من الخميس 3 ماي إلى الأحد 6 ماي حظيتُ بجرعات مكثّفة من الصّور والأحاسيس واللحظات المؤثّرة في سيدي بوزيدوقابس. ذهبت إلى سيدي بوزيد ملبّيًا دعوة الملتقى المغاربي، وذهبت إلى قابس مشاركًا في إحياء ذكرى صديقي الشاعر الفذّ بلقاسم اليعقوبيّ. وهنا وهناك رأيتُ ما يدعو إلى معانقة الأمل على الرغم من أسباب الألم، وهناك وهنا عشتُ من جديد لحظات فارقة، أكّدت لي مرّةً أخرى شغف هذه البلاد بالحياة من خلال شغفها بالإبداع، وقدرة الإبداع، وقدرة الثقافة بشكل عامّ على صنع المستحيل.
في سيدي بوزيد استقبلت المدينة ضيوفها بحفاوتها المعتادة وفتحت لهم صدرها كي ينصتوا إليها وكي تنصت إليهم بعيدًا عن الأقنعة بعيدًا عن المجاملات. ليست هذه المدينة مجرّد مكان بل هي رمز تاريخيّ مغروس في قلب التاريخ يشير إلى قدرة الشعوب على صنع الحريّة.
باح النهار بمشاغله وكشف الليل عن أضوائه وأمكن للعين أن تسمع وللأذن أن ترى المسافة الفاصلة بين الواقع والمنشود. بدا أهل سيدي بوزيد واعين بما حدث واعين بما يجب أن يحدث واعين أكثر بأنّ على الشعب أن يذهب بالشوط إلى آخره إذا أراد أن يحدث ما يجب أن يحدث.
وبين هذا وذاك صدح الشعر وتكلّم النقد ورفرفت أجنحة المحبّة ونجح ملتقى عامر بوعزّة للشعر المغاربي في تقديم دورة جديدة غنيّة بفعاليّاتها وبما شهدته من إقبال وبما حرصت على تأمينه من ضيوف نوعيّين من تونس ومن المغرب العربيّ ومن عدد من البلاد العربيّة.
في قابس جاء الشعراء من جميع جهات تونس وجاء بعضهم من فرنسا لإحياء ذكرى بلقاسم اليعقوبي. الشاعر الذي اغتيل في عزّ العطاء والذي حافظت جمعيّة أصدقائه على ذكراه على امتداد السنوات متحدّيةً كلّ المخاطر والمحاذير.
بلقاسم اليعقوبي الذي أصبح رمزًا من رموز الوطن، بل رمزًا من رموز الشعر الجميل والمناضل في العالم كلّه. والذي أحسب أن روحه رقصت في تلك الأمسية، في حضور بناته وإخوته وأصدقائه وعلى إيقاعات البحث الموسيقي والشراع.
وأحسب أنّ روحه الجميلة لم تغب عن لحظة من تلك اللحظات الحميمة، ولعلّها حلّقت في سماء قابس بعد سماء دوز في انتظار تظاهرة تونس العاصمة في 13 ماي، مثل راية وطنيّة من شعر ورسم ومسرح وسينما وأغنية، داعية الجميع إلى ثقافة وطنيّة حرّة مُحرّرة. هنا وهناك ثبت لي مرّة أخرى أنّ الثقافة هي الحلّ.
استطاعت التظاهرتان الثقافيّتان في سيدي بوزيد وفي قابس أن تقدّما للسياسيّين نموذجًا ناجحًا لعمق النظر في تحديد الأولويّات، بحيث يتمّ تغليب ما يبني على ما يهدم وما يجمع على ما يفرّق وما يدفع إلى الأمام على ما يجذب إلى الخلف.
نجحت التظاهرتان في سيدي بوزيد وفي قابس، شأنهما في ذلك شأن العديد من التظاهرات الثقافيّة المُنجَزة والقادمة، في تقديم أفضل ردّ على كلّ ما يستهدف الفكر والفنّ والثقافة والإبداع والوطن والمواطن بوجه عامّ من محاولات الترويض والترويع والتهميش والإلجام والإقصاء. هنا وهناك رأيتُ الأوجاع تنتظر مسرّات طال انتظارها.
لكنّي رأيتُ أيضًا إصرارًا على بناء الفرح وتحقيق الانتصار. بما أكّد لي مرّةً أخرى إن كنتُ في حاجةٍ إلى تأكيد، أنْ ليس من ثورة حقيقيّة دون تراكُم ثقافيّ يمهّد لها ويحافظ على شعلتها ويؤسّسها على أرض صلبة، وليس من ثورة حقيقيّة دون تراكُم ثقافيّ يعبّر عنها ويزرع قِيَمها في العقل والوجدان ومن ثمّ في الممارسة والواقع.