لعلّ البحث في موضوع «التجريب» في القصة القصيرة سواء العربية أو العراقية بشكل خاص موضوع يحتاج الى مراجعة كمّ كبير من النصوص التي أثرت المدونة القصصية في ستينات القرن الماضي والبحث عن ملامح «التجريب» فيها علما أن لا أحد استعمل هذا المصطلح «التجريب» في الكتابة النقدية أو حتى في ما يدلي به القصّاصون من حوارات أو ما يقدمونه من شهادات. وقد ذكر الشاعر سامي مهدي في كتابه «الموجة الصاخبة» مفردات مصطلحية أخرى مثل «التجديد» وأشار الى أن محدثكم أول من استعملها في إحدى افتتاحيات صفحة «أدب وأدباء» بجريدة الأنباء الجديدة عام 1964 وكم كنت أتمنى لو أن الأخ حسين عيال عبد علي مؤلف الكتاب الذي بين أيدينا قد اطلع على الشهادة التي كتبناها حول تجربة كتابة مجموعتنا القصصية البكر «السيف والسفينة» (1966) لأنها حملت مفاتيح «التجريب» الأولى باعتبار المجموعة موضوع الشهادة أول مجموعة تصدر لكاتب من جيل الستينات لأنني لم أجد هذه الشهادة بين مراجعه في الكتاب ولعل المؤلف معذور إذ أن الشهادة قدمت ونشرت خارج العراق. لكن بعضنا وأعني كتاب قصة الستينات كان يتحدث عن «التجربة» باعتبار كل قصة تجربة في الكتابة، وهذه التجربة تنخرط في عملية «التجريب» التي لا بدّ للكاتب منها حتى يقدم ما أردناه من الكتابة (الاضافة) ثم (التجاوز).
ونرانا نلتقي معه، أو يلتقي هو معنا عندما يقول (وقد تبلورت نتيجة هذا البحث نحو الكمال تجربة قصصية شكلت تيارا مؤثرا أبرز سماته رفض الإرث القصصي السابق، والتوغل في التجريب الفني في كتابة القصة القصيرة، وكانت أبعاد ذلك التجريب تدخل مختبرات اللغة في أطر الأقنعة والحلم والأسطورة والشعر والتقطيع مضافا إليها هموم الدراسة في الوجود الانساني الذي يشدّه توق هائل للتجربة في أجواء اتّسمت بالقهر السياسي).
علما أنه قد أفاد في استنتاجه هذا من رأي للناقد العراقي سليمان البكري ورد في استفتاء عن الرواية نشرته مجلة «الأقلام» عام 1993 (بغداد). نودّ أن نضيف هنا أن مصطلح «التجريب» قد شاع بعد ذلك رغم تحفظ عدد من النقاد الماركسيين عليه والذين ظلوا يبشرون بالواقعية الاشتراكية ويرون التفوق في النصوص التي تنتمي إليها، ولكن الجيل التالي من النقاد الذين ظهروا في السبعينات والثمانينات آمنوا ب«التجريب» واشتغلوا على تفكيكه وقراءته مثل عباس عبد جاسم الذي كتب عن التجريب في الرواية عام 1992. وأشير كذلك الى الملف الممتاز الذي أصدرته مجلة «الأقلام» في الثمانينات يوم كان يشرف عليها الصديقان د. علي جعفر العلاق وحاتم الصكر.
وتمنيت كذلك لو أن المؤلف قد بحث عن كتاب الأديب التونسي عز الدين المدني الذي كان من بواكير المؤلفات العربية حول التجريب في الأدب لأن المصطلح قد امتدّ في السنوات الأخيرة فصرنا نقرأ عن المسرح التجريبي والسينما التجريبية والرواية التجريبية، لأن هذا «التجريب» وحده القادر على فتح مئات النوافذ لتجديد الابداع. كما أن هناك عناية عراقية بترجمة بعض المقالات والمؤلفات التي عنت بالتجريب وقد توقف عندها المؤلف ومنها «طبيعة الأدب التجريبي» الذي نشرته مجلة «الثقافة الأجنبية» عام 1987 (بغداد).
ومن الكتب المبكرة ذات العلاقة بالتجريب كتاب «أدب الفانتازيا» الذي ترجمه صبار سعدون السعدون ونشرته دار المأمون ببغداد عام 1989. فالفانتازيا كانت من اشتغالات بعض القصاصين العراقيين الذين أدخلوها في مختبراتهم، ومازالت تلحّ على البعض منهم حتى في تجاربهم الجديدة التي كتبوها في الألفية الثالثة (قصتنا رأس عوج ابن عنق المفقود) مجلة «نزوى» (عمان) عام 2012.
وبقدر ما انتبه المؤلف الى تجارب ربما لم تنل حظها من النقد أمثال المرحوم سالم العزاوي فإنه انتبه كذلك الى تجارب كانت واعدة جدا مثل تجارب سعد البزاز الذي غادر الكتابة القصصية الى الاعلام المرئي والمكتوب.
لا بدّ أن نشير هنا الى تجربة عالية ممدوح التي رافقتنا منذ مطلع الستينات من خلال مجلة «المعارف» اللبنانية وبعد ذلك في ما نشرته من أقاصيص قصيرة وروايات إذ أن المؤلف لم يشر إليها، ولم يشر كذلك الى تجربة سهيلة داود سلمان صاحبة «انتفاضة قلب» التي صدرت في الستينات، كما لم يتوقف عند أعمال بثينة الناصري. ولكن مع كل هذا فإن هذا الكتاب تجربة مؤسسة تستكمل مشروع قراءة القصة القصيرة في العراق ونأمل أن يستكمله ناقد آخر.
وهنا نستعرض عناوين فصول الكتاب فهي تقدم صورة وافية عن مسار هذا البحث: 1 الفصل الأول (التجريب في الموضوع) وفيه ثلاثة مباحث هي: البحث عن الغائب/ التداخل النصّي/ الاغتراب. 2 الفصل الثاني (التجريب في التقنية) ويضم خمسة مباحث هي: الشعرية/ الفانتازيا/ التغريب/ الترميز/ الرؤيا. 3 الفصل الثالث (التجريب في السرد) ويضم ثلاثة مباحث هي: السرد وبناء الزمان/ السرد وبناء المكان/ السرد وبناء الرؤى. كتاب مفيد ومهم فيه حثّ على مواصلة مراجعة موضوعة التجريب في الكتابة العراقية. جاء الكتاب في 296 صفحة من القطع الكبير منشورات دار الشؤون الثقافية العامة (بغداد) 2012.