّ الخطر القائم اليوم أعمق من المجلس التأسيسي في حدّ ذاته ويتمثّل في أنّ المشهد تمّ إفراغه منذ الأسابيع الأولى التي تلت 14 جانفي 2011 حين بدأ البعض يطرح بعض المسائل التي لم يطرحها الشعب (مثل طبيعة الدّولة والمساواة في الميراث والزواج المثلي وغيرها) وكأنّ القضية تتعلّق بالإسلام والكفر فتحوّلت بذلك المطالب إلى مطالب نخبة وبدا كأنّ البعض انتهز الفرصة وأراد أن يُسوّق نفسه وكأنّه وصيّ على الشعب وكأنّ هؤلاء باتوا يشطرون المجتمع إلى نصفين، فظهر التطرّف اللّائكي الذي كان سببا في التطرّف الدّيني. وأكّد سعيّد أنّ المشهد الذي نراه اليوم لا يمكن أن يتحقّق فيه توافق وأنّه لا بدّ من إعلان تونسي لحقوق الإنسان قبل كتابة الدّستور يتمّ فيه الاتفاق أوّلا على المبادئ الأساسية والحريات الأساسية التي يجب أن تكون فوق كلّ الاعتبارات والتوازنات، موضحا أنّ هذا الإعلان سيكون المنطلق للبناء القانوني الذي على أساسه سيقوم النظام السياسي الجديد. وأكّد سعيّد أنّ «الضامن الأول لأن يكون الدستور دستورا لكلّ التونسيين هو الشعب، ثمّ الاتفاق حول المبادئ الأساسية التي سيقوم عليها المجتمع أي المطالب الأساسية والحقيقية للشعب ووضع التجاذبات السياسية جانبا وإبعاد الحسابات الانتخابية... لا بدّ من توفّر هذه الشروط، وهذا الوفاق لا يتحقّق إلّا بتوفّر رغبة كلّ الأطراف في ذلكن ولكن للأسف يبدو الوضع اليوم خلاف ذلك». وذهب الأستاذ سعيّد إلى القول إنّه سيكون من الممكن وضع دستور في ظرف أربعة أسابيع إذا توفّر الوفاق وأنّ مردّ الخلاف ليس العمل التأسيسي بل العمل غير التأسيسي، في إشارة إلى التجاذبات القائمة والأحداث التي قد تشهدها البلاد والقضايا الخلافية التي لا تكاد تنتهي والتي قد تكون من المواضيع المطروحة على المجلس وقد تكون موضوع حوار بين المجلس والحكومة، ممّا يعني تعطيل العمل التأسيسي. واعتبر سعيّد أنّ المجلس التأسيسي تسرّع في وضع قانون التنظيم المؤقّت للسلطات العمومية وكان من الأجدى المصادقة على النظام الدّاخلي للمجلس أوّلا، مشيرا إلى أنّ هذه المرحلة انتهت وأنّ ما يقوم به المجلس اليوم معهود وليس بدعة في العمل التأسيسي كما عرفته تجارب سابقة. وأشار أستاذ القانون الدستوري إلى أنّه سيتمّ الاستئناس ببعض الدساتير والمشاريع التي تمّ إعدادها حيث ستستأنس كلّ لجنة بعدد من المشاريع والتجارب المقارنة وسوف يتمّ الاختيار على مستوى اللجان وفي كلّ المحاور، كما أنه من الممكن الرجوع إلى دستور جوان 1959 في عدد من المبادئ العامة أو بعض الصيغ، وهذا سيتمّ الاتفاق عليه داخل اللّجان وفي الجلسات العامة. ويُشار إلى أنّ اللجان التأسيسية التي ستتولّى صياغة الدّستور هي لجنة التوطئة وستنظر في الديباجة والمقاصد العامة للدستور وخاصة الباب الأول والفصل الأول والإجراءات المتعلّقة بعملية تعديل الدستور، ولجنة الحقوق والحريات، حيث اعتبر الأستاذ سعيّد أنه لن تُطرح مشاكل كبرى في هذا الباب لأنّ هناك نوعا من الاتفاق حول الحقوق والحريات الأساسية، ولجنة السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والعلاقة بينهما ولجنة القضاء العدلي والإداري والمالي والدستوري ولجنة الهيئات الدستورية ولجنة الجماعات العمومية والجهوية والمحلّية.