بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    أبو عبيدة يتحدّى بالصورة والصوت    حركة النهضة تصدر بيان هام..    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    وزارة الداخلية تشرع في استغلال مقر جديد متطور للأرشيف    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    القبض على 24 منفّذ "براكاج" بالأسلحة البيضاء روّعوا أهالي هذه المنطقة    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    السجن ضد هذه الإعلامية العربية بتهمة "التحريض على الفجور"    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    تونس تحتل المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    كاردوزو: سنبذل قصارى جهدنا من أجل بلوغ النهائي القاري ومواصلة إسعاد جماهيرنا    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    وفد "مولودية بوسالم" يعود إلى تونس .. ووزير الشباب والرياضة يكرم الفريق    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    جندوبة: 32 مدرسة تشارك في التصفيات الجهوية لمسابقة تحدي القراءة العربي    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    روح الجنوب: إلى الذين لم يبق لهم من عروبتهم سوى عمائمهم والعباءات    لعبة الإبداع والإبتكار في رواية (العاهر)/ج2    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ بمنزل بورقيبة: هذا ما تقرر في حق الموقوفين..#خبر_عاجل    المهدية : غرق مركب صيد على متنه بحّارة...و الحرس يصدر بلاغا    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    خدمة الدين تزيد ب 3.5 مليارات دينار.. موارد القطاع الخارجي تسعف المالية العمومية    عاجل : دائرة الاتّهام في قضايا الفساد المالي ترفض الافراج عن وليد جلاد    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    كأس ايطاليا: أتلانتا يتغلب على فيورينتينا ويضرب موعدا مع جوفنتوس في النهائي    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    الترجي يطالب إدارة صن داونز بالترفيع في عدد التذاكر المخصصة لجماهيره    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب..ما القصة..؟    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    وزارة الصناعة تكشف عن كلفة انجاز مشروع الربط الكهربائي مع ايطاليا    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقاه عبد الجليل المسعودي وخالد الحداد : حمادي بن جاء بالله ل «الشروق» - حتى لا يصبح الدواء أمرّ من الدّاء


المنتدى

فضاء جديد تفتحه «الشروق» للتواصل مع قرائها بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكادميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر، تبتعد عن ذلك إلى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة إثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي 2011.

إنّه فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا إلى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الإعلاميّة اليوم، إنّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و«صراع النخب» و«جدل المفكرين» و«تباين قراءات الجامعيين والأكادميين» من مختلف الاختصاصات ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والإنسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.

أصوات كثيرة سمعناها خلال الثورة ولا سيما الأصوات الحقوقية ولم نسمعك ولم نقرأ لك، كيف تفسر هذا الغياب؟، وهل من تفسير عام لسيطرة الخطاب القانوني خلال الثورة على بقية أصوات المثقفين عامة ؟

ليس الخطاب القانوني وحده هو الذي سيطر، كان الى جانبه حتى اليوم بالأساس الخطاب اللاهوتي والديني وحتى المحسوب على علم الاجتماع. وقد لا تكون كلمة «غياب في ملاءمة لما حصل بالفعل. فقد كانت لي على تواضعها مداخلات عديدة ولكني لم «أسوق» لها فليس من عادتي الإشهار فضلا عن أن الوطنية الصادقة تعمل في صمت.. والاهم من ذلك انه كان «لا بد للمكبوت من فيضان» وقد اتاح الشعب لنفسه فرصة تصريف المكبوت.

وكان لابد من الإصغاء إلى صوت الشعب وهو يعبر عن آلامه وأحلامه. والإصغاء يقتضي ضربا من الصمت يلزم به التأمل العقلي في الظواهر عامة والحركات الاجتماعية خاصة طمعا في فهمها واستعدادا لإعانتها على ان تتبلور وفقا لحقيقة ما تعبر عنه، أما سيطرة الصوت القانوني على بقية الأصوات فهو عائد في تقديري إلى شوق التونسي إلى قيام دولة القانون والمؤسسات بالحقيقة لا بالاسم فضلا عن تطوع القانونيين التلقائي إلى تلبية هذا الشوق الملح وتمكنهم من آليات الاستجابة لذلك وهو أمر يحمد لهم.

ما هو في رأيك التوصيف الصحيح لما حدث في تونس في رأيكم منذ 14 جانفي 2011؟

الحدث التونسي ثورة بحق، وليس من وجاهة لأي ضرب من ضروب التشكيك فيها. وان كان من الحزم ألا نتغاضى عن محاولات الإجهاض وقد بدأت منذ الأيام الأولى لاندلاع الثورة، وهي اليوم أعتى من الأمس واظهر من أن تخفى بل أن الدولة التونسية ذاتها أصبحت اليوم في خطر.

ثورة؟ أي معنى عندك لهذه الكلمة«الثورة« ؟

ليس من فعل نظري يستحق ان يسمى ثورة اذا لم تكن الحقيقة مقصده وليس من فعل عملي جديرا بان يسمى ثورة إلا اذا طلب الحرية لا أكثر ولا اقل، لأنه ليس فوق الحرية فوق ولا تحت الحرية تحت ولا بعد الحرية بعد. وليس من قيمة باقية اذا ذهبت الحرية مفهوما وقيمة «مثلا أعلى ومعيشا يوميا» على ما يلزم به ذلك من التدرج والمعاناة والصبر. والحرية واحدة وان تعددت ابعادها وتراتبت شروطها. فهي فكرية وعقدية وسياسية واجتماعية، من حيث الابعاد «وهي الشغل والعدالة والتربية والأمن من حيث الشروط.

وليس يمكن فصل ابعاد الحرية عن شروطها، والا تحولت الى مجرد وجود اسمي لا يغني من جوع ولا يأمن من خوف. ذلك ما هتفت به الاف الحناجر ونادى به طوفان من الجماهير نداء الدماء والدموع: «شغل، حرية. كرامة وطنية». وهل اصدق تعبيرا عن مطالب الثورة التونسية وعن خصوصياتها من ذلك الشعار الرائع؟ هو شعار اندلاع الثورة وهو شعار يومها وهو شعار غدها. وقد اتيحت لي الفرصة للتعبير عن هذا الرأي في محاضرة القيتها بالمنستير في ملتقى فكري نظمه صحافيون من اجهزة اعلامية تونسية ومصرية وقطرية وخصصوه لتدارس العلاقة بين «الصحافي« و«السياسي« وكان ذلك –على ما اذكر في الاشهر الاولى من سنة 2011.

ما علاقة استاذ الفلسفة بالجامعة بالصحافة حتى تدعى لمنبر كهذا؟

ربما لاسباب ثلاثة متظافرة. 1)حسن ظن كريم بشخصي المتواضع اشكر عليه من تفضل من الصحافيين بدعوتي للمشاركة في ملتقاهم الفني -2) لا تنس اني بدأت حياتي المهنية ولما ازل طالبا صحافيا بالإذاعة والتلفزة الوطنية ولا زلت احتفظ ببطاقتي المهنية وفي الرائد الرسمي التونسي ما يشهد لذلك . 3) والاهم من هذا وذاك ان مقاربة الحدث الاجتماعي السياسي تتطلب تجاوز مجرد الاعلام به للنفاذ الى العلم به وعندها تنتفي الحواجز بين مختلف افنان المعرفة الانسانية أي بين الصحافي والاجتماعي والانطربولوجي والتاريخي والنفسي الخ.. بل ان الامر يدعو عندها الى تأليف رصين بين هذه الافنان المعرفية لتتبلور من خلالها «رؤية» تعين على تدبر «الحدث» تدبرا عقليا يتيح امكانية الفهم الصحيح والفعل المجدي.

