كانت عناية لجنة جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي بالاعلام واضحة إذ قبل وصول الضيوف كانت الصحف اليومية السودانية وهي كثيرة قد نشرت معلومات عن الضيوف والجائزة والندوة وكان قسم الاعلام في شركة «زين»
المنظمة يمتلك علاقات واسعة مع أجهزة الاعلام إذ أنهم يعرفون مدى أهمية الاعلام، فقناة «النيل الأزرق» الفضائية وهي من سلسلة قنوات «art» كانت تنقل الجلسات كاملة نقلا مباشرا ولذا لم أستغرب عندما أرسلت لنا القاصة التونسية بسمة الشوالي نصّ شهادتي بالصوت والصورة من موقع «اليوتوب» كما أن الاخوة الصحفيين كانوا حاضرين ولم يكتفوا بحوارات مبتورة مع بعض الضيوف بل وسجلوا معهم حوارات مطولة كان أولها بالنسبة الى محدثكم حديثه لجريدة «الرأي العام» اليومية وهي الجريدة السودانية الرسمية أدارها الأديب عيسى الحلو وشارك فيها رئيس تحرير الجريدة كمال حسن بخيت وهو صديق قديم درس في بغداد وأقام فيها للعمل الصحفي عدة سنوات ومنها راسل عدة مجلات عربية تصدر في أوروبا قبل تحوله الى وطنه السودان.
وفعلت ذلك أيضا جريدتا «الخرطوم» و«الصحافة» التي يشرف على صفحاتها الثقافية الناقد مجذوب عيدروس أمين عام الجائزة.
وربما كان السودانيون من أكثر الشعوب العربية عشقا للراديو ولا يشاطرهم هذا العشق إلا أشقاؤهم المصريون، ففي مصر كانت المسلسلات التي تنجح في الاذاعة تحول الى مسلسلات تلفزية والى أفلام معروفة. وبالنسبة الى السودان أذكر هنا أنني من مستمعي إذاعة لندن العربية المعروفة اختصارا ب«BBC» وأنا حريص على سماع نشراتها الصباحية منذ سنوات طويلة، وفي هذه الاذاعة يطرح كل يوم سؤال حول قضية ساخنة ليعلق عليها مستمعو الاذاعة وغالبا ما يكون المعلقون من أشقائنا السودانيين الذين يحرصون على ذكر أسمائهم وأسماء مدنهم وقراهم كاملة.
وفي السودان عدد كبير من اذاعات «FM» ما عدا إذاعة أم درمان الرسمية، ولذا لم أستغرب أن يكون مقدمو البرامج في هذه الاذاعات نجوما، فالشاعرة روضة الحاج وهي كبيرة شاعرات السودان والحائزة على عدد من الجوائز الشعرية في «شاعر المليون» و«أندية الفتيات» في الشارقة وجوائز وطنية أضافت لها شهرتها الاذاعية شهرة لمكانتها كشاعرة هي في مقدمة الشاعرات العربيات اللواتي ظهرن في السنوات الأخيرة.
هذه الشاعرة عندما دعتني الى مبنى إذاعة «أم درمان» لتسجيل حوار معي جاءتني هناك لمسة جميلة من مدير عام الاذاعة الأخ منتصر فضيل الذي ما أن علم بوجودي حتى جاءني الى الأستوديو لتحيتي وقدّم لي هدية جميلة باسم الاذاعة.
وقد أعلمتنا روضة الحاج إميليا وأنا هنا في تونس بأصداء الحديث عند بثّه، وهناك نجمة أخرى من نجمات الاذاعة هي لمياء المتوكل التي تقدم من إذاعة البيت، وهذا اسمها برنامجا عنوانه «حلو الكلام» وهو برنامج يحظى بأعداد كبيرة من المستمعين. وقد جاءتني رسالة على الهاتف المحمول من الصديق مجذوب عيدروس مساء السبت الماضي تقول (نستمتع الآن بحوارك مع لمياء المتوكل).
وإذا كانت هذه الحفاوة بالضيوف وقد ضربت مثالا بحالتي فإننا لا نستغرب أن تكون أيام الندوة حدثا ثقافيا كبيرا في السودان استقطب جميع المبدعين من اتجاهاتهم المختلفة فالمبدعون الكبار مثل الطيب صالح هم قيمة وطنية لا تخصّ فئة ولا طائفة ولا حزبا أو مدينة.
