معالجة هذا الموضوع تفرض بادئ ذي بدء إثارة قضية الميثاق الذي تتوالى الوعود بتطويره، منذ عقود طويلة. وهو نص عتيق، أعد على شاكلة ميثاق الأممالمتحدة، رغم ما بين الظروف الدولية، والمقتضيات العربية، من تباين. فالأممالمتحدة، إنما جعلت لإتمام السلام والحفاظ عليه، بينما الأوضاع العربية المتردية آنذاك وطموحات شعوبنا المتعطشة إلى مصير أفضل كانت تتطلب إعادة هيكلة افتراضية للوطن العربي، والربط بين دولنا، بعد استقلالها، والنهوض بشعوبها، في إطار خطط مشتركة، ذات أبعاد متعددة. فالملاحظ، إذن، هو أن الجامعة بقيت منذ تأسيسها، في منزلة خاطئة بالنسبة إلى الواقع العربي بعد استقلال سائر أقطارنا وبالنظر إلى متطلبات مجتمعاتنا، وعن ذلك تنجرّ أغلب مشاكلها. سأتناول هذا المشكل من وجهتين : استخلاص أهم العبر من الماضي ثم الإلماح ولو على عجل إلى أوكد واجبات جيلنا الحاضر، من أجل إعداد مستقبل أجيالنا القادمة، بصورة نرجوأن تنتزع، من بعض الأذهان، الإعتقاد، أو حتى الظنّ، بضرورة إلغاء المنظمة وهي آخر ما تبقى من الرباط بين أوطاننا العربية. أما دروس الماضي، فمنها ما هو إيجابي، و الكثير منها سلبي. أغلبية سلبيات الماضي آتية من ضيق ما ينطوي عليه الميثاق من طموح، إذ هو مركز على سيادة الدول الأعضاء، ويكاد لا يهتم بما تحتاج إليه الشعوب. صحيح أن مفاهيم التنمية لم تكن، في ذلك العهد، قد توضحت، لدى الساسة العرب. لكن الغريب أن الميثاق لا يذكر، ولو بالإشارة العابرة، الانتساب إلى أمة واحدة من حيث اللغة والثقافة، وأطوار «من التاريخ،» ولا يعنى بواجبات ما ترسّخ هوية شعوبنا الحضارية. وكان لا بد من انقضاء أكثر من عقد على قيام الجامعة، حتى يدخل هذا الوعي «القومي» أعمال الجامعة. كان ذلك بعد قيام ثورة الضباط الأحرار، في مصر، وبفضل شخصيات مرموقة في الحكومة المصرية، من الواجب الإشادة بدورهم التاريخي، أخصّ بالذكر منهم عزيز صدقي، وعبد المنعم القيسوني. وتمثل هذا الوعي في الربط بين الذود عن سيادة الدول العربية، وبين ما ينبغي أن تكسبه من مناعة، من خلال إقامة التضامن، والتعاون، والتناصر بينها، لا فقط في المجالات الدفاعية بل أيضا بل بوجه أخص بواسطة التنمية الجماعية، في مستوى الوطن العربي كله. منذ تلك الحقبة، بدأ التمييز بين «المصالح القطرية» وبين المصلحة العربية العليا كما بدأ ينجلي، في الضمير العربي واجب الحرص على إعطاء الأولوية لما يهم الأمة بأسرها. كان ذلك مكسبا عالي الأهمية، بالنسبة إلى العمل المشترك. لكن هذا المكسب كان مشفوعا بسلبيات عطلت، أحيانا كثيرة، الانتفاع بمزاياه. ذلك أن هذا الوعي «القومي» كما كان يقال دخل في الأذهان بأسلوب فيه من الضغط، وفيه من التهديد وفيه من توجيه التهم، ما حمل عددا من الدول الأعضاء خاصة منها التي لا تزال إذاك في تخلف فكري وركود سياسي على قبول القرارات ذات المرامي القومية، على مضض دون جدال، مع النية المبيّتة، على عدم تنفيذها، فتراكمت القرارات المجمدة، ونال ذلك من مصداقية العمل العربي المشترك عربيا ودوليا. وإذاك، بدأ، على مراحل، مسار «ضمني» غير معلن، قسم دول الجامعة إلى شقين : أحدهما ثوري، «قومي» ومتعاون مع «المعسكر الشرقي». والآخر تقليدي، ومتعاون مع «المعسكر الغربي». وعندئذ تكاثرت العوامل الخارجية التي كان لها دور في التأثير على العمل المشترك، وفي تعطيله أحيانا، وجعله تسوده أجواء متوترة، أضعفت من أواصر التعاون، ونالت من الايمان بالاشتراك في المصالح، وزعزعت الثقة، لدى الكثيرين بجدوى عمل الجامعة. هذه الظاهرة، التي يمكن أن ننعتها بالتشتت في الضمائر العربية، ستكون لها آثار وخيمة : «منها إعلان البعض عن «محور الصمود والتصدي» ومنها نشوب مناوشات إعلامية طويلة المدى، مشفوعة، أحيانا، بتهجمات رسمية. وحين يفقد العمل المشترك أهم ركائزه الأساسية أعني الثقة المتبادلة، والحماس الجماعي لتنفيذ نفس الأغراض والنظر إلى المصالح الخارجية بنفس المنظار، والرغبة في تحقيق التطلعات الداخلية على نفس المنوال حينئذ يؤول إلى حراك، دون طائل. وذاك، عندي، هو سرّ عدم نجاعة الجهود العربية، طيلة عقود. هذه لمحة سريعة، أردت منها التذكير بجملة من الأعراض التي عطلت عملنا العربي المشترك. لكن السؤال، الآن إنما يخصّ الواجبات التي على الجيل الحاكم اليوم القيام بها، لجعل العمل المشترك بين دولنا، أقدر فأقدر، على خدمة المصالح العربية العليا، بصنفيها، القطري والجماعي، حتى لا يفضي التشتت في الضمائر لا قدر الله إلى تشتت في المصائر.