أول أمس الثلاثاء كان يوما ساخنا في باب الجزيرة بالعاصمة وفي لالة بقفصة بسبب عودة تبادل العنف والتناحر بين أبناء الشعب الواحد..قتيل وجرحى في أحداث خلناها ولّت وانتهت..مداهمة السكان لبعضهم البعض ..عصي وحجارة وبنادق صيد ..من المسؤول وأية حلول؟ يوم رعب بباب الجزيرة وباب الجديد وسط العاصمة ، ومثله في منطقة لالة من ولاية قفصة، ومعارك دامية بين تونسيين أدت لإصابة كثيرين بجروح وإلى حالة وفاة بمنطقة لالة بواسطة طلق ناري ، مما اضطر قوات الامن للتدخل في المنطقتين قصد فرض الهدوء، وذلك عبر قنابل الغاز وحملات الايقاف وفرض حظر التجول والدعوة لغلق المحلات و ملازمة السكان البيوت ..وكأنها الحرب بين عدُويين.
قبل ذلك ، وعلى امتداد السنة المنقضية - سنة الثورة - عرفت عدة مناطق من البلاد أحداثا مماثلة لعل أبرزها تلك التي اندلعت أكثر من مرة في منطقة جبنيانة من ولاية صفاقس وأدت لمعارك دامية بين أبناء حيين سكنيين متقاربين من حيث المسافة والعلاقة الدموية .. كما عاش أهالي مدينة المتلوي من ولاية قفصة ذات مرة حالة من الفزع والذعر والهلع بسبب الاشتباكات الدامية بين عدد من سكان المنطقة .. الظاهرة لم تستثن أيضا خلال السنة المنقضية منطقة الجنوب الشرقي المعروفة تاريخيا بهدوئها حيث شهدت المنطقة ذات مرة مواجهات بين «عرشين» من ولايتي مدنينوتطاوين أفضت إلى اصابات بجروح بسبب استعمال العصي وبعض الآلات الحادة ..كما سبق أن أدت مواجهات بين طرفين من منطقتي ذهيبة ورمادة بولاية تطاوين نهاية السنة الماضية إلى وفاة شاب بطلق ناري ..وهذا دون أن ننسى ما جد في سبيطلة من ولاية القصرين والسند والمظيلة من ولاية قفصة.
عروشية ؟؟
في كل مرة تحصل فيها حوادث من هذا القبيل تكون «العروشية» أبرز متهم في وقت اعتقد فيه الجميع ان العروشية قد ولت بلا رجعة وتم القضاء عليها نهائيا منذ سنوات حكم بورقيبة و بن علي وان الثورة قد خلقت عرشا واحدا، هو عرش تونس . وهذا ما جعل عدة ملاحظين يقولون ان الامر أبعد من العروشية بكثير، وأن هذا التبرير (العروشية) هو مجرد ذر للرماد على الاعين . ويعتبرون أن السبب البعيد لما يحصل بين الحين والآخر هو مشكل تهميش الجهات بسبب التوزيع غير العادل للثروات ولفرص الشغل والعيش الكريم بينها، بدليل أن الظاهرة لم تُسجل إلا في مناطق داخلية تعاني من الفقر والخصاصة (الوسط الغربي والجنوب) وقلما تحصل في مناطق الشمال أو الساحل التي تنعم بظروف تنمية أفضل.
نفسية ..اجتماعية ..وبقايا
يرى علماء النفس والاجتماع أن ما يحصل بين الحين والآخرفي تونس بين أبناء الشعب الواحد هو نتاج عديد التراكمات النفسية والسوسيولوجية في ظل الغياب الكلّي لوسائل الترفيه والتثقيف ببعض المناطق وهو ما يُحدث لدى متساكني تلك المناطق لا سيما الشباب نوعا من الضغط النفسي والاجواء المشحونة والكبت والحرمان طوال الوقت ينضاف لها انعدام التأطير من أي حزب أو جمعية أو أي فضاء رياضي أو تثقيفي ...وحتى من السلطة نفسها.
كما يتهم آخرون بقايا ورموز الفساد بالجهات الداخلية خصوصا الذين أحسوا بامكانية سحب بساط النفوذ والقوة من تحت أقدامهم فقرروا اثارة الحساسيات والاجواء المشحونة حتى يحافظوا على مصالحهم وعلى نفوذهم معتمدين على قوة المال .
سلطة ..وقانون
على صعيد آخر يرى ملاحظون أنه خلال السنة التي تلت الثورة تراجع دور سلطة الدولة في ظل الانفلاتات الامنية المتكررة والتي قوبلت بشيء من المرونة من قبل السلطة. وهذا ما شجع كثيرين على التمادي في الخروج عن القانون عبر محاولة نيل الحقوق بالقوة وبواسطة القصاص الفردي من الغير بمناسبة الخلافات البسيطة دون المرور بالقضاء ، بما يجعلها تتطور أحيانا إلى تناحر ومعارك جماعية دامية تغذيها النعرات الجهوية أو القرابة الدموية ..
قبل أن تستفحل الظاهرة
ما حصل ويحصل اليوم في تونس من معارك وخصومات «جماعية» ظاهرة خطيرة بكل المقاييس على المجتمع وتتطلب حلولا جذرية لاستئصالها قبل أن يستفحل الأمر نحو الأسوأ . فخلال كل الاحداث التي جدت بمختلف المناطق، توصلت السلط الامنية إلى ايقاف عدد من المتورطين في أعمال العنف والشغب ومن المفروض أن يكونوا قد اعترفوا بحقائق عديدة حول من يقف وراء إثارة العنف والفوضى بتلك الطريقة. وهذا ما يستدعي وقفة حازمة لردع كل من يثبت تورطه في ما حصل.
وقبل ذلك يستدعي الامر حرصا جديا من السلطة قصد القضاء على كل اسباب التهميش والفقر بالجهات ولدى الفئات الاجتماعية المعنية أكثر من غيرها بنعرات العنف الجماعي خاصة في ظل وجود احساس جماعي بخيبة أمل بعد الثورة تولد عنه احتقان وضغوطات في أكثر من جهة.
وبالتوازي مع ذلك ، يعتبر الخبراء الاجتماعيين والنفسيين أن الامر يتطلب أيضا وقفة من مختلف مكونات المجتمع المدني لتأطير المواطنين وحثهم على تجنب العنف ودعوتهم لفض المشاكل التي تعترضهم بالطرق العقلانية والسلمية وبلغة الحوار.