لماذا قلت ان محاولات اجهاض الثورة بدأت منذ اندلاعها؟

منذ الأيام الأولى للثورة المطالبة بالشغل والحرية والكرامة الوطنية بدأت تتعالى أصوات تطرح مسائل هامشية أو وهمية مثل الهوية والاسلمة والنقاب والحجاب الخ. . وطبيعي ان ينتهي التنظير الفاسد الى مثاني فاسدة مثل العلمانيين «المؤمنين والمسلمين/الحداثيين أو المستغربين/ الاصيليين أو الشريعة/ القانون الوضعي والديمقراطية/ الخلافة» الخ... وباختصار مثنى «الطيبون» و«الاشرار» تماما كما في مسلسلات الذراري. وطبيعي ان يفضي ترديد تلك المثاني وتزايد الصياح صباح مساء لا سيما بتوسط وسائل اعلام اجنبية عاتية أوتيت من قوة المال على قدر ما فقدت من رصانة الحكمة الى التهديد السافر بانشطار المجتمع وانتشار ثقافة الحقد واستشراء همجية «التدافع الاجتماعي».

وقد كانت النتيجة العملية ان ظهر بيننا رهط لا عهد لتونس بهم تدفع بهم ايديولوجيا التمايز تلك وحب التفرد تذكي نارهما وعود بانبلاج اصباح الجنان، الى حد العبث ببيوت الله وانتهاك حرمة مؤسسات الدولة وفي مقدمتها الجامعة والإعلام فضلا عن التنكر لمكاسب الوطن. . وبذلك وقع الانتقال بالفعل الثوري من درجات مطلب «الشغل والحرية والكرامة الوطنية» الى دركات تفاهات هي من ادبيات الكنيسة الكاتوليكية يوم كانت تواجه الثورة الفرنسية. وهي ادبيات ياخذها القائلون بها مأخذ النظريات المبتكرة المستطرفة، يتعبقرون بها.

لعلك تشير الى منظري «الاسلام السياسي. ولكن لم افهم ما علاقة ما يسمى عندنا «الاسلام السياسي» أو كما يقول البعض «الايديولوجيا الاسلاموية» بالكنيسة الكاتوليكية؟
من ابرز مظاهر الزيف في ادبيات «الاخوان» و«الدعاة« ومنظري تعميق التخلف ان «الايديولوجيا الاسلاموية» تقدم نفسها- لمن شاء سماعها وتطوع لنشرها - على انها التعبير الاصيل عن «ضمير الامة» في مقابل «المستورد الايديولوجي الحداثي» أو «التغريبي». والحق ان مضمون الاديولوجيا الاسلاموية مضمون كنسي صاغه البابا ليون الثالث عشر خاصة، وذلك في القرن التاسع عشر في مجرى «الثورة المضادة» الصريحة المنادية وقتها باستعادة «الحلف المقدس بين الملك والكنيسة» بعد ان أطاحت الثورة الفرنسية بهما معا.

ما هو في إيجاز مضمون الموقف البابوي حتى نفهم وجوه الشبه بينه وبين الإسلام السياسي ؟

يمكن تلخيص هذا الموقف في مقالات أساسية ثلاث هن في الوقت نفسه أم الايديولوجيا الاسلاموية بجميع ضروبها:ان الحداثة نكوص ثلاثي الأركان: نكوص الى القيصرية والى الوثنية والى الرذيلة

–أ/فهي نكوص الى القيصرية اي الى الحكم المدني الروماني في مقابل الحاكمية الالهية التي تجسمها الملكية المطلقة المؤسسة على المباركة البابوية. تلك كانت المقالة الاساسية التي سخر لها ابو الاعلى المودودي حياته في الباكستان. ونقلها عنه قطب في مصر ورددها الاتباع لاحقا ونشروها مرددين في تأثيم لا ينتهي ان اوضاع المسلمين من جميع وجوهها جاهلية جديدة. وهل ثمة ايديولوجيا دينية لا تستند الى التأثيم والتخويف والتسويف ؟

ب/والحداثة عند البابا والكنيسة عود الى الوثنية في شكل عقلانية الانوار عامة والعقلانية الديكارتية خاصة في مقابل الايمان الديني أو في مقابل واجب غلبة الايمان الكنسي نظرا وعملا على جميع ضروب الانتاج الفكري وجميع اوجه الحياة الانسانية، الفردي منها والجماعي. وهو ما يسمى في ابيات الكنيسة «تمسيح« الحياة برمتها بما في ذلك «تمسيح المعرفة« و«تمسيح الفن« و«تمسيح العلم» الخ... وقد ورثت جماعات تعيش بيننا هذا الاشكال المسيحي وصرفت فيه اموال طائلة ارتزق منها الكثير بتعلة نشر الايمان او تعميقه بتحقيق «اسلمة المعرفة» و«اسلمة العلم» إلخ. والإيمان هنا ليس ما تطمئن به القلوب اذ تذكر الله فهو علاقة حميمة بين الانسان وخالقه، بل هو يتجلى في الولاء للكنيسة عندهم وولاء للمرشد الديني شخصا ومنهجا عند الاسلامويين.

ومن هذا المنطلق حاربت الكنيسة مثلا اخلاق الحرية والواجب عند كانط معتبرة ان «الاستقلال الذاتي» بدعة «تهدد الكنيسة بالاندثار لذلك كان منطق «الجماعة« يمحو منطق «الانا» أو الذات الحرة. وتبعا لذلك جرمت الكنيسة تقريبا جميع الانتاج الفكري الحديث من ديكارت حتى كانط مرورا بغاليلي وروسو وفولتير وبودلير الخ. . وفي مقابل ذلك نصبت الكنيسة وصيا على العقول هو القديس توماس الاكويني ألدّ خصوم ابن رشد.

استدعته من ثنايا التاريخ المنسي وجعلت منه مرجعا فكريا اساسيا وربما وحيدا للفكر الفلسفي المسيحي. وقد عاينت اثار ذلك واضحة عند البعض من عناصر الجامعة الكندية خاصة. اما عندنا نحن فمفكرو العصر الحديث لا نكاد نسمع بهم وبالتالي فلا داعي لمنع انتشارهم فضلا عن ان من أفاء الله عليه ريعا، صرف جهده الى تنصيب ابن تيمية او الغزالي او السيد قطب الخ. . مرجعا فكريا لمواجهة متطلبات العصر الحديث في مقابل ما يسمونه «الفكر المستورد» أو الفكر الغربي «باعتبار فكرا» ماديا «متفسخا« الخ.

..والغريب أنه في الوقت الذي تتسع فيه بالمملكة العربية السعودية الشقيقة دائرة المطالبة بالتخلص من الفقه الوهابي او على الاقل التلطيف منه بما يسمح للمرأة مثلا بأدنى الوجود الاجتماعي، نرى عندنا من تفطن وكأن رحمة ربي غاصت عليه غوصا الى ما في هذا الفقه البدوي الساذج من«فلسفة نورانية» واعدة بإحداث نهضة عربية جديدة وربما بتغيير العالم.. ولله في خلقه شؤون..

