شارع بورقيبة أو شارع الحبيب بورقيبة، أو «لافيني» كما يسمه العديد من التونسيين، شارع لم يشغل السياسيين فحسب، بل كان دوما، ولا يزال، محور اهتمام وإلهام العديد من المبدعين، وحتى المؤرخين وعلماء الاجتماع.
ما هي حقيقة هذا الشارع، وما هي قيمته الرمزية، ولماذا يحظى بكل هذا الاهتمام والتركيز الى درجة حظره على المتظاهرين في المدّة الأخيرة والتراجع عن ذلك في وقت قياسي؟
أسئلة نطرحها في هذا الملف.
مباشرة إثر إعلان وزير الداخلية يوم 28 مارس 2012، منع المظاهرات في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس، تعالت أصوات المحتجين من المجتمع المدني بالخصوص مندّدة ومعترضة على هذا القرار، ليس لأنه مخالف للقانون فحسب وانما لاعتبارات أخرى اكثر أهمية كتعديه على الحريات العامة وحق التظاهر بالأساس، ومسّه من «قدسية» هذا المكان، وقيمته الرمزية من عهد الاستعمار الى غاية سقوط النظام السابق مرورا بعديد المحطات والأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعاقبت عليه.
شارع البحرية
ويعود تاريخ شارع بورقيبة حسب المؤرخين الى ما قبل الحماية الفرنسية سنة 1881 عندما كان اسمه شارع البحرية أو منتزه البحرية (Promenade de La marine)، وهو منتجع كان يمتد من باب بحر، الى دار فرنسا مقر السفارة الفرنسية حاليا. ويذكر المؤرّخون أن دار فرنسا كانت أوّل بناية تقام في الشارع الذي حمل فيما بعد، مع دخول الاستعمار الفرنسي الى تونس، عام 1881، اسم جول فيري، وهو نائب مجلس النواب الفرنسي، كان من أكثر المتحمسين لاستعمار تونس على عكس رئيس مجلس النواب الفرنسي انذاك «قمبيتا» الذي وصف تونس بكونها لا تساوي «سيجارا».
وبعد دخول الاستعمار الفرنسي الى تونس امتدت البنايات في الشارع مثل المغازة العامة والكاتدرائية وشركة الترامواي والمحلات التجارية والمقاهي والحانات والمسارح وقاعات السينما والكازينوهات وأروقة الفنون التشكيلية والصالونات وكان الشارع الى غاية 1956، تاريخ استقلال البلاد، يعكس الوجه العصري والغربي تحديدا للمدينة بأنشطته الثقافية والترفيهية والتجارية، حتى أنه كان عبارة عن جزء من فرنسا ولا يختلف عن شوارعها الكبرى، ومع استقلال البلاد تمت إزالة تمثال جول فيري، وتغيير اسم الشارع الى شارع الحبيب بورقيبة.
وفي 11 أكتوبر 1988، تمت كذلك ازالة تمثال الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة بعد الانقلاب عليه.
وشهد الشارع منذ اقامته في أواخر القرن التاسع عشر، أحداثا تاريخية وحوادث كبرى منها دخول الجيش الفرنسي الى باب بحر في 8 أفريل 1881، لاستعمار البلاد، ودخول الجيش الالماني لمطاردة اليهود في تونس خلال الحرب العالمية الثانية، ثم دخول الجيش البريطاني لتحرير العاصمة من النازيين.
كما شهد خلال فترة بورقيبة، احداثا أخرى كبرى منها، حوادث جوان 1967 التي تظاهر فيها التونسيون ضد اسرائيل خلال حرب الأيام الستة وقاموا بحرق أملاك ومتاجر اليهود التونسيين في شوارع العاصمة. كما شهد انتفاضة العمال أو ما عرف بالخميس الأسود في 26 جانفي 1978.
وفي 03 جانفي 1984 شهد الشارع كذلك ما عرف بأحداث انتفاضة الخبز.
شارع الثقافة
الى جانب هذه الأحداث او المحطات التاريخية التي ساهمت في نحت قيمة شارع بورقيبة الرمزية تعاقبت على المكان أحداث ثقافية كثيرة حولته الى شارع ثقافي معروف في العالم وذلك بفضل التظاهرات الثقافية التي شهدها على امتداد تاريخه من زمن الاستعمار الى اليوم. فقد كان شارع بورقيبة او شارع جول فيري زمن الاستعمار فضاء ثقافيا لتقديم العروض الفنية حتى أن الساحة المقابلة للكنيسة حيث ينتصب تمثال ابن خلدون كانت في أوائل القرن الماضي مسرحا لتقديم عروض الموسيقى الكلاسيكية للجاليات الفرنسية والايطالية والمالطية. كما شهد الشارع اقامة العديد من قاعات السينما وأروقة الفن التشكيلي والصالونات الادبية والمسارح لعل من أبرزها المسرح البلدي الذي كان يحمل اسم كازينو تونس وتم افتتاحه في 20 نوفمبر 1902.
ومن المعالم الثقافية الاخرى التي تم تشييدها بالشارع خلال فترة الاستعمار مركب الكوليزي الذي كان يضم الى جانب قاعة السينما صالونا أدبيا لعلية الفرنسيين آنذاك. وقد شهد هذا الفضاء عقب الاستقلال ميلاد مهرجان أيام قرطاج السينمائية، وهو أول مهرجان سينمائي عربي وافريقي.
