إنّ الشاب السلفي المتّهم في قضية العلم بكليّة منّوبة قدّم عن غير قصد مناسبة نادرة لالتفاف كلّ التونسيين وتجسيد معان راقية في الوحدة الوطنيّة دون نظر لولاءات حزبيّة أو إيديولوجيّة أو عقائديّة. إلى فترة قريبة بدت الأحزاب والنخب منقسمة ومشتّتة حول العديد من القضايا والملفات وفاحت من هذا أو ذاك رائحة للتآمر ورغبات محمُومة في توتير الأوضاع العامّة في البلاد وتغليب للتجاذبات السياسيّة والحزبيّة والفئويّة الضيّقة على المصلحة العليا للوطن. لقد تنادى كلّ التونسيين في «حادثة منوّبة» للدفاع عن راية الوطن المفدّى وأدانوا ما أقدم عليه الشاب المذكور مُعتزين بحالة الانتماء لهذا الوطن متذكّرين تضحيات القدامى من المناضلين والشهداء والذين سقوا بتضحياتهم ودمائهم تربة الوطن وعلمها المفدّى رمز السيادة الوطنيّة. إنّ أكثر ما يُهدّد الأوطان هو حالة التشظّي والصراعات العقائديّة والإيديولوجيّة المتطرّفة والتي يُمكنُ أن تبلغ درجات قصوى من الاستهتار والتلاعب والاستفزاز ومنها المسّ بما يرمزُ للوحدة والانسجام الاجتماعي والحضاري والتاريخي. لقد أوقعت «حادثة العلم» النخب والأطراف السياسيّة ومكوّنات المجتمع المدني أمام أخطار إشعال فتيل الصراع الإيديولوجي والعقائدي والّّذي لا يُمكنه أن يُؤدّي في نهايته إلاّ إلى الوقوع في المحظور ، إذ لم تكن تلك الحادثة معزولة لا على ما يجري في أروقة جامعة منّوبة منذ أشهر ولا على ما يدور في البلاد من رحى لحرب إيديولوجيّة تنحو نحو الفتنة وبثّ الفرقة بين التونسيّين والتونسيّات. لقد كان التحرّك الشعبي العارم والواسع دفاعا عن العلم رسالة واضحة، إلى مُشعلي نار الفتنة من المتطرفين يمينا ويسارا، بأنّ هناك دوما ما يجمعُ بين التونسيين وإن اختلفت آراؤهم وأفكارهم ومعتقداتهم. كانت الرسالة واضحة وكان الدرس بليغا وفي قمّة الجرأة والوضوح touche pas ma Tunisie ، هذا خط أحمر ليس بعده ولا قبله لا سلطة ولا معارضة ولا صراع سياسي ، لا ثورة ولا انتقال ديمقراطي ، هناك شيء عميق مدفون في النفوس والمشاعر ينبض وباستمرار حبّا للوطن وفداء لكلّ ما يرمزُ إليه ومن بينها «العلم الوطني». لمّا يعجز السياسيّون والنخب وتتكثّف بسببهم ومن حولهم حالات الاستفزاز وردود الأفعال ومظاهر التوتّر والفوضى على قاعدة الإديولوجيا ، والإيديولوجيا فقط، عندها يتحرّك الضمير الجمعي للشعب ليُعطي الدروس ويُقدّم العبر بعيدا عن كلّ إيديولوجيا وفكر ومعتقد وانتماء حزبي أو فئوي أو جهوي.