وفي هذا السياق الكنسي اعتبرت العلمانية كفرا وإلحادا عند الكنسيين وسار الاسلامويون على خطاهم واحتذوهم «حذو النعل بالنعل« لا سيما وان للمقالة صداها عند بعض الشرائح الاجتماعية. الكنيسة غيرت موقفها من «العلمانية» في «فاتكان 2» 1962/1965 وفتحت الباب على مصراعيه لحوار الاديان، اما عندنا نحن فالموجة لم تصل بعد الى هذا الشاطئ وان كانت واصلة لا محالة .

أما مقالة الرذيلة او الانحطاط الاخلاقي فتعبر عنها الادبيات الكنسية كما هو الشأن عند «الاسلامويين» شعارات مثل «عري المرأة» و«تبرج الانثى» «واختلاطها بالذكور بحكم خروجها الى العمل تقود السيارة» و«تسافر حتى سوسة بمردها». . حتى يخيل اليك احيانا انه على المرأةا ن تعتذر لهؤلاء عن مجرد وجودها كانسان فضلا عن أن تتجاسر على المطالبة بما هي اهل له من المكانة المشرفة تحت شمس الله المشرقة.


وباختصار فان مقاومة الديمقراطية باسم الحق الالهي أو الشرع الالهي، ومقاومة العقلانية باسم الايمان الديني ومقاومة التحرر الاجتماعي باسم المحافظة على الاخلاق الحميدة هي باختصار شديد عصارة الفكر الكنسي الكاتوليكي في مواجهة قيم الحداثة عامة ومطالب الثورة الفرنسية خاصة. وتلك هي في الوقت ذاته مضامين الفكر الاسلاموي من باكستان حتى مصر مع الاخذ في الاعتبار لاستقامة الفهم مظاهر يتطلبها لزوم ما يلزم من التقية حينا ومن المرحلية«التكتيكية» او المزايدة السياسوية حينا اخر حتى انه يخيل اليك أحيانا ان بعض الاسلامويين يذهب في التحديث والعقلانية والانتصار للحرية الفكرية والعقدية أكثر من خصومه حتى اذا جد الجد رجع بك من حيث لا يحتسب الى الجاهلية الاولى على ما يشهد به القول «بمكرمة ختن البنات» أو «مفاخذة الرضيعة».
ان الفكر «الاسلاموي» فكر مسيحي لا يعي غربته الموضوعية عن ديار الاسلام وعن الاسلام نفسه.

كيف تفسر اذا انتشاره في اوساط اجتماعية واسعة ؟

تفاسير كثيرة ممكنة ومن مهام علم الاجتماع في تونس ان يعنى بمثل هذه الظواهر ولا ريب عندي انه سيفعل ذلك بمجرد تجاوز الوضع البائس الذي ال اليه بفعل فاعل لقي منه زملائي في الجامعة عنتا قاوموه مشكورين بما استطاعوا. ويبدو لي ان من اسباب الظاهرة شعور المواطن التونسي مثل العربي عامة بالغبن سواء في زمن المد الاستعماري او زمن الحكومات الوطنية السلطوية او الدكتاتورية، ولا سيما زمن «العولمة المتوحشة« وما ولدته في بلدان الاقتصاد التابع من تفقير وشعور متزايد بالحرمان.

هل من فرق بين السلطوية والدكتاتورية ؟

فرق كبير بينهما يحاول علم الاجتماع السياسي الوقوف على محدداته النظرية والعملية. لنقل –اختصارا -ان السلطوي سياسي يذهب به الظن الى انه يحسن به ان يقود الشعب الى الرقي ولو رغما عنه او بالتحيل عليه ولكنه لا يستبد بالشعب لمنفعة خاصة او فئوية مثل المرحومين بورقيبة وناصر اما الدكتاورية فتصور ما شئت.

قلت ان ذلك الإحساس بالغبن كان دائما مصحوبا برغبة شعبية جامحة زكية في التحرر منه وهو ما حاول اليسار والاسلامويون التعبير عنه تعبيرا فيه من التضحية أكثر مما فيه من النجاعة والقدرة على التغيير. فلا الحكومات الوطنية كانت عند طموحات شعوبها ولا المعارضات كانت قادرة على تحقيق التفاف الشعب حولها. وبحكم ذلك التقصير وذلك العجز كانت الثورة التونسية مثلا خارجة عن كل اطار حزبي او سياسي.

معنى حديثكم ان مشاريع الاسلام السياسي التي تعرفها اليوم المنطقة العربية محكومة بفشل حتمي؟

الاسلام السياسي اكتشف مصاعب الحكم بمجرد ان اتيحت له فرصة ممارسته لا سيما في تونس حيث شعب صاغت وجدانه وشحذت عقله مدرسة الجمهورية. فلا معنى اليوم لحكم شرعي يدعي الآخذون به انه «حكم الله». وليس يمكن تسويق فكرة الخلافة او «ولاية الفقيه في شعب ثار ينادي «شغل، حرية، كرامة وطنية».
والاسلام السياسي تعبير عن مجرد اغتراب في الزمن ذلك انه مجرد شكل من اشكال الارتماء في أحضان الماضي فهو الغربة في جميع معانيها.

ثم انه اتخذ ذلك الماضي صورة وجدانية متوهمة واقنوما عقديا طمعا في نجاح صعب المنال. والتيارات الاسلاموية جميعها نتيجة للفشل الاجتماعي والاقتصادي والقحط الوجداني والتصحر الفكري والقمع السياسي. فهل يمكنها ان تنتج غير ما أ نتجها هي بالذات.؟ اليس في ما نشهد اليوم من استشراء العنف ما يشهد سلفا لفشل ذريع ؟.
نعم حق لشرائح من الشعب التونسي مثلا ان تتوقع من النهضة خيرا باعتبارها حزبا دينيا «يخاف الله« وهو ما يفسر ولو جزئيا نتائج انتخابات 23 اكتوبر. غير ان ما تحقق لحد الان مؤسف حقا.

هل يمكن إضافة عنصر يعتبره البعض مهما في نشوء الاسلام السياسي وهو ما سمي بالتحديث القسري مثل حذف التعلم الزيتوني «الاصيل» وتعويضه بنظام تربوي «عصري«؟

الأقرب الى الحق ان هذا القول لا معنى له في أبجديات علم الاجتماع التربوي. فالتعليم الزيتوني بصرف النظر عن قيمته لم يحذف في تونس الا شكليا او إداريا بتحويل الاشراف على مؤسساته من «الوزارة الكبرى» الى «وزارة المعارف» وجامعة الزيتونة قائمة الذات منذ 1956 وعلى رأسها المرحوم الطاهر بن عاشور. ثم ان توحيد التعليم من ضرورات تحقيق «الوحدة الوطنية« التي أوجبها بناء الدولة الوطنية المستقلة دون ان يتضرر من ذلك الاجراء اي زيتوني تلميذا كان او طالبا ومدرسا كان او قيما والتباكي على الزيتونة بعض من دواليب تبرير ما ينوي البعض عبثا الاجهاز عليه من مكاسب الوطن. ولكن شباب مدرسة الجمهورية بالمرصاد.


ومما يشير في جلاء الى صحة اختيارات الدولة الوطنية الناشئة ان ما يسمى «التطرف الديني» هو اقل حدة عندنا مما هو عليه في بلدان اخرى مثل مصر بلد «الازهر الشريف» أو اليمن بلد «جامعة الايمان» أو «المغرب بلد جامعة القرويين» أو الجزائر بلد ابن باديس والأمير عبد القادر وهي التي ضلت سنين طويلة تحت سيطرة الاخوان المسلمين المصريين الذين تدفقوا عليها لا سيما ايام المرحومين عبد الناصر وبومدين. وقد اتيحت لي فرصة الاطلاع على بؤس اوضاع المدرسة الجزائرية في عهد الشهيد الرئيس بوضياف.

