بعد الحديث في الحلقة الأولى عن مفهوم المواطنة في المجتمع الغربي، وارتباطه بفلسفة عصر الأنوار تناولت الحلقة الثانية المفهوم في البيئة العربية. إنه من المعروف أن مفهوم المواطنة له علاقة متينة بقضايا أخرى، وهي التي تتحدث عنها حلقة اليوم. لا أريد أن أنهي هذا النص دون الإشارة إلى النقاط التالية: المواطنة وثيقة الصلة بالتضامن، فلا مواطنة حقيقية من دون وجود روح تضامنية قوية تذود عن الوطن حين يهدده خطر خارجي، وتذود في الداخل عن المصلحة العامة التي تجمع بين سكان الوطن الواحد، وهنا يبرز حاليا في الوطن العربي أخطر عائق أمام نشر روح المواطنة، فمن المعروف أن الطبقة الوسطى مثلت الدعامة الصلبة لحركات التحرر العربية، ثم إنه كان لها أثرها بعيد المدى في بناء الدولة الوطنية غداة الاستقلال، هذه الطبقة تدحرجت نحوالأسفل منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي بصفة خاصة، وبرزت فئة اجتماعية من كبار الأثرياء أصبح لها دور خطير في صنع القرار السياسي، وارتبطت برأس المال العالمي حماية لمصالحها في الداخل، ودعما لنفوذها، بل أصبحت في بعض الحالات متحالفة مع قوى أجنبية ضد المصلحة الوطنية. إنه من الطبيعي أن يحتد في هذا الوضع الجديد الصراع الاجتماعي ليصبح معوقا خطير الشأن لفكرة المواطنة، فمن الصعب في هذه الحالة أن يركب السفينة نفسها سكان أحياء الصفيح وسكان أرخبيل الأثرياء في المدن العربية، وهذا الصنف هوأقرب إلى سكان أحياء الأثرياء في العواصمالغربية منه إلى سكان أحياء الفقراء المتاخمة لهم. ويحق للمرء أن يتساءل عن مستقبل أية مواطنة قطرية كانت، أم عربية، بعد أن هبت عواصف انتفاضات الحرية والكرامة ؟ تتصل القضية الثانية بالمواطنة والكونية، فمن الجوانب الإيجابية للعولمة سقوط الحدود والمسافات، وتحول العالم إلى قرية كونية بفضل الثورة الاتصالية، فليس من المبالغة القول: إن صنفا من صنوف المواطنة قد ولد، وأعني المواطنة الكونية والسمة الأساسية لمحتوى المواطنة الكونية هي حقوق الإنسان بشتى أصنافها، إذ أن الإنسان في هذه الحالة يتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة إلى فضاء أرحب جراء التمسك بهذه المواطنة، ويصبح حينئذ المس بهذه الحقوق في أية منطقة من مناطق العالم، مهما كانت نائية وقصية، يثير رد الفعل على مستوى العالم، فمفهوم الجماعة الكونية مثل الملامح الجنينية لمفهوم المواطنة العالمية المطروحة اليوم سياسيا وفكريا. أما القضية الثالثة، وهي بيت القصيد في هذا النص، فهي علاقة المواطنة بالحرية، فلا مواطنة من دون حرية، كما أنه لا حداثة حقيقية من دون حرية، وقد تفطن إلى ذلك أحد رواد الحركة الإصلاحية العربية : خير الدين التونسي لما تحدث في كتابه أقوم المسالك عن العدل السياسي، وعد الحرية عاملا حاسما في ما عرفته الممالك الأوروبية من تقدم، فقد أدرك ومعه زمرة من رجال الإصلاح خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن الأوضاع لا يمكن أن تتغير، وأن يخطوالعالم العربي الإسلامي خطوات ثابتة فوق درب الحداثة الحقيقية من دون تغيير الأوضاع السياسية، وأن تبعث مؤسسات دستورية قائمة على العدل السياسي والحرية، فليس من الصدفة أن يقف خير الدين وقفة طويلة عند مفهوم الحرية ودورها في ما حققه المجتمع الأوروبي من تقدم، ولا غروفي ذلك، وهوالذي لمس عن كثب ويلات الحكم المطلق الاستبدادي وآثاره الوخيمة، مؤكدا «أن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأورباوية»، فتحدث عن الحرية الشخصية، وعن الحرية السياسية، وعن حرية النشر والتعبير، وعن علاقة الحرية بالاقتصاد، مستنجدا بابن خلدون في المقدمة في إبراز علاقة الحكم الاستبدادي بخراب العمران. إن المشكلة الأساسية في الوطن العربي منذ كتابات الطهطاوي، وخير الدين، وفرح أنطون، وولي الدين يكن، وسليم سركيس، والكواكبي، وأحمد لطفي السيد، وسلامة موسى، وطه حسين، وغيرهم من التنويريين العرب هي الحرية؛ والحرية هي الحل.