إن من أكبر المصائب التي ابتلي بها العرب والمسلمون عبر تاريخهم وفتكت بهم وأطاحت برايات مجدهم وشتتهم إلى دويلات ضعيفة الاختلاف والتفرق اللذين أديا إلى التناحر والتقاتل كل حزب بما لديهم فرحون.
وقد حذّر القرآن الكريم مرارا وتكرارا وفي عديد الآيات من التنازع والتشتت مثل قوله تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)(الأنفال:46)وقوله (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(الأنعام:153). كما أن النبي حذّر من التباغض والتحاسد ومن كل ما يفرّق المسلمين (لا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ).
إن الاتحاد هو أحد عوامل قوة الأمة تنال به مجدها وتصل به إلى مبتغاها وتعيش حياة آمنة مطمئنة وتكون أمّة مرهوبة الجانب مهيبة عزيزة بين الأمم فكل مقاصد الشريعة السمحة تأمر المسلمين بالأخذ بكل ما يزيد المحبة بينهم والنهي عن كل ما يولد البغضاء في صفوفهم وتأمرهم صراحة بأن يكونوا إخوة ولا يمكن للمسلمين أن يكونوا إخوة إلا إذا كانوا متحدين فإن الأخوة ضد الفرقة والاختلاف.
إن التاريخ عبر ودروس ومن يقلب صفحات التاريخ يقف على حقيقة لا يختلف فيها إثنان وهي أنّ من أهم أسباب سقوط الدول على اختلاف عقائدها ومللها التفرق والاختلاف والتناحر حيث سقطت الخلافة العباسية بعد أن تفرقت إلى دول في ذلك الوقت فنشأت الدولة البويهية ودولة المماليك ودويلات الشام ولم تبق للخلافة العباسية إلا بقع متفرقة متناثرة من العالم الإسلامي فلما زحف المغول إلى بغداد لم يقف في وجه زحفهم غير أهل بغداد فقط فأعملوا فيهم القتل حتى قتلوا أكثر من ثمانمائة ألف نسمة كما قال غير واحد من المؤرخين، كما سقطت الدولة الإسلامية في الأندلس بعد أن أصبحت دويلات متفرقة متناحرة لا همّ لأحدهم سوى التلقب بألقاب المَلك والسلطان وصاحب الجلالة حتى ولو كان على بقعة لا تجاوز مساحتها زريبة خرفان كذلك لم تسقط الدولة العثمانية إلا بعد أن تمزق جسدها إلى أشلاءَ متناثرة وبعد أن نجح الأعداء في بثّ الفتن والتحريض على التقاتل بين أبناء الأمة الواحدة والوطن الواحد عملا بقاعدة : (فرِّق تسُد) وهاهو العالم الإسلامي اليوم منقسم إلى دويلات متناحرة تعيش على هامش التاريخ وتتجرع ألوان الذل والهوان تنتهك أراضيهم وأوطانهم وتنهب ثرواتهم وخيراتهم ويعانون من التخلف والتبعية لغيرهم.
نحن في تونس وبعد مرور أكثر من عام على الثورة التي قامت ضد الظلم والاستبداد في ظرف أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة وجمع الكلمة واجتناب التنازع والخلاف خاصة وبلادنا تمرّ بمرحلة انتقالية حرجة ودقيقة.
إن الاختلافات لا يجوز أن تؤدّي إلى صراعات لأن هذه الصراعات لا تحلّ المشاكل بل تزيدها تعقيدًا إنها فتنة جَهْلاء وضلالة عَمْياء لا يستفيد منها إلا الأعداء وكل من له مصلحة في إجهاض الثورة ومن الخطإ وليس من المصلحة أن يوجّه كلٌّ واحد أصابع الاتهام نحو الآخر فحذار ثم حذار أن تؤدي الاختلافات الحزبية والإيديولوجية والفقهية والمصالح الضيقة لبعض الأطراف إلى الصراع وزرع الحقد بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد والتاريخ الواحد واللسان الواحد وحذار من إيقاظ نعرة العروشية والجهوية بين التونسيين لخدمة مخططات مشبوهة لا تريد الخير لهذه البلاد لأنه من المحزن جدا أن تتطور بعض المشاكل البسيطة كنزاع حول قطعة أرض إلى صراعات دموية يحمل فيها التونسيون العصي والهراوات وحتى الأسلحة النارية في وجوه بعضهم البعض ويتقاتلون وتسقط بعض الأرواح البشرية البريئة من هذا ومن ذاك كما حدث في بعض المناطق الداخلية فالفتنة نائمة لعن الله من أيقظها وحذار من الانجرار وراءها. فالحوار الهادئ هو السبيل الوحيد لحلّ المشاكل ورفع المظالم وتجنيب البلاد الفتن وبالمحبة تزال الشحناء والبغضاء من القلوب وتزكو النفوس وتبنى البلاد عزيزة مكرّمة وترسو سفينة تونس على الشاطئ بأمن وسلام.