هذه البلدان لم تعرف «حذف التعليم التقليدي« بل غرقت فيه حتى الاذنين. وهي لم تعرف مجلة الاحوال الشخصية التونسية بل اباحت موضوعيا «واد المرأة» طرق مختلفة مثل ما هو جار في باكستان واليمن مثلا الخ . . ومن الشعوب العربية من لم تدع إلى الاجتهاد في القيام بواجب الصيام في مجرى ما سمته تونس «الجهاد الاكبر« ضد التخلف اعتى اعداء الامة.. ولكن من هذه البلدان من افتى فقهاؤها جهارا بهارا بإفطار رمضان للاعبي كرة القدم مثل ما حدث في بلد «الازهر الشريف» وحتى في المغرب الاقصى.. فلم لا يفتون لإفطار الجمهور؟ أليس هو «اللاعب رقم 12» كما يقال؟ وتونس حققت نتائج لا مثيل لها في مجال تنظيم الانجاب دون اتخاذ اي إجراء جزري. ولن تنجح الأمة العربية والإسلامية في اي شكل من اشكال التنمية اذا لم تتخذ لها من تونس الصغيرة إماما عظيما في هذا المجال كما في غيره. . فمقالة التحديث القسري أشبه ما تكون «بحديث خرافة« يلوكها قوم يمهذرون بما لا يعرفون، ما مست أيديهم شيئا إلا ذهبت بركته.


ليكن. وكيف يمكن في رأيك تفسير هذا التلاقي بين الايدولوجيا الكنسية والايدولوجيا الاسلاموية رغم انه لا رهبنة في الإسلام ؟

فعلا لا رهبنة في الإسلام المعياري وليس من واسطة بين الانسان وربه وليس من وصي على ضمائر الناس وهو ما تفطنت له الكنيسة البروتاستنتية بعد قرون من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية حتى بلغ الأمر بها خاصة خلال كامل النصف الأول من القرن الحادي عشر إلى ما سماه مؤرخوها من المسيحيين أنفسهم «بحكم المومسات» Pornocratie.

اما في الاسلام المعياري فعندما يكبر المسلم للصلاة فانه يكون بلا واسطة في الحضرة الالهية.. غير ان واقع المسلمين أو الاسلام التاريخي، انتج رهبنة اشد بأسا من الرهبنة الكنسية، ودور ما يسمى «بعلماء المسلمين» و«المفتين» و«الفقهاء» أشهر من ان يذكر به، لا سيما في عهد الفضائيات وتكنولوجيات الاتصال العاتية.

وقد قلت ذلك لإخواني الأزهريين يوم تفضلوا مشكورين بدعوتي للمحاضرة على منبرهم بالقاهرة المعزية. وحتى حين نستثني تعففا المضحكات المبكيات من فتاوى العصر، فالحق اني لم اسمع يوما من ايهم ولا سيما ممن يعتبر كبيرهم شيئا لم أتعلمه مثل غيري من أبناء جيلي على يدي الشيخين خميس بوجميل ومحسن بوعزيز رحمهما الله، في السنوات الاولى من التعليم الثانوي بدءا «بفقه الأقليات« حتى «فقه الاولويات» ونصرة «الاخ» ظالما او مظلوما وواجب «الدين النصيحة« الخ.. ومن نكد الدهر ان يصبح احدهم رئيسا «لعلماء المسلمين« وليس معه من العلم إلا ما لا يكاد يختلف جوهريا عما تعلمه مدرسة الجمهورية في تونس للمبتدئين من ابنائها حتى لكأن ديار الاسلام أصبحت عاقرا. ولعل هذا العجز الفكري هو الذي دفع «بعلماء الاسلام» الى تقليد أدبيات الكنيسة مع التستر على مغارسها او جهلا بمغرسها الكنسي بوضعها في كلا الحالتين - في غلف اسلامي.

ومما يساعد على ذلك التشابه الفكري الكبير بين الرهبان المسيحي وبدعة «الرهبان الاسلاموي» تشابه الاوضاع التاريخية التي مرا بها، فالكنيسة فاجأتها الثورة الفرنسة بما لا عهد لها به فأفقدتها صوابها الفكري ومكانتها الاجتماعية والسياسية فتمسكت كالغريق بقيم الامس الغابر، السياسي منها والاجتماعي والفكري. و«علماء الاسلام» فاجأهم الاستعمار بحكم ما اصاب الفكر في ديارنا من شلل فبان التخلف على اشده وكان الموقف انفعاليا كموقف الكنيسة اي رفض الواقع القائم بويلاته والاحتماء بماض تاريخي في تصورنا له من سوء الفهم على قدر ما في النفوس من امل في الخلاص من الاحساس بالمهانة فجعلنا ماضينا عظيما على قدر بؤس حاضرنا . وهكذا افسدنا فهم حقيقة ماضينا وفهم واجبات حاضرنا وها نحن اليوم من اخر امم الدنيا بجميع المقاييس.

الاسلام السياسي اكتشف مصاعب الحكم بمجرد ان اتيحت له فرصة ممارسته لا سيما في مجتمع صاغت وجدانه وشحذت عقله مدرسة الجمهورية. فلا معنى اليوم لحكم شرعي يدعي الآخذون به انه «حكم الله«. وليس يمكن تسويق فكرة الخلافة او «ولاية الفقيه»في شعب ثار ينادي «شغل، حرية، كرامة وطنية«. وليس يمكن التعويل فيه على جيش وطني لم ولن يطلق رصاصة على تونسي.

هل يعني هذا انك تريد تطبيق الشريعة وترفض الخلافة؟

ليس الرفض هو الذي يعنيني بل ما أطالب به مثل شعبي: «شغل حرية، كرامة وطنية». انا اعشق الحرية لي ولجميع خلق الله وذلك هو في اجتهادي شرع الله وسنته في خلقه من البشر وهو ان الانسان مكره على ان يكون حرا. اما من ادعى انه يطبق حكم الله فعليه ان يراجع فهمه للإسلام حتى يتيقن ان «سطيح» قبض يوم ولد رسول الاسلام. هل يحق لهؤلاء ان يدعوا اهلية رفضها عمر الفاروق لنفسه يوم نهى كاتبه ان يكتب تعقيبا على حكم اصدره:«هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر فقال: لا تقل هكذا ولكن قل: هذا ما رأى امير المؤمنين عمر ابن الخطاب..» وهل لأدعياء تطبيق الشريعة ان يضعوا أنفسهم فوق الشارع ؟الم ينه الرسول العربي أميره بريدة ان ينزل عدوه اذا حاصرهم على حكم الله ؟الم يأمره بان ينزله على حكمه وحكم اصحابه ناهيا ان يسمى حكم المجتهد حكم الله. ثم هل ثمة اليوم من يقدر على تعريف الشريعة ؟.

