يطرح هذا النص من جديد إشكالية الدولة المدنية الديمقراطية، وقد تم التأكيد على أن المفهوم قد نشأ وتطور في المجتمعات الغربية غداة الثورة الفرنسية الكبرى. وأصبح مع الزمن مفهوما كونيا له مميزاته الواضحة، فهو إذن دخيل على الفكر السياسي العربي الإسلامي، ولكن هذا لا يمنع من الإفادة منه، وتنبيته في التربة العربية، شأنه في ذلك شأن كثير من المفاهيم الكونية، وقد برهنت كل التجارب الحديثة أن المجتمعات لا تنهض، ولا تتقدم إلا إذا تبنت المفاهيم الكونية لتصبح جزءا من العالم المعاصر.
إن الحديث عن مفهوم الدولة المدنية طرح سؤالا جوهريا : هل تفطن رواد الحركات الإصلاحية، في القرن التاسع عشر إلى هذا المفهوم، وكيف كان موقفهم منه ؟
أرى أنه لابد من التمييز في الإجابة بين المجددين الذين آمنوا بضرورة التجديد لتحقيق اليقظة العربية الإسلامية، ولكنهم لم يتعرفوا إلى التجارب الأوروبية عن كثب، وبين أولئك الذين عاشوا التجربة في عقر دارها، وسجلوا ما رأوه في رحلاتهم.
يمكن أن نصنف ضمن الفئة الأولى العالم الأزهري حسن العطار (1766-1835)، وقد أطلق قبل ما يربوعن قرن ونصف صيحة الفزع الشهيرة قائلا : «إن بلادنا لابد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها».
سيطرت الدهشة على الشيخ الأزهري، ومعلم الطهطاوي (1801-1873) عندما اتصل بعلماء الحملة الفرنسية، واطلع على كتبهم، وآلاتهم الهندسية، وتجاربهم العلمية.
ونجد ضمن هذه الفئة الشيخ الزيتوني المستنير، والمفتي المالكي محمود قبادو(1814-1871)، وقد تتلمذ على يديه بمدرسة باردورواد التجربة التحديثية التونسية الأولى، وبينهم خير الدين، وصديقه الجنرال حسين وغيرهما، وهما ينتسبان إلى الفئة الثانية، وتضم في صفوفها الشيخ الزيتوني المجدد أحمد بن أبي الضياف الذي انكب على دراسة التجربة الأوروبية لما رافق أحمد باي في زيارته لفرنسا عام 1846، وعددا من رادة الإصلاح في العالم الإسلامي : الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وقاسم أمين، وبيرم الخامس، ومحمد السنوسي، ومدحت باشا، وأديب إسحق، وولي الدين يكن، وغيرهم.
إن نصوص الفريقين تنبئ بوجود فروق في الرؤية الإصلاحية، وبخاصة في الرؤية السياسية، ولكنهم جميعا أدركوا أن العالم العربي الإسلامي ما يزال بعيدا عن الدولة المدنية، وأن المعركة الأساسية هي معركة الحرية، ومقاومة الحكم المطلق، فلا يمكن الحديث عن مفهوم الدولة المدنية في مجتمع تحكمه سلطة تيوقراطية، وأدركوا في الوقت ذاته أنه لا تقدم، ولا تحديث في مجتمع تحكمه سلطة تبرر حكمها بمفاهيم تعود إلى العصر الوسيط، ولا علاقة لها بما حققه المجتمع الإنساني الحديث من مكاسب.
وتفطنوا في الآن ذاته إلى أن الإبداع بشتى أصنافه لا يزدهر إلا في مناخ الحرية، وقد عبر عن ذلك خير الدين في «أقوم المسالك» لما قال : «إن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأوروباوية».