أكتب هذه البطاقة من سان خوسيه عاصمة كوستاريكا حيث أحلّ ضيفًا على مهرجانها للشعر العالميّ في دورته الحادية عشرة. ولهذه الرحلة من سمات المُغامرة ما يغري بالخوض في تفاصيلها بداية من تونس مرورًا بفرانكفورت ثمّ هيوستن في التكساس صعودًا إلى هذه البلاد الشبيهة بالرخّ الجاثم على جبل، والتي تختزل أمريكا اللاتينية بتنوّعها وثرائها وخصوصيّاتها وقدرتها على مزج الأسطورة بالواقع.
إلاّ أنّي أدع ذلك إلى مقام آخر، مكتفيًا هنا بعرضِ بعض الميزات التي خوّلت لهذا المهرجان أن يُصبح قدوة، والتي أرانا في حاجة إلى الانتباه إليها في هذه المرحلة من تاريخنا، كي لا نواصل الدوران في نفس المربّع الضيّق الخالي من الخيال، وكي لا نعيد إنتاج السمة الغالبة على مهرجاناتنا طيلة العقود الماضية والمتمثّلة (مع احترام الاستثناءات القليلة) في ما أسميته في نصّ سابق: «ثقافة تدبير العربون وتكبير الحضبة»!
يقوم المهرجان على نواة صلبة من الشعراء وأحبّاء الشعر من كلّ جيل ومجال يجمع بينهم عشق الإبداع والحرص باستقلالية كاملة عن المؤسّسات الرسميّة. قطب الرحى في هذه النواة الصلبة شاعر ذو قلب كبير وذو كاريزما واضحة وقدرة على تأليف القلوب هو نوربرتو ساليناس مدير بيت الشعر الذي يشرف على المهرجان.
حتى بيت الشعر يختلف في كوستاريكا عن بيوت الشعر في أغلب بلاد العالم، فهو يتّخذ شكل المؤسّسة (fondation) وليس تابعًا لوزارة الثقافة، ويعتمد على شبكة من العلاقات الداعمة التي تتحقّق من خلالها نسبةٌ من المصالحة بين رأس المال الرمزي ورأس المال الماديّ تمكّن البيت من النشاط بحريّة واستقلاليّة.
الاستقلاليّة هي التي منحت المهرجان مصداقيّته وجعلت الكثيرين يساهمون في تمويله وتنشيطه: جامعيّون يفتحون مدرّجاتهم للأمسيات والورشات وأحبّاء يتفرّغون بسيّاراتهم لنقل الشعراء والبعض يُسخّر مطعمه لإعاشة الضيوف والآخر يضع فندقه تحت تصرّفهم.
والمصداقيّة الناشئة عن الاستقلاليّة هي التي اضطرّت وزارة الثقافة إلى مساعدة المهرجان على الرغم من أنّها لا تتدخّل في مضمونه. العلاقة ليست دائمًا ورديّة فثمّة رغبة دائمة من السلطة في إملاء بعض الدعوات. لكنّ فريق المهرجان صامد رغم الصعوبات.
ليس المهرجان جسرًا للعبور إلى الكاشيه ولا يهتمّ بتكديس الضيوف كي يُقال إنّه مهرجان كبير.. إنّه يدعو من عشرة إلى 14 شاعرا من خارج كوستاريكا. ويوزّع مشاركاتهم إلى جانب الشعراء المحليّين على امتداد عشرة أيّام بين أماكن عديدة ومدن مختلفة بحيث يُتاح لكلّ ضيف أن يقرأ وأن يُسمع صوته. بعيدًا عن تلك العادة العجيبة التي اعتدناها: دعوة الضيوف بالجملة ثمّ هرسلتهم لتكثيف تدخّلاتهم بدعوى قصر الوقت!!
إلاّ أنّ الاختلاف لا يقتصر على هذا. المهرجان يدعو الشعراء من أنحاء العالم كي يستمع الكوستاريكيّون إلى أشعارهم ولكنه يدعوهم أيضًا كي يستمعوا إلى الكوستاريكيّين. لذلك تتعدّد الأمسيات وتتوزّع على أكثر الأماكن غرابة فإذا هي تنتقل من الجامعات والمسارح إلى المقاهي والغابات والمزارع والمستشفيات وحتى السجون.
هكذا يجسّ الشاعر الزائر نبض الجغرافيا والتاريخ والأسطورة ويعرف أسماء الاماكن والطيور والنباتات ويلتحم بالناس وكأنّه يعتصر شيئًا من رحيق كوستاريكا ليحملها من بعد في ذاكرته ومخيّلته فإذا هو يروّج لها ويزيدها تألّقًا ويقولها ويكتبها ويحلّق بها أعلى فأعلى.والمهرجان لا يكتفي بذلك.
إنّه يتعاون مع مختلف الجامعات الكوستاريكيّة وينتج كُتبًا كدت أقول من لحم ودم لولا أنّها من حبر وورق. كتاب خاصّ بكلّ ضيف، يتضمّن مختارات من أشعاره في حدود 70 صفحة مترجمةً إلى الإسبانيّة يتشكّل فريق لاختيارها بعناية ومراجعتها بدقّة وطباعتها بأناقة، لتبقى بعد المشافهة وتشهد وتحلم وتلد وتجدّد الفكر والذائقة. ولعلّي أجد صعوبة في وصف إحساسي حين استقبلني مدير المهرجان في المطار وفي يسراه وردة وفي يمناه كتاب من مختارات شعريّة لي بالإسبانيّة.
استطاع المهرجان بعد عشر دورات أن يطبع 150 مجموعة شعرية من مختلف لغات العالم منقولة إلى لغة المكان أي اللغة الإسبانية. 150 مجموعة شعريّة بما تعنيه من ضخّ للنسغ الشعريّ الحيّ في شرايين الشعر المحليّ. وهو ما ترك أثره في شباب الشعر الكوستاريكي الراهن الذي بدا متأهّبًا لضخّ الشعر العالميّ بالعديد من الأسماء الكبيرة.
وبعد فالحديث يطول والمقارنات تفرض نفسها وهي في أغلب الأحيان مقارنات في غير صالح مهرجاناتنا حتى الآن أو على الأقلّ في غير صالح أغلبها. وكم أتمنّى أن تفسح الجهات الرسميّة لمبدعينا المكان كي يطلقوا لخيالهم العنان لما فيه إشعاع ثقافتنا وبلادنا ككلّ.