من السجون والتعذيب والتضييقات والمنع من ممارسة العمل السياسي إلى كرسي السلطة... هكذا انتقلت حركة «النهضة» في غضون أشهر من موقع المستضعف إلى منطق من بيده السلطة والقرار، لكن هل يعني ذلك أنّ «النهضة» ودّعت عقدة «الضحيّة»؟. ما يقود إلى هذا التساؤل أنّ حركة النهضة التي تقود اليوم الائتلاف الحاكم «تشكو» ممّا تعتبره كيدا من خصومها لإرباك ادائها والتشويش على عملها والتآمر لإسقاط الحكومة التي تستأثر الحركة بالمناصب الكبرى والحسّاسة فيها. ومنذ انتخابات 23 أكتوبر 2011 وبروز ملامح السلطة الجديدة وبدء الحكومة المنبثقة عن المجلس التأسيسي المنتخب عملها تواجه «النهضة» تحدّيات كبيرة أهمّها إثبات قدرتها على الانتقال من وضع الحركة الممنوعة من ممارسة النشاط السياسي إلى الحركة التي تقود ائتلافا حاكما وتُعهد إليها مهمّة قيادة البلد في هذه المرحلة الحسّاسة وقيادة عملية الإصلاح التي ينبغي أن تشمل معظم القطاعات. ودفعت الحركة بعدد من قياداتها الكبرى من أمثال حمادي الجبالي وعلي العريّض ونور الدين البحيري وعبد اللطيف المكي ومنصف بن سالم وسمير ديلو وغيرهم إلى الواجهة بتوليهم مناصب وزارية رفيعة بعد سنوات طويلة قضّوها بين السجون والمنافي، وهو ما اعتبره البعض مغامرة غير محسوبة بما أنّ هذه القيادات لا عهد لها بالعمل السياسي وليست لها ما يكفي من مؤهّلات لإدارة شؤون البلاد. «مأزق» السلطة واعتبر مراقبون أنّه بالتحول من موقع المعارضة إلى إدارة السلطة، بدأت تبرز العديد من المصاعب وبدا وكأن الحكومة الحالية وعلى رأسها حركة النهضة تواجه مأزقا حقيقيا تظهره بكل وضوح نتائج استطلاعات الرأي. فمن حيث إدارة السلطة بدأت الحكومة وكأنها ضعيفة وأداؤها غير منسجم في عديد من الملفات ويبدو هذا واضحا مثلا في مسألة السياسة الخارجية حيث يعطي وزير الخارجية مواقف تعارضها أحيانا تصريحات وزراء آخرين من الائتلاف الثلاثي أو من رئاسة الجمهورية فضلا عن غياب الخطاب السياسي القوي الذي يذكر بقوة القانون وبقوة مؤسسات الدولة، كما برز خلال مواقف عديدة أن الخطاب الرسمي حزبي أكثر منه حكومي، حسب قراءة بعض المتابعين للشأن السياسي في تونس. ورأى البعض أن بوادر عدم التأقلم مع الانتقال من موقع المعارضة إلى موقع السلطة أصبحت بادية للعيان مما جعل أداء الحكومة مضطربا وغير ذي جدوى في الملفات الكبرى بالبلاد، وهو ما شجع تيارات كثيرة على إعادة الهيكلة والتنظّم ضمن جبهات أو ائتلافات حزبية جديدة تسعى إلى تقديم بدائل عن الائتلاف الحاكم الآن. وتعتبر هذه القوى السياسية المناهضة ل «النهضة» والترويكا الحاكمة أنّ الحكومة لا تقبل النقد وقد ضاق صدرها لأصوات معارضيها فسعت إلى إقصائهم أو اتهامهم بالتأمر عليها لإسقاطها، وهو ما تكرّر في خطاب أكثر من مسؤول حكومي ومن عضو في حركة «النهضة» خلال الأسابيع الماضية قبل أن تخفّ حدّة هذا الخطاب ويقتنع كلّ طرف – في السلطة وفي المعارضة – بدوره دون تخوين الطرف الآخر، وفق ما أكّده مراقبون. لكنّ ذلك لم يمنع من استمرار حالة التجاذب والاستقطاب والاتهامات المتبادلة خصوصا من الأطراف المعارضة التي تصف الحكومة بالفاشلة حتى بدا للبعض أنّ حركة «النهضة التي تقود الحكومة انتقلت من استهداف إلى استهداف، من ضحية لنظام استبدادي إلى ضحية معارضة لا ترحم ولا تثمّن ما يتحقّق من مكاسب ومن انتقال سلس نحو الديمقراطية وتكتفي بمعارضة كلّ إجراء تتّخذه الحكومة. مستهدفة لا ضحيّة واعتبر عضو المكتب التنفيذي لحركة «النهضة» عبد الحميد الجلاصي أنّ الحركة اليوم «ليست في موقف الضحية كما كانت في السابق إبان زمن الاستبداد بل هي في مرحلة قيادة البلاد، وفي موقف حركة ذات مرجعية إسلامية تقود ائتلافا حاكما ضمن مشهد سياسي تتعدّد فيه القوى التي لا تتفق مع هذه المرجعية، ونحن نتفهّم ذلك بسبب عدم الخروج من حالة الاستقطاب الإيديولوجي». وأضاف الجلاصي «نحن لا نشعر أننا في موقف الضحية بل نشعر أنّ بلادنا قد تكون ضحية الاستهداف الإيديولوجي وقد لبست «النهضة» لباس الحكم ولا بدّ أن تتأقلم مع هذا الوضع الجديد.» ورأى القيادي في الحركة العجمي الوريمي أنّ هذه الحكومة «مظلومة» لكنه أكّد أن انتقال «النهضة» من ضحية الاستبداد إلى ضحية خصومها المتحفّظين على أدائها أفضل من أن تنتقل من ضحية للاستبداد إلى ممارسة الاستبداد وهي ستعمل من أجل عدم الوصول إلى ذلك. وأشار الوريمي إلى أنّ قوى المعارضة على اختلاف توجهاتها تشهد حراكا إيجابيا، فهناك قوى تتجمّع وأخرى تتوحّد وأخرى تصحّح مساراتها، وعلى أية حال فإنّ الحكومة وإن لم تجد تفهّما من بعض المعارضين فهي تجد تفهّما من الرأي العام، ومن غيّروا مقاربتهم للأمور إنّما فعلوا ذلك نتيجة ما يقوم به الرأي العام».