رغم أن هناك قناعة شبه تامة في تونس من أن المؤسسة العسكرية انحازت إلى الشعب أثناء ثورة 14 جانفي 2011 إلا أن بعض الحيرة بدأت تتسرب إلى الشارع التونسي نتيجة حياديّة الجيش في بعض الأحداث التي اندلعت هنا وهناك وهو ما يطرح أكثر من سؤال حول طبيعة المأمورية الأمنية المنوطة بعهدته بالضبط. على مدى ثلاثة عشرة شهر ونيف من اندلاع ثورة 14 جانفي 2011 نجح الجيش التونسي في حماية المواطنين والممتلكات العامة والخاصة رغم تدهور الأوضاع الأمنية داخليا وعلى الحدود التونسية الليبية ومحدودية قدراته اللوجستية من حيث العتاد والتجهيزات. والواضح أن هذا النجاح انعكس إيجابيا على معنويات التونسيين الذين انصرفوا إلى شؤون الحياة غير مبالين بحالة الإنفلات الأمني غير المسبوقة التي شهدتها البلاد نتيجة الوضع السياسي والاجتماعي الهشّ الذي تلى الأشهر الأولى لسقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي. والتونسيون في منازلهم أو في أماكن عملهم كانوا يتابعون بفخر واعتزاز أداء جيشهم وهو يطارد المجرمين أو ينتشر أمام المنشآت العامة بل ويقف على الحدود لحماية الوطن من أي اعتداء خارجي. كانت الأشهر الأولى التي تلت ثورة 14 جانفي حافلة بالبطولات والمنجزات الأمنية للجيش ما جعل التونسيون يشعرون لأول مرة في تاريخهم الحديث أن لهم هم أيضا جيشا قادرا على حمايتهم مثل سائر الشعوب وكأن بتلك النظرة اليائسة للمؤسسة العسكرية قد انمحت للأبد بل وأصبح الشعب يطالب بتطوير الجيش وإعطائه من الإمكانيات ما يسمح له بتعصير قدراته البشرية واللوجستية لكن بعض المواقف التي اتخذها الجيش حيال بعض الأحداث أعادت إلى الأذهان وضع الحياد الذي إعتمدته المؤسسة العسكرية طيلة فترتي حكم بن علي وبورقيبة وما كان لذلك الحياد من تداعيات على تعامل السلطة مع الشعب الذي واجه بمفرده جبروت نظامين سياسيين أمعنا في التنكيل به دون أن يحرك الجيش ساكنا وهو ما يفسر بعض الخوف الذي بدأ يتسرب إلى وجدان التونسيين من عودة المؤسسة العسكرية إلى حالة التهميش التي كانت عليها في السابق ومن ثمة فشلها في المساهمة بالوصول بالثورة إلى تحقيق أهدافها الأمنية والسياسية. من عسكر الباي إلى جيش الشعب إن كان يوم 25 جوان 1956 هو التاريخ الفعلي لدخول الجيش التونسي في الحدمة فإن ذلك لا يعني أن تونس لم تكن تحتكم على مؤسسة عسكرية قبل ذلك ودون الخوض في مختلف الحضارات التي تعاقبت على بلادنا والتي كان لكل منها جيش قوي بداية بحنبعل وعقبة بن نافع وصولا إلى المعتز والأغالبة فإن مختلف البايات الحسينيين الذين وصلوا إلى السلطة سنة 1705 كان لهم جيوشهم الخاصة التي اقتصر دورها في حماية ممالكهم وسلطتهم ضد القبائل المنتفضة على الدوام. كان عسكر البايات مشكلا بطريقة تسمح له بالتنكيل بالشعب دون الاهتمام بالمخاطر الخارجية التي تتهدد بالإيالة التونسية وهو ما يفسر سقوط الإيالة في يدي القوات الفرنسية في يوم واحد أي يوم 8 ماي 1881 وانتهاء الباي بإمضاء معاهدة الحماية حفاظا على عرشه وليس حقنا لدماء التونسيين وكأن بالشعب التونسي كتب عليه حماية نفسه بنفسه وهو نفس النهج الذي انتهجه الحبيب بورقيبة الذي قرر منذ اليوم الأول في تاريخ دولة الإستقلال قيادة الجيش التونسي المحدث بنفسه بتوليه منصب وزير الدفاع زيادة على رئاسة الحكومة وكأن به يريد هو الآخر تأسيس جيش على