خذ لك مثلا فكرة الخلافة. هل هي فكرة اسلامية ذات بعد سياسي كما يحاول البعض ايهامنا ام هي من التقاليد المسيحية التي تبناها بعض حكام المسلمين وهلل لها منظروهم؟ اليست قائمة على ما ورد في انجيل متى من قول ليس حوله اجماع كافة المسيحين مفاده ان عيسى بشر الحواري بطرس (صخر) قائلا له«انت صخر. وعلى هذه الصخرة اقيم جامعي(=كنيستي). Tu es Petrus et super hanc Petrum aedificabo Ecclesiam meam
ذلك ما يفسر انتقال القبلة المسيحية الكاتوليكية من بيت المقدس الى روما حيث قتل القديس بطرس على ايدي الرومان الوثنيين. وهو ما يفسر ايضا اعتباره اول «خليفة»للسيد المسيح وأول بابا روماني كاتوليكي وانما تستمد سلسلة البابوات «شرعيتها« الدينية والتاريخية من تلك البشرى التي لا يبدوا انه ثمة ما يشهد لها فعلا إلا رغبة الشق الغربي من الإمبراطورية الرومانية في الاستقلال عن الشق الشرقي منها اي بيزنطة أو قل «القسطنطنية« او «اسطنبول» كما أصبحت تسمى منذ الثلاثينات من القرن الماضي. فالارتودكس (مصر روسيا اليونان الخ) لا يعترفون بهذه المقالة وكذلك البروتستان والانجلكان وهم لا يعترفون تبعا لذلك بخلافة البابا الروماني ولا بالخلافة البابوية اصلا الخ. . .

كيف تحول اذن بعض الظن المسيحي او بعض «الزيف المسيحي» كما تقول الكثير من طوائف المسيحية الى يقين عند بعض المسلمين ؟ذلك أمر يستحق الدرس المعمق وجرأة فكرية تذهب في المسالة ابعد مما ذهب اليه ابن خلدون او علي عبد الرازق او المستشار العشماوي.

والمعول عليه هنا هواستبلاه الناس وجهل المتلقي المسلم بأصل «فكرة الخلافة» والغريب ان هؤلاء المنظرين يعلنون الحرب على الغرب بنفايات الفكر الغربي الكنسي اي اسوا ما فيه.. والأغرب انهم يرتزقون باتهام «الحداثيين» بالتقليد والعلمانية الكافرة واستيراد الافكار من وراء البحار وهم يعلمون مثلا ان شيخ العلماننين كانط كان اشد فلاسفة العصر الحديث ايمانا بالله وباليوم الاخر حتى عده محمد اقبال من اكبر نعم الله على بلاده. فلا معنى عنده كما عند الكثير من عظماء الانسانية الحديثة للقول بالتناقض بيان العلمانية والإيمان الديني وقد سبق لي ان نظمت سنة 2004/2005 ملتقى علميا هو الاول في تاريخ الجامعة التونسية خصصته لمسالة العلمانية وقدمت فيه مداخلة بعنوان «كانط» أو«ايمان العلماني» الخ.

يعني انك تصر على ان لا ترى في الايدولوجيا الإسلامية الا تقليدا للغرب؟

هو كذلك فعلا حتى حين نتحاول التمايز عن الغرب المسيحي. فحين يردد فقهاء الفضائيات في غير تدبر نقدي ان الفرق بيننا «نحن المسلمين» وبين «الاخر المسيحي» ان الاسلام «دين ودولة» في حين ان المسيحية تفصل بين ما هو لقيصر وما هو لله.

تلك مغالطة نغالط انفسنا ونغالط الاخرين عقديا وتاريخيا. فالمسيحية هي الاخرى« دين ودولة» غير انها نشأت في ظل امبراطورية قوية ولم تنشا في واد غير ذي زرع فكان عليها الانتظار والتخفي حتى مجيء الامبراطور قسطنطين مع مطلع القرن الرابع مسيحي وبالتحديد في مجمع نيسيه سنة 325 م. وهو الذي جعل من المسيحية دين الدولة الرسمي بدل الوثنية وهو الذي اعان على فرض مقالة «ان الله ثالث ثلاث» في مواجهة القائلين من المسيحين بتعالي الله عن ان «يتخذ ولدا». شرد الموحدون القائلون بالتعالي الالهي من المسيحيين في اصقاع الارض بما في ذلك ارض نجد والحجاز مثل اجداد ورقة ابن نوفل عم خديجة ام المؤنين على ما تذكر بعض كتب التاريخ.

وفرض التثليث بقرار «ديني سياسي»اتخذه بالخصوص اسقف قرطاج واسقف الاسكندرية ومن معهما من ناحية والامبراطور قسطنطين «الامبراطور المؤمن» من ناحية اخرى وكان الرجل داهية علق امالا كبيرة على المسيحيين-وقد تكاثروا- لمناصرته في حروبه القائمة ولا سيما ضد اطراف من العائلة الرومانية الحاكمة. غير ان التوحيد التنزيهي لم يمت فقد عاود الظهور في اوروبا في القرن السادس عشر على يد صوشن ومن كبار اتباعه العلامة اسحاق نيوتن.

التنزيه التوحيدي الاول كان تحت تأثير الملة الابراهيمية في صياغتها اليهودية وكان من كبار دعاتها «الاريانية» نسبة الى الراهب اريوس. اما التوحيد التنزيهي الثاني في عصر الاحياء الاوروبي فقد كان من كبار دعاته الراهب شوصن. الاول وقع على يدي اريوس بين اواسط القرن الثالث وأوائل القرن الرابع مسيحي. واريوس هذا راهب امازيغي ليبي. اما التنزيه في عصر الاحياء فقد كان كما بين ذلك أ. كونت نتيجة للغزو الفكري العربي لاوروبا مما دربها على الفكر النقدي والمساءلة الجريئة فكانت الثورة داخل الكانيسة الكاتوليكية ونشاة التيار البروتاستان.
لم نتعود سماع هذا. .
ومع ذلك فهي الحقيقة التاريخية التي لا نود سماعها ولا التعمق فيها وكأنما هي ليست من تاريخنا نحن.

من نحن ؟

نحن معشر التونسيين في ابعادنا الغالبة بإطلاق اي «الامازيغ –العرب –المسلمين –المتوسطيين-الافريقيين الخ «. نحن كل هذا ولا مجال لبتر الهوية الوطنية التونسية. وان كانت حركة التاريخ افضت الى سيادة العربية لغة وثقافة على التونسي عامة فهي حاضره ومستقبله في غير ظلم لأحد ولا اقصاء لأي طموح مشروع.
حديث ممتع ولكنه أبعدنا عن الثورة. .

لا أظن ذلك بل نحن في صلب ما يجب معرفته لفهم الثورة ولتحديد مستقبلها. نحن العرب المسلمين حددنا مصير الكنيسة المسيحية يوم انقسمت في القرن الحادي عشر الى شرقية سنية أو «اورتودوكس» والى غربية كاتوليكية او كونية مع باديات الحروب الصليبية. وجاء ذلك بعد ان فككنا الامبراطورية الرومانية في الشرق الاوسط وشمال افريقيا.

ونحن الذين حفظنا الامانة الالهية بان دافعنا ما استطعنا عن التوحيد التنزيهي كما قالت بذلك الاريانية الامازيغية. ثم نحن الذين كنا وراء تحديث فكري انشطرت بمقتضاه الكنيسة المسيحية على نفسها إلى كاتوليكية وبروتاستانتية كما يقول كونت، ومعنى ذلك ان العربي على بؤسه اليوم هو الذي صنع اهم ما في تاريخ اوروبا السياسي والفكري والعقدي سواء بما فعل بالإمبراطورية الرومانية قديما او بما كان موضوعيا سببا مباشرا له من التحديث العلمي والديني والفلسفي في اوروبا. فلماذا يتبرأ العربي المسلم اليوم من الحداثة وكأنما هي سبة في حين انها من صنع يديه جزئيا على الأقل؟ اليس ذلك من قبيل العقوق الحضاري؟ الا تمثل الايديولوجبا الاسلاموية رفضا للتفتح على الاخر يسنده عقوق بحقيقة الأنا العربي الإسلامي؟ انغلاق وعقوق: ما يمكن ان ننتظر منهما ؟.

