من «إشاعات محرّضة ومغرضة» إلى لوحات فنيّة في غاية الغباء ومنتهى الاستفزاز إلى تسريب امتحانات الباكالوريا إلى اندلاع لمواجهات عنيفة ونشر للحرائق ورائحة الدخان ...فما الحكاية؟. على الرغم من أنّ منطق البحث عن التبريرات منطق سخيف يعلّق الأسباب الحقيقيّة للأحداث ويعمل على إخفائها وإخفاء جانب من جوانب تطورات الوقائع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الّذي تعيشها البلاد وطمس ملابساتها، فإنّه في واقع الحال لا يُمكن لمحلّل ومتابع نزيه إلاّ أن يقرّ دونما تبرير بأنّ قوى خفيّة تحرّك كرة النار وتعملُ على إشعال الحرائق كلّما رغبت في ذلك وفي المكان الّذي تختاره.
ودونما انتظار لنتائج الأبحاث والتحقيقات الأمنيّة والقضائيّة فإنّه من الغباء أن لا يستجمعُ الواحد فينا خيوطا بيّنة وجليّة تربط بين ما جرى خلال الأيّام القليلة الفارطة من حرب حقيقيّة غايتها ضرب الاستقرار والمس بالوضع العام في البلاد ورغبة محمومة في إعادة خلط أوراق اللعبة السياسيّة في البلاد.
فما الّذي حدث على أرض الواقع؟
في مجموعها كانت أحداثا متتالية وعلى وتيرة سريعة عنوانها الأبرز الاتهام والاتهام المضاد فالمرور مباشرة إلى العنف والحرق ، منها العنف المعنوي (الاعتداء على المقدّسات في قاعة العبدليّة بالمرسى والمس من هيبة ومصداقيّة الامتحانات الوطنيّة) ومنها العنف المادي (حرق مراكز أمنيّة ومحكمة في سيدي حسين بالعاصمة ومقر لاتحاد الشغل بجندوبة ومقرات حزبيّة مع الاعتداء على مرافق عموميّة أخرى..) ، وهناك خيط رابط بين صنفي العنف وهو ضرب قدسيّة المعتقدات – والتي هي محلّ إجماع- ورمزيّة مؤسسات الدولة المدنيّة – والتي لا يختلف حولها إثنان- ، إنّها في المحصلة حرب حرائق في العقل والوجدان وفي المكان أيضا.
منطق التحليل يفترض ضرورة استحضار الواقع السياسي الّذي تمرّ بها بلادنا والّذي بلغ درجة قصوى في القطيعة بين مختلف الفاعلين السياسيين في السلطة والمعارضة وداخل كلا القسمين أيضا حيث بدت «أعاصير التجاذب» وانطلقت حملات انتخابيّة لهذا الشخص أو ذاك أو هذا الحزب أو ذاك.
حرب السياسة والأخلاق
في السياسة كثيرا ما تنعدمُ الأخلاق ومرّات تغيب روح الوطنيّة والانتصار للصالح العام مرّة واحدة ، ومن المؤكّد الآن أنّ ما جرى من «حرائق» – وما قد يجري مستقبلا- هو نتاج لحالة الاستقطاب الإيديولوجي «المفروضة» على الحياة الوطنيّة منذ 15 جانفي 2011 وحالة القطيعة الموجودة بين السلطة والمعارضة ، استقطاب عنيف وقطيعة حادّة انساق في ظلهما الفاعلون السياسيّون إلى مزيد توريط الخصم وتأليب الرأي العام في هذا الاتجاه أو ذاك.
المعارضة «تجتهدُ» عن قصد أو دونه في أن تكون معطيات الواقع مبرّرة لشعارها المنادي بإسقاط الحكومة وتأكيد عجزها عن إدارة الشأن العام وجسّد ذلك مشاركة وجوه سياسيّة في احتجاجات خارج القانون وتحريض آخرين على صدام العشائر والقبائل وتحريك النعرة الجهويّة والفئويّة الخبيثة والأكثر من ذلك استفزاز البعض لحماسة العامّة للمسألة الدينيّة والعقديّة بما فيها من رمزيّة ومقدّس.
في المقابل تقف «الحكومة» في مفترق طرق غير حازمة في فرض تطبيق القانون خاصة في ما يتعلّق بأنشطة التيارات الدينيّة المتطرّفة ممّا عدّ سلوكا مساعدا على الفوضى وارتكاب الجرائم المختلفة ، إضافة إلى أنّ تصريحات البعض من وزرائها تستبطنُ الدفع بالخصم أي المعارضة إلى «الشيطنة» والانزلاق إلى بوتقة العدميّة وغياب الجديّة بل الأكثر من ذلك إلى وضعها في خانة الثورة المضادة وكأن كل ما يدور على أرض الواقع من تحريك هذه المعارضة ومن صناعتها.
وبكل المقاييس والاعتبارات فإنّ ما يحدث ليس عفويا ولا اعتباطيا، فالتزامن شيء يؤكّد أنّ «سيناريوهات» محبوكة وُضعت من هذا الطرف وذاك والجامع بينها أنّها كلّها أحداث متطرفة يمينا ويسارا، أحداث خارجة عن الأخلاق وعن القانون.
إنّنا في الظاهر حيال تطرّف يميني متحجّر يستعمل العنف الجسدي لفرض أفكاره والردّ على استفزازت الخصوم ، وتطرف علماني يساري يتغطّى بعباءة «الجماليّة» والفن والإبداع للمّس من المقدسات وتهديد الإجماع الوطني حول الهويّة والدين ، ولكن طبيعة البلاد تؤكّد أنّ «هؤلاء المتطرفين» قلّة قليلة وإن أشعلوا النار ووتّروا الأوضاع فإنّه لن يكون بإمكانهم قلب معادلة السياسة في البلاد لأنّه في النهاية لا بدّ من كشف ما جرى وفرض القانون ومعاقبة الجناة.
أحداث اليومين الأخيرين كانت فاضحة والثقات من الناس يشهدُون في أكثر من مكان أنّ «خليطا» من الأشخاص ملتحين وغير ملتحين ومن فئة المراهقين والشباب فيهم من رفع شعارات «التكبير» ومنهم من تفوّه ببذيء الكلام هