من عناية ديننا الحنيف أن خص الخطبة المنبرية بأفضل يوم من أيام الأسبوع: قال النبي:«سيد الأيام يوم الجمعة وأعظمها عند الله تعالى». هذا زمانها؛ وأما مكانها ففي أقدس فضاء وأطهره في الأرض.
{في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار}(النور :36و37) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الأرض كلها بلاد الله واحب البلاد اليه مساجدها»(رواه البخاري ومسلم وابن ماجة). فهذه الجوامع والمساجد هي مدرسة المجتمع وملتقى أفراده ومنطلق الاعتقادات وساحة العبادات والطاعات والشريان الثري للطمأنينة وللخشوع للنفوس المؤمنة المسلمة، يروي الأمة بالخير واليسر والعلم والهدى والحكمة. ولا يمكن أبدا ان يحيد عن رسالته الأصلية منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ليتحول إلى مناورات وحسابات دنيوية ضيقة « وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله احدا» (الجن:18)
جذور الخطابة وأصولها
يجمع الدارسون لفن الخطابة وتاريخها أنّ لها ثلاثة أصول أساسية الإيجاد والتنسيق والتعبير: فالإيجاد هو اختيار المعاني والافكار الجديدة وحصرها لعرضها والاقناع بها. ومن أهم وسائل الإقناع: الأمثال السائرة التي يستعملها الخطيب فيكون لها الوقع المؤثر لما فيها من إيجاز اللفظ وحسن التعبير وإصابة المعنى وجمال الصور الأسلوبية وروعتها من تشبيه ومجاز وتورية وكناية وغيرها؛ ومن حسن استخدام الامثال الفصيحة والشعبية في الخطب وكذلك الحكم والأقوال المأثورة القديمة والحديثة لاكتساب الأدلة المقنعة خطابيا؛ ونذكر ما جاء في خطبة عبد الملك بن مروان لأهل المدينة:«إنّ مثل بنى مروان وقريش كمثل الاخوين والحية اذ قالت لأحدهما: «ان نفسك لا تطيب لي أبدا وأنت ترى قبر أخيك ونفسي لا تطيب لك أبدا وأنا أرى هذه الشجة. فنحن نعلم يا معشر قريش أنكم لا تحبوننا أبدا وأنتم تذكرون يوم الحرّة. ونحن لا نحبكم أبدا ونحن نذكر مقتل عثمان»(...) والتنسيق ترتيب المعاني التي يقصد عرضها وربط أجزائها في الخطبة وترتيبها ترتيبا منطقيا. فلا بد اذن من وحدة الموضوع في الخطبة بحيث يرتبط كل جزء منها بما قبله ويؤدى الى ما بعده.
والتعبير وهو الكلام الذى يبلغ به الخطيب ما في نفسه الى نفوس سامعيه بحيث يجب أن يراعَى في ذلك أحوالهم وما يناسبهم من تأنّق في القول أو بساطة ومن تصريح او تلميح وإيجاز أو إسهاب. كما يراعى الموضوع ذاته وما يناسبه من عبارات تليق بالمقام من جد أوهزل ومدح أوذم وإكبار أو إستنكار وينظر في حال نفسه من حداثة سن او كهولة. فيجرى كلامه ملائما لهذه الأحوال كلها.
فالأسلوب، إذن هو شخصية المتكلم أو طريقته الخاصة في تكوين أفكاره واختيار ألفاظه، وتأليف كلامه، وعرض قضاياه وحججه؛ كما أن فن الإلقاء يزيد الأسلوب الخطابي قيمة.
عناصرها
تتألف الخطبة عادة من ثلاثة عناصر وهي المقدمة، والعرض، والخاتمة.
فالمقدمة: ينبغي أن يكون الغرض منها جلب اهتمام السامعين وتشويقهم، لأنها ليست إلا مدخلا للموضوع الذي سيعرضه الخطيب.
لذلك يجب أن تكون موجزة ملائمة للخطبة، وأن تُصرَف العناية إلى تحسينها واستخدام أسباب البراعة فيها؛ إذ أنّ براعة الاستهلال من أخص أسباب النجاح في الخطبة. والعرض: هو الجزء الأساسي من الخطبة، إذ به يواجه الخطيب السامعين بما يريد أن يتحدث فيه إليهم، فينبغي أن يأخذ طريقة الترتيب المنطقي في عرض القضايا مع التدرج، وأن يكون من الوضوح بحيث لا يفوت على السامعين مزية الفهم والتّتبع. ومن عوامل نجاح الخطيب في العرض، أن يلتزم الصدق في قوله، وأن يتحلى بالأدب وحسن الخلق في مناقشة خصمه ويترفع عن السباب والإسفاف، معتمدا على الحجة والمنطق والإقناع، وقد يكون في إعراضه عن رأي الخصم وحججه ما يشعر باستهانته بها، وبأنها لا تستحق الوقوف عنها ولا الالتفات إليها، وهي طريقة سلبية في التّحدي.
والخاتمة: لها أهمية الخطبة، لأنها خلاصتها. وآخر ما يتردد صداه في الأسماع والأذهان.
ولقد دأب أكثر الخطباء في نهاية خطبهم على تلخيص ما سبق لهم أن الموا به، او على استخلاص فكرة عامة رئيسية بهذا كان من المفيد الا تتسع الخاتمة الى الجدل والنقاش، بل ينبغي ان تنفجر عنها الافكار والعواطف المدوية في ذهن السامع ووجدانه.
وسائل الابداع فيها: من وسائل التأثِير والإبداع في الخَطَابَة ألاّ يستخدم الخطيب كلمات كثر إستعمالها حتى تهلهلت، وأن يكون دقيقا في عباراته، وأن يحدد المعاني التي يريدها، وأن يجعل أسلوبه في الخطاب ملائما للجماعة التي يخاطبها، ولا يمنعه ذلك من أن يكون مجددا ومبدعا في عباراته وتشبيهاته ، متجنّبا حُوشِيَّ الكلام والتشبيهات الجامدة أو المبتذلة أو المجافية للذوق السليم، وأن يتلمّس الأعماق في المستمعين. وهنا لا بد للخطيب من ثقافة عامة تمده بالمادة في كل ما يتناوله، بالإضافة الى ما ينبغي أن يتوفر فيه من سداد الرأي، وصدق اللّهجة، وخدمة الحقيقة التي يؤمن بها، والإخلاص للمبادئ الخُلُقّيَةِ السّامية، مع دقة الملاحظة وحضور البديهة، وطلاقة اللسان ورباطة الجأش.