قياسه تتمثل وظيفته الأولى في حماية نظامه وليس الشعب. كانت مؤسسة الجيش أيامها عبارة عن مدرسة للضباط ووحدة للمدفعية متمركزة بثكنة العوينة بتونس العاصمة وأخرى للمصفحات بباب سعدون وفريق للهندسة ببوشوشة. وعلى هامش مؤتمر باندونغ الذي انبثقت عنه مجموعة عدم الإنحياز تمكنت تونس من الحصول من الماريشال تيتو زعيم يوغسلافيا على بعض العتاد قبل أن تندلع أحداث ساقية سيدي يوسف سنة 1958 وتهب جمهورية مصر العربية إلى نجدة تونس من خلال إرسالها إلى فرقاطة محملة بالذخيرة والعتاد. لم يسع الحبيب بورقيبة وقتها إلى تأسيس جيش شعبي يحمي الجمهورية بل كانت رغبته واضحة في إنشاء مؤسسة عسكرية مهمشة يتقصر دورها على حماية النظام والبقاء في دائرة الظل كقوة إسناد لجهاز الأمن متى اقتضى الأمر وحتى في معركة الجلاء سنة 1962 لم يرسل بورقيبة بالجيش بمقاومة الجنود الفرنسيين بل دفع بالألاف من الشباب الأعزل الذين تعرضوا إلى مجزرة بشعة في حين بقي الجنود التونسيين في الثكنات تحسبا لأي خطر داخلي مرتقب خصوصا وأن أعداء بورقيبة من داخل النظام نفسه بدؤوا في التحرك. ومع المحاولة الإنقلابية التي قام بها بعض رموز التيار اليوسفي سنة 1962 وتورط بعض عناصر الجيش فيها أحكم بورقيبة قبضته على المؤسسة العسكرية محاولا عزلها على الشأن العام ولم يستنجد بها إلا متى تعرض نظامه للخطر على غرار أحداث 26 جانفي 1978 أو قفصة سنة 1980 وانتفاضة الخبز سنة 1984. كان لهذا التدبير البورقيبي الأثر السيّء على علاقة الجيش بالشعب وهو ما يشرع للخوف الذي ينتاب التونسيين اليوم من مغبة عودة المؤسسة العسكرية إلى حيادها السلبي الأمر الذي قد ينعش طموحات بعضهم للإنقضاض على ثورة الشعب والعودة بتونس إلى الدكتاتورية. هذا الخوف المشروع يبرره أداء «المؤسسة العسكرية» إبان فترة حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي رفع من درجة إقصاء الجيش مقابل تقوية جهاز الأمن ولم يكن للشعب التونسي أن يجد عذرا لجيشه الوطني وصمته على مجمل الجرائم التي ارتكبها بن علي ضده إلا في وقفته التاريخية إبان ثورة 14 جانفي لما انحاز العسكر لأول مرة منذ نشأته إلى جانب الشعب واختار الولاء للوطن وللجمهورية على الولاء للنظام. وكان من الطبيعي أن يرفع الشعب التونسي من سقف مطالبه تجاه جيشه الوطني معتبرا مسألة حمايته من صميم دور المؤسسة العسكرية فكم من وردة ألقيت على الدبابات المنتشرة في الشوارع التونسية اعترافا من الشعب بالجميل إلى جيش الشعب. لا للإنسحاب أمام ما شهدته تونس من أحداث وتقلبات طيلة السنة الماضية والثورة العارمة التي عرفتها المؤسسة الأمنية التي باتت بدورها تطمح إلى الحرية والإنعتاق والعودة إلى صفوف الجمهورية لم يكن هناك من حلم لدى التونسيين إلا في رؤية جيشه يواصل انتشاره في الشوارع ليحافظ على سلامة الناس ويحمي الممتلكات العامة والخاصة رافضا بكل قوة عودة العسكر إلى الثكنات متى لم يكتمل مخاض الجهاز الأمني لينصهر بشكل تام في المبادئ الجمهورية لذلك فإن أي موقف يعتبره الشعب حياديا صادر على الجيش إزاء بعض الأحداث المؤلمة التي شهدتها البلاد في الأشهر الأخيرة هو بمثابة عودة الخوف والحيرة من أن يتم مرة أخرى عزل الجيش عن الشعب وما لذلك من تداعيات خطيرة على الوضع الأمني في البلاد وهو ما يحيلنا إلى القول بأن مأمورية الجيش لم تنته بعد.