اضف الى ذلك كله ان الثورة الفرنسية كانت النتيجة الحتمية تاريخيا لاكتساح العقلانية «اليونانية-العربية «الذهن الاوروبي اللاتيني في العصر الوسيط. والمعلوم ان اوغست كونت يفسر-على الدوام - نشأة أوروبا الحديثة عامة والثورة الفرنسية خاصة بعاملين أساسيين: عامل اقتصادي تمثل في نشأة الحرف والحرفيين في صلب الإقطاع الزراعي والاقطاعيين وعامل فكري يتمثل في دخول العقلية العلمية العربية الى اوروبا خلال الحروب الصليبية وبمساهمة عرب الاندلس. وذلك يعني ان اوغست كونت يعتبر العربي شريكا في الثورة الفرنسية بل هو اصل من اصولها. وهو شريك في نشأة الحداثة فلسفة وعلما وقيما أخلاقية وسياسية. ولعله لأمر كهذا ناهض احتلال الجزائر ونادى بحمل السلاح ضد بلاده ان اقتضى الامر وكانت له علاقات طيبة مع بعض ارباب «الباب العالي».

ولنا ايضا ان نضيف في مجرى جمع الوقائع التي تساعد على فهم الذات من الاخطاء المتعالمة ان «العلمانية» نتاج اوروبي حديث. والحق ان «اللائيكية» بما هي القول باستقلال الفعل السياسي عن المسائل العقدية عامة في غير اي شكل من اشكال التناقض بينهما ليس قرارا سياسيا بل هو اختيار ديني وهو إنتاج تونسي صميم صاغه ونظر له البابا جلاصيوس الاول او الجلاصي الاول كما يترجم البعض من المؤرخين وهو تونسي امازيغي حتى النخاع درس في ما ذكر بالكاف ثم قرطاج.

وكان ذلك في اواخر القرن الخامس مسيحي. ففي رسالة بعث بها سنة 494 م الى امبراطور القسطنطنية فصل بوضوح لا مزيد عليه السلطة السياسية عن السلطة الدينية بحيث يكون البابا مسؤولا عن نجاة الأنفس يوم الحساب اما الامبراطور فمسؤول عن إدارة الشأن العام وضمان السلم الاجتماعية في الحياة اليومية. . . والجلاصي الأول هذا هو الذي فصل نهائيا القول في الاناجيل الصحيحة وميزها عن الاناجيل المنتحلة وهو الذي منع الاحتفال في قرطاج وروما «بعرس الذيب»وسن عادة الاحتفال سنويا «بعيد الحب»اي سان فالانتان.

العفو ان أطلت في ذلك. احببت فقط ان ابين ان الغرب صنيعة الشرق ولا شيء مما عنده لم يأخذه بالأمس القريب من عندنا نحن. فلم نخشاه ؟ولم نخش قيم الحداثة ونحن روادها الأول؟

ذلك هو السياق التاريخي المنطقي الذي تندرج فيه المواقف العندية ضد الحداثة عند منظري الاسلام السياسوي. . وهي لا تذكر مباشرة بمواقف الكنيسة الكاتوليكية من الثورة الفرنسية فحسب بل كذلك بمواقف جامعة السربون في القرون الوسطى خاصة سنة 1272 تاريخ صدور ادانة تامبييه بتحريض من بابا الفاتيكان للغزو الفكري العربي اليوناني للجامعات الاوروبية وما نتج عنه حسب الفاتيكان مما سمي وقتها بموجات الالحاد الديني الذي اتهم العرب المسلمون وفي مقدمتهم ابن رشد بنشره في اوروبا. ويكفي مقارنة النصوص بعضها ببعض للوقوف على التناظر التام بين المواقف الكنسية والمواقف الاسلاموية..

اتباع يؤخذ مأخذ الإبداع وتقليد يحسب تجديدا وتعلقا بنفايات تقدم للناشئة على انها درر من سطعت شمس معارفهم.. بل هو في اغلب الاحيان تقليد مشوه وفي غير محله. ففرق كبير بين ما تصدره جامعة «لوفان» مثلا من دراسات لاهوتية وبين ما ينشر عندنا في الوطن العربي في الشأن ذاته وان كان في بعض الاجتهادات الاسلامية ما ترتاح له النفس وان لم يرض العقل مثل صبحي الصالح او الطاهر بن عاشور او ابو ريدة الخ فالتقليد نفسه يتطلب جهدا لا يقدر عليه الاسلامويون لغلبة الهم السياسي والكسل العقلي عليهم.

ما هي اذا قصة القول بالتناقض بين الشرق والغرب وبين الأصالة والحداثة ؟

التناقض بين الشرق والغرب وجد جنينيا منذ القديم بين الفرس واليونانيين منذ حروب داريوس. ولكن المعاني الثقافية والعقدية واللغوية التي اكتسبها هذا المثنى من صنع الحضارة الرومانية يوم انشطرت الى «غربية« عاصمتها روما و«شرقية «عاصمتها «بيزنطة« وتبع ذلك لاحقا انقسام المسيحية الى ارتودكسية لغتها اليونانية وكاتوليكية لغتها اللاتينية. فبل الاسلام كان العرب في وضع شبيه بوضعهم اليوم منقسمين الى مستعمرات فارسية ومستعمرات رومية الا من حفظ ربك من البدو.

غير ان الثقافة العربية الاسلامية لم تحفظ هذا التقسيم. فقد اطاحت «بشرفات قصر كسرى» واطفات ناره كما أطاحت بالامبراطورية البيزنطية او قلصت نفوذها حتى أجهزت عليها بسقوط بيزنطة سنة 1453 على يد الاتراك. وبالتالي فالثقافة العربية الإسلامية استعملت ألفاظا مثل «المشرق والمغرب» أو «المشارق والمغارب أو «المشرقين والمغربين» بالمعنيين الفلكي والجغرافي لا بالمعنى الثقافي او الفكري او العقدي وذلك امر بين عند الادريسي مثلا. فالمثنى شرق/ غرب زائف. وليس اقل منه زيفا ما يذهب اليه ليو ستراوس منظر المحافظين الامريكيين من قول بالتقابل بين اثينا من ناحية وبيت المقدس ومكة من ناحية اخرى رمزا للتقابل بين «الشرق الايماني«و«الغرب العقلاني «. وزيف هذا الرأي اظهر من ان يخفى. فما تدين به اوروبا وامريكا عامة انما جاءهم من ديارنا: من واد غير ذي زرع او من ضفاف النيل او من ارض فلسطين. وما جاءهم من العلم انما جاءهم من قدماء المصريين والبابليين خاصة وهم معلمو كبار اليونانيين جميعا الذين لم يصبحوا عباقرة كما يقول افلاطون نفسه الا لتسلقهم اكتاف عمالقة الانسانية في العصر القيم اي قدماء المصريين وقدماء العراقيين خاصة. وما كان لأوروبا اللاتينية ان تعي القول العلمي «اليوناني –العربي« الا بعون عربي ما كان لها ان تستغني عنه. لذلك كان الامر يدعو الى اعادة نظر معمقة في حقيقة القول بالتقابل او التضاد بين الشرق والغرب أو بين الاصالة والحداثة فالحداثة من صنعنا او على الاقل من نتائج صنعنا لذلك كانت اصالة التونسي مثلا من تعلقه المتين بالحداثة ذاتها. والتناقض الفعلي واقع بين «متخلف« و«متقدم» حين يقاس التخلف والتقدم بالمعايير الدولية المصطلح عليها والمعمول بها في المنظمات الدولية مثل «اليونسكو» أو«البنود».