كانت القاعة على سعتها مكتظة بالحاضرين الذين كانوا يصغون بانتباه ويناقشون بوعي، يصغون وكأن على رؤوسهم الطير كما يقول المثل العربي.
كان الوقت ضيّقا وأيام الندوة مهدورة لذا لم يتسنّ لنا النزول الى شوارع المدينة وأسواقها لنتعرّف على نبض الحياة وإيقاعها وهذا يهمني كروائي، ولم ينس أحد منا تلك الجولة النهرية في النيل الرائع الذي تمتعنا ببهائه وأبحرت بنا السفينة حتى نقطة التقاء النيل الأبيض بالنيل الأزرق قبل أن تستدير عائدة، وكنا قد تناولنا طعام الغداء على متن هذه السفينة كما جرى توزيع بعض الهدايا على الحاضرين وهي هدايا رمزية منها صندوق يضم صورة على المعدن للطيب صالح وآخر يضم بيضة نعامة مزوقة وقد حرصت على إيصالهما سالمتين الى تونس.
كما تسنّى لي زيارة مدينة «واد مدني» أنا والقاص المصري عمار علي حسن صحبة عدد من أدباء السودان وقد تعرفت عليه للمرة الأولى لكنه سبق له أن حاز على الجائزة الثانية في مسابقة القصة القصيرة دورة العام الماضي، ويبدو أنه معروف لدى الشباب السودانيين الذين كانوا يتابعون وقائع الثورة المصرية في ملتقاها الوارف ساحة التحرير من شاشات التلفزة أو أن عمار علي حسن كان خطيبا مفوّها من الميدان.
لكن انطلاق الحافلة بنا في الساعة الرابعة عصرا نحو «واد مدني» حرمنا من مشاهدة هذه المدينة العريقة التي أنجبت عددا كبيرا من رجال السياسة والثقافة والفن والتي تبعد حوالي مائة وثمانين كيلومترا عن الخرطوم.
وصلناها وقد هبط الظلام وكان في استقبالنا الأخ الدكتور ابراهيم القرشي وزير الثقافة والاعلام لولاية الجزيرة. كما كان في انتظارنا عدد كبير من مثقفي المدينة ومحبي الأدب فيها.
وكانت لنا ندوة مفتوحة أدارها الأخ الأديب مبارك الصادق وشارك فيها الاخوة أحمد الفضل أحمد ومحمد محي الدين وافتتحها السيد الوزير د. القرشي.
وفي الطريق الى واد مدني حدثني ابن المدينة مجذوب عيدروس الذي بدأ رحلته الأدبية فيها قبل تحوله الى الخرطوم عن أدباء المدينة الذين لم يفوّتوا في ندواتهم ما ينشره الأدباء العرب، وأن هناك ذاكرة أدبية حيّة ضاربا لي مثلا بقصة قديمة لي عنوانها «من مغامرات أحمد العيد في لياليه الحافلة» بأنها نوقشت عند نشرها عام 1975 في احدى ندوات المدينة وإنني سألتقي بمن ناقشوها وقتذاك وهم الاخوة الذين ذكرتهم أحمد الفضل أحمد ومبارك الصادق ومحمد محي الدين.
وبعد الندوة لبّينا دعوة السيد الوزير د. ا براهيم القرشي لتناول طعام العشاء في بيت الضيافة بالمدينة.
إن السودانيين متعلقون برموزهم الثقافية كل التعلّق وعندما كنا في القاعة الشرفية في مطار الخرطوم للمغادرة كل الى وجهته أذاع التلفزيون نبأ وفاة موسيقي ومطرب مشهور هناك هو محمد وردي وما أن سمع الأخوان السفير الشاعر خالد فتح الرحمان المتوجّه الى مقر عمله في لاهاي والدكتور خالد المبارك مصطفى المتوجّه الى مقر عمله في لندن، حتى جاءني صوت د. خالد المبارك بأن هذا الخبر سيهزّ السودان، ولذا لم أستغرب عندما سمعت في نشرة أخبار اليوم التالي من إحدى الفضائيات العربية بأن رئيس الجمهورية عمر البشير ومساعديه وعددا من الوزراء كانوا في تشييع هذا الفنان الرائد الذي تجاوز الثمانين من عمره.