حاول نص الأسبوع الماضي أن يتعرف إلى رأي أحد شيوخ الزيتونة المستنيرين، الشيخ أحمد ابن أبي الضياف (1803-1874) في مفهوم الدولة المدنية، ولم نقف في نصه الإصلاحي الذي قدم به لكتابه الشهير «الإتحاف» ما يدل على وعيه بالمفهوم، بل كان واقعيا فركز جهده على كشف مساوئ الحكم المطلق، آملا أن يأتي يوم ينعم الله فيه على البلدان العربية والإسلامية بالملكية الدستورية، وقد أطلق عليها مفهوم «الملك المقيد بقانون»، وفرضت عليه تجربته السياسية، ومعرفته بطيبعة النظم الاستبدادية أن يوفق بين العقل والشرع، مؤكدا أن الحاكم في هذا النظام «يتصرف بقانون معلوم معقول في سائر أموره لا يتجاوزه، ويلتزم به عند البيعة، ويؤكد ذلك باليمين في ذلك المشهد، فإذا تعمد مخالفته انحلت بيعته من الأعناق». من من الحكام العرب تنحل بيعته اليوم من الأعناق إذا خالف الدستور، أوالقانون ؟ إن حلم صاحب «الإتحاف» لم يتحقق بالرغم من مرور أكثر من قرن ونصف على تأليف كتابه !
إني حريص في هذا الصدد على الإشارة إلى أن هذا الزيتوني المستنير قد وقف طويلا عند مفهوم الحكم المطلق كاشفا عن آلياته وعيوبه، ولم يكتف بالمقدمة، بل نجده يقف في تأريخه للدول التي عرفتها تونس عند كل سلطة مطلقة ليفضح أمرها، وأحيانا أتساؤل : ألم يرد الشيخ من وراء ذلك أن يكفر عن ذنوبه لما خدم طوال حياته حكاما مستبدين؟
إننا نظلم الشيخ عندما نحكم عليه خارج زمانه، وخارج الظرفية التاريخية التي عاشها، وقد طلب العفوممن يحاول نقده قائلا في عبارة شيقة : «ومن الذي ما ساء قط، ومن له الحسنى فقط».
* * *
أما صديقه خير الدين فقد تعمق أكثر في رؤيته الإصلاحية، وأدرك ما تتميز به الدولة المدنية من سمات فوقف طويلا عند مؤسساتها، وفي مقدمتها البرلمان المراقب لها، ويستعمل مفهوم «الاحتساب على الدولة»، وهويعني وظيفة البرلمان، ويسميه «مجلس الوكلاء»، و«مجلس الوكلاء المركب ممن ينتخبهم الأهالي للمناضلة عن حقوقهم، والاحتساب على الدولة»، ولا بد أن تكون الحكومة مسؤولة أمام البرلمان، وله حق سحب الثقة من أعضاءها، «ولا يمكنهم البقاء في الخدمة إلا إذا كان غالب مجلس الوكلاء موافقا على سياستهم».
فقد أدرك صاحب أقوم المسالك أن الأوضاع لا يمكن أن تتغير، وأن يخطوالمجتمع العربي الإسلامي خطوات ثابتة فوق درب الحداثة بدون تغير الأوضاع السياسية، وبعث مؤسسات دستورية قائمة على العدل السياسي والحرية، فليس من الصدفة أن يقف وقفة طويلة عند مفهوم الحرية، ودورها فيما حققه المجتمع الأوروبي من تقدم، ولا غروفي ذلك، وهوالذي لمس عن كثب ويلات الحكم المطلق الاستبدادي وأثاره الوخيمة، وأكد أن «الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأوروباوية»، فتحدث عن الحرية الشخصية، وعن الحرية السياسية، وعن حرية النشر والتعبير، وعن علاقة الحرية بالاقتصاد، مستنجدا بابن خلدون في المقدمة في إبراز علاقة الحكم الاستبدادي بخراب العمران، كما فعل ذلك صديقه الزيتوني المجدد.
ونتساءل اليوم، ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين :
أحاملوا لواء خطاب الحداثة واعون خطورة العامل السياسي في تحقيق مشروع التحديث العربي، أم فشله ؟
ب كثير منهم واعون ذلك، دون ريب، ولكن من الغريب أن نجد اليوم في أدبيات فكر فئات من المثقفين العرب غياب هذا العامل عندما يتحدثون عن معوقات مشروعات التحديث العربية.
إن جميع التجارب العربية والدولية قد برهنت بوضح أن جميع مشروعات الحداثة التي لم يتزامن فيها التحديث السياسي، أي تحول الدولة من دولة استبدادية قامعة إلى دولة مدنية ديمقراطية هي مشروعات مشوهة ومجهضة، ومن الطبيعي أن تسقط طال الزمن أوقصر.
* * *
قال الصديق الرقيب : مالي أراك تعالج قضايا الماضي، وتعود إلى تراث الفكر الإصلاحي، وقد عرفتك منكبا على قضايا الراهن والمستقبل؟ قلت: إن الأوضاع الجديدة، وتفشي ظاهرة الردة الدينية والفكرية قد فرضت ذلك فاستعنت برواد الفكر الإصلاحي في القرن التاسع عشر لأبين أنهم كانوا أكثر تفتحا واستنارة من بعض الأصوات التي تزعم اليوم أنها تدافع عن الإسلام، والإسلام منها براء.