لكن اليوم هناك حديث حتى لدى عدد من الاكاديميين الغربيين عن ان الاسلام لا يتعارض مع الديمقراطية وقيم الحداثة بل ان البعض ينظر لعدم تعارض اللائكية كإجراءات لتنظيم الحياة السياسية مع الإسلام؟

تلك هي النتيجة المنطقية لما سبق ان بينت.
وما يكتبه برنار ليويس يستحق المناقشة والنقد لتنقيته من نظرة جوهراتية« لا تاريخية خاطئة، فليس ثمة ثقافة تناقض في ذاتها ولذاتها قيم الحداثة. والحق ان الملة الابراهيمية انما هي ثورة فعلية خلصت بها الإنسانية إلى حقيقتها بما هي وجود حر باطلاق. وقد بينت في محاضرة القيتها ببيت الحكمة بقرطاج منذ اكثر من ثماني سنوات ان «التكريم الالهي» (الاسراء 70) انما هو تأكيد حرية الانسان وفضله على جميع المخلوقات بما في ذلك الملائكة حتى ان من المفسرين من ذهب الى ان الله لا يسوي بين من خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وبين من قال له كن فكان (ابن كثير مثلا) بما في ذلك الملائكة ذاتها اذ هي «مجبرة بمنزلة الشمس والقمر«(م. ن). . فالحتمية او الجبرية قدر الطبيعة برمتها اما الحرية فقدر الانسان. حين نحسن الظن بالإله يتجلى لنا ان الانسان مكره على ان يكون حرا.

كما كان يقول سارتر بحيث لا مهرب له من قدر الله الا قدر الله كما كان يقول الفاروق وهو ما لم تفهمه الجبرية وهو ما لم تتعمق فيه المعتزلة. الايمان بقدر الله فينا هو القيام بأعباء الحرية وقد تكون تلك هي ‹الأمانة«العظمى« التى اشفقت منها السماوات والأرض وحملها الانسان.

واذا كان الامر كذلك بالنسبة الى الانسان في علاقته بالله انطلوجيا فكيف لا يكون كذلك في علاقته بالإنسان اجتماعيا. ان الحرية هي قانون الاجتماع المدني، والاجتماع الذي ينبني على قانون الحرية انما هو المجتمع الديمقراطي. لذلك كان الواجب في الملة الابراهيمية عامة والمسلمين خاصة ان تكون اولى الديمقراطيات في العالم. نحن على الدرب وهو المهم. حقا تأخرنا ولكننا سنصل وان غدا لناظره قريب وقربه يكون على قدر مغالبة قوى الشد الى الوراء.

لنعد الى راهن الحياة الوطنية. كيف تقيم الوضع الان في تونس اجمالا؟

وضع خطير حقا. كان بودي ان انتظر ستة اشهر كاملة نزولا عند طلب سيادة رئيس الجمهورية المؤقت قبل ان اتحدث في هذه المواضيع وغيرها. غير أنه يبدو لي اننا وصلنا الى ما لا خير يرجى منه واتسع الخرق على الراقع. وأكون من الظالمين لو طالبت الحكومة القائمة بان تأتي على تخلف عام هو نتيجة القرون عالجته دولة الاستقلال مشكورة بما استطاعت وأنجزت ما لا ينكره ألا مكابر.

كنت اقنع من الحكومة الحالية –على علاتها- بمجرد التوجه السياسي الصحيح غير اني لم اجد منها ادنى ما يتطلبه الاستحقاق الثوري بل انها لم تفعل شيئا يذكر لحفظ ما تحقق للوطن من مكاسب فضلا عن عجزها البين عن المساهمة بما يستطاع ليشعر المواطن ببدايات تحسن يذكر في معيشه اليومي لا سيما في المجالين العاجلين الاقتصادي والأمني، بل ان الاحساس العام هواننا نشهد ضربا من التهريج مؤذن بانحلال مؤسسات الدولة انحلالا منظما سواء بتعجيزها عن القيام بواجبها من ناحية أو«بتحزيب» ممنهج لتلك المؤسسات او قل «خصخصتها» لفائدة الحزب الحاكم من ناحية اخرى.

كيف يمكن التعجيل باصلاح الوضع ؟

الحيلة في ترك الحيل ولابد ان تصير الامور يوما الى حقائقها واملي ان يكون ذلك قريبا حتى لا يصبح الدواء أمر من الداء. غير ان أهل السياسة اعرف مني بواجبهم وأتمنى لهم كل النجاح في عملية الوصول بالمسار الانتقالي الى غاياته.

الدكتور بن جعفر يعلم ذلك ولعله لم ينس اني لبيت دعوته وحاضرت على منبر حزبه ضيفا فضلا عن اني قبلت المشاركة ولو رمزيا في صياغة برامجه الانتخابي دون جزاء ولا شكورا. والسيد الغنوشي معرفة قديمة جدا جدا. ومهما يكن موقفه وموقف بعض بطانته مني فان مصلحة الوطن فوق الحسابات الشخصية. عندما يكون الوطن في خطر فان جميع الارادات الطيبة تتداعى للواجب الوطني. وإنما ذكرت بذلك تقديرا مني ان نجاح مسار الانتقال الديمقراطي فيه خير للجميع وان الفشل قد يفضي الى نكسة وقانا الله شرها. ولعله يحسن البدء في هذا السياق بالاقتصاد في نفقات الدولة ففيه بعد اخلاقي ورمزي على غاية من الأهمية حتى وان كان بعده الاقتصادي ضئيلا. .

ثم لا بد من استبعاد تقنيات التلهية والتهريج اذ باتت مفضوحة تبكي اكثر مما تضحك، مثل الحديث عن «التآمر لإسقاط الحكومة» أو توافد دعاة السوء وفقهاء تعميق التخلف والجدل العقيم حول الهوية والشريعة والاسلمة والتعريب.. فتونس عربية حتى النخاع مسلمة لله لا تحتاج الى فتح جديد. واللغة العربية في تونس افضل مما هي عليه في أي بلد عربي اخر ولا فخر.. وقوانينها جيدة في معظمها الا من بعض النصوص التي سنت لتلجيم الافواه وتكبيل العقول وبالتالي لابد للدولة ان تحترم قوانين الدولة ما دامت قائمة وتحمل الجميع على احترامها بالطرق التي تحددها القوانين الوطنية ذاتها حتى ولو كانت لنا عليها راهنا بعض التحفظات..

اضف الى ذلك كله ان واجب الدولة يقضي باحترام تعهداتها بما فيها تلك التي قطعتها على نفسها تجاه شهداء الثورة وجرحاها والمعطلين عن العمل و العاملين بالفكر والساعد بالشكل الذي تقتضيه الاوضاع الوطنية الراهنة بمصاعبها التي لا تنكر وليس لأحد ان يحملها للحكومة الحالية وحدها كما ليس لتلك الحكومة ان تتفصى من واجباتها لاسيما وقد حلت نفسها اعباء ما كان لها ان تتحملها لو رضيت بالقليل المشروع وهو ان تبقى حكومة تسيير اعمال. وينبغي ان يعرف الجميع انه لا مجال للمزايدة في الوطنية على النقابيين ولا على عموم المواطنين. فالوطنية جامعنا الاول ونحن لا نتفاضل في الوطنية إلا بقدر ما نؤدي للوطن من خدمات تحفظ مكاسبه وترتقي به الى الاحسن حتى يكون غدنا افضل من يومنا، وما استعصى على قوم منال اذا الاقدام كان لهم ركابا.