كما شهد المسرح البلدي من جانبه مولد مهرجان أيام قرطاج المسرحية الذي يعد بدوره من أكبر وأعرق المهرجانات المسرحية في افريقيا والوطن العربي. وقد تحول الشارع بفضل هذين التظاهرتين الى واحد من أكبر الشوارع الثقافية في الوطن العربي زاده اشعاعا انتصاب العديد من المقاهي التي تحولت الى ما يشبه الصالونات الادبية التي يجتمع فيها الكتاب والمثقفون والمبدعون عموما مثل مقهى الزنوج «chez les nègres» ومقهى «لونيفار».
الكاتيدرال
ومن المعالم الأخرى التي ميزت ولا تزال شارع بورقيبة منذ عهد الاستعمار كاتيدرائية تونس أو كنيسة سان فانسان دي بول التي تم تشييدها في عام 1897. وأمام هذا المعلم الديني والتاريخي دعى الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الى إقامة تمثال للعلامة ابن خلدون الذي نحته الفنان زبير التركي. ويعد هذا التمثال اضافة الى تمييزه لشارع بورقيبة نقطة فاصلة في تاريخ تونس الثقافي والاجتماعي، اذ كانت مدينة تونس وشارعها بالأساس مدينة غربية أوروبية حتى أن نسبة التونسيين فيها عام 1926 لم تكن تتجاوز 45٪ مقابل 55٪ فرنسيين وإيطاليين ومالطيين ويهود. وكان عدد سكان المدينة وقتها في حدود 190 ألف ساكن منهم 90 ألف ايطالي.
وبدأت هذه الجاليات في الهجرة من تونس بعد الاستقلال مباشرة عقبتها هجرة اليهود بعد حرب 1967. ويذكر أن عدد اليهود الذين هاجروا وقتها على مرحلتين بلغ حوالي 100 ألف.
وبعد هجرة الفرنسيين والايطاليين واليهود، شهد شارع بورقيبة موجتي نزوح من الريفيين والبدو التونسيين، الأولى في نهاية الستينات والثانية خلال السبعينات، فتغيرت معهما ملامح الشارع الذي فقد الكثير من ملامحه الغربية والأوروبية.
كل هذه الأحداث والمحطات التاريخية والمعاليم الثقافية والحضارية نحتت قيمة شارع بورقيبة الرمزية، إذ هو يحمل في جدرانه وزواياه وفي كل بقعة منه، جزءا من تاريخ البلاد، خلافا للشوارع والأنهج الأخرى المتفرعة عنه، والتي فقدت بمرور الزمن ملامحها وحتى أسماءها. وزاد من رمزية هذا الشارع وقيمته، وحتى «قدسيته» خروج التونسيين بمختلف الفئات الاجتماعية والايديولوجيات في 14 جانفي 2011، لاسقاط النظام السابق. وقد تحول الشارع من يومها من مجرد مكان الى رمز يطمئن جميع مواطني العالم قبل التونسيين، بأن الحرية تبدأ وتنتهي من هذا المكان الذي تحول كذلك من واقعه المادي العادي الى رمز أسطوري بعد ما سالت فيه دماء الشهداء. ويعتبر شارع بورقيبة الآن من أشهر الساحات الاحتجاجية في العالم مثل ميدان التحرير في القاهرة و«تيان آن مين» في بيكين و«ينسيسلاش» في براغ و«أزداي» في طهران و«دي لاباستيل» في باريس و«يونيون سكوير» في نيويورك. وقد أصبح شارع بورقيبة بفضل الثورة التونسية رمزا تاريخيا ومكانا مهما للجذب السياحي.
شارع بورقيبة في الفن
ويستمد شارع بورقيبة قيمته الرمزية، إلى جانب كل الأحداث التي ذكرناها، من إبداعات الفنانين والكتاب والمؤرخين، حتى أنه ورد في أقدم الكتب واللوحات والصور التي يعود بعضها الى سنة 1850 لما كان أرضا قاحلة وسبخة لمصب الفضلات القادمة من المدينة العتيقة. ويذكر الكاتب الفرنسي «غاي دي موباسان» (1850 1893) الذي زار تونس في نهاية القرن التاسع عشر، كيف بدأ ردم الشارع بالحجارة بعد أن كان سبخة. كما تحدث عنه جول فيزي ذاته في مذكراته وذلك خلال مناقشته احتلال تونس في مجلس النواب الفرنسي. ولعل من أشهر الصور والمشاهد السينمائية القديمة عن شارع بورقيبة تلك التي التقطها ألبير شمامة شكلي في بداية القرن العشرين.
ومنذ إنشائه ظل الشارع مصدر إلهام العديد من المبدعين، سواء في بداية القرن الماضي حين كان اسمه شارع البحرية أو منتزه البحرية، أو بعد الاستقلال لما تحول اسمه الى شارع بورقيبة. فكتب عنه الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد وتناوله المخرجان محمد الزرن وابراهيم اللطيف في فيلمين (الأمير و7 شارع بورقيبة).