اشتغلتم كمستشار للوزير الفقيد محمد الشرفي بداية تسعينيات القرن الماضي ,برأيكم اي دور للمدرسة والتعليم عموما في مكافحة التطرف والانغلاق، وأي إصلاحات هيكلية ترونها اليوم للمنظومة التعليمية في تونس ما بعد الثورة؟

رحم الله «سي محمد« رحمة واسعة. من اخصب فترات حياتي تلك الايام التي عملت فيها مع الشرفي لا كوزير ولكن كأخ وكصديق.

منذ عرفته لم يفرق بيننا الا الموت رغم الاغراءات او التهديدات التي ما زلت اعاني من اثارها حتى اليوم لا سيما منذ قال الشرفي لبن على اخرج من قصر قرطاج كما دخلته وإلا اكرهت على الخروج من الباب الخلفي، ولربما اتحدث يوما عما عانيت جراء اخلاصي لعشرة رجل جدير بالإخلاص. واكاد اقول الشيء ذاته عن عملي مع الاخ والصديق الدالي الجازي رحمه الله. مع سي محمد انشغلت مع ثلة من الزملاء هم من خيرة ما انتجت الجامعة التونسية باصلاح الابتدائى والثانوي. وتوج ذلك بقانون جويلية 1992.

ومع الدالي اشتغلت على اصلاح نظام جميع اجازات التعليم العالي باستثناء اختصاص الاقتصاد والتصرف الذي عني به الاخ رضا فرشيو. اذكر اني التقيت جميع اللجان القطاعية لاقول لهم جملة اساسية واحدة: «تصرفوا تصرف المشرع»، والوزارة لن تراجع معكم الا المقترحات ذات المفعول المالي الاضافي لان ذلك لا يخصها وحدها بل تتفاوض فيه مع جهات اخرى ومع وزارة المالية بصفة خاصة .

لاحظت بداية من سنة 1996 ان شؤون الدولة بدات تأخذ منعرجا سلطويا جديدا سرعان ما تحول الى منعرج دكتاتوري لايكاد يخفى. . اذكر جيدا اني لم أو أصل الاشراف على اعمال اللجان وبدأت في الانسحاب دون ضجيج لا سيما بعد حادثة الاعتداء على الاخ بن فضل.. فهم سي الدالي ذلك وانتظرنا الفرصة السانحة معا ليطردني وللسيد وزير التعليم العالي الحالي ان يتحقق مما اقول فملفي بين يديه ولا ريب.
يعني ان سي الدالي نفسه كان غير مرتاح لوجوده في الحكومة؟
نعم.. لا سيما بحكم خلاف تقليدي مع البعض من المتنفذين في الرئاسة.

أنت نفسك كنت مستشارا لبن علي. . وهذا الأمر يطرح علاقة المثقف عموما بأصحاب السلطة؟

لم اعمل يوما واحدا مستشارا لبن علي والسيد رئيس الجمهورية المؤقت يعلم ذلك حق العلم ويمكنه ان يتأكد منه مجددا. حتي في الوزارة لم اكن مستشارا بل مجرد متعاقد كما يدل ملفي الاداري، ورفضت كل منصب عرض علي ولم اترك محفظتي يوما واحدا المسالة ان الديوان الرئاسي يطلب رأيي في مسائل تخص التربية والتعليم العالي والثقافة. كما كنت أبادر بتقديم مقترحات، ولا اذكر اني قدمت مقترحا ورفض. مثل مقترح إعادة فتح دار المعلمين العليا أو بعث معهد تحضيري للدراسات الادبية او تدريس فلسفة العلوم في جميع الكليات العلمية والطبية او تدريس فلسفة حقوق الانسان في جميع مؤسسات التعليم العالي او الاحتفال بالمائوية الثامنة لابن رشد.

كنت اذا اعتقد حقا ان بن على يريد الخير فعلا وان لم اجعله في مرتبة بعد الله سبحانه وتعالى وانخرطت فعلا في عملية الإصلاح لا سيما وان بن علي صاحب بيان 7 نوفمبر كان سنة 1989 مرشح جميع الاحزاب السياسية والقوى الحية في البلاد وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل. ومما زادني قناعة بجدية المنهج الاصلاحي أن الوزير الذي خلف الشرقي بتدبير من الشرفي نفسه وكان معنا في الديوان سرعان ما نادى دون روية بإصلاح الاصلاح واعد وثيقة في الغرض لم أزل احتفظ بها. وطلب إلي أن ابدي رأيا في الموضوع على عجل فلبيت الطلب وبعثت للرئاسة بوثيقة انا على يقين ان السيد الرئيس الحالي يمكنه الاطلاع عليها في ارشيف ادارته. ومن الغد ابلغت ان الأوامر صدرت لذلك الوزير بان يلزم مكتبه حتى يعوض، زادني ذلك اقتناعا بان عهد ذهاب الاصلاح مع ذهاب الوزير قد ولى.

وما قصّة كتاب «الثورة الهادئة» الذي نشر سنة 1992 والذي يقال أنّ لك دورا في تأليفه؟

لم اكتب كتابا اسمه «الثورة الهادئة» فتلك خرافة روجها من لا أخلاق له بل هو عنوان اختاره الأستاذ الشاذلي القليبي لمجموعة من النصوص تحدثت عن العمل الإصلاحي في جميع المجالات بما في ذلك المجال التربوي. مساهمتي في هذا العمل بعنوان الاصلاح التربوي وملحمة القيم الوطنية تقريبا. كتبته في مرحلة كان بن على فيها رئيس جميع التونسيين وفاقا.

وكان لا بد من التعريف بهذا الإصلاح لا سيما وان التجمعيين كانوا يعتبرون سي محمد ومن معه «متعاقدين» أي كالأجانب وكان الصراع حادا وان في صمت بيننا وبين النهضويين من ناحية والتجمعيين من ناحية اخرى. التيار الاول يشكو «تجفيف المنابع» والثاني لا يقبل غير «ولد الدار».

رئيس الحكومة الحالي بإمكانه ان يعلم ان الوزارة الاولى لم توافق على التعاقد معي إلا بعد حوالي 6 او سبعة أشهر اي مع مجيء السيد حامد القروي «لثقل ملفي الأمني» بصرف النظر عما فيه من الحق ومن الزيف، كما يمكن أن يتأكد السيد وزير الداخلية الحالي من ذلك وملفي بين يديه. وما كان ذلك ليثنيني عن العزم على المساهمة في عملية انقاذ المدرسة التونسية مما الت اليه وقتها. ويقيني ان الاصلاح التربوي الذي ساهمت فيه كان من خير ما انجز في السنوات الخمس الاولى من عهد الرئيس المخلوع. .

بل اني اعتقد ان ثورة «شغل حرية، كرامة وطنية» هي من انجازات شباب مدرسة الجمهورية الذي تربى على اصلاح وزارة الشرفي على ما فيه من نقائص ذاتية وعلى ما ادخل عليه من فساد متلاحق الحلقات مدة 15 سنة تقريبا.

وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة في حدود 400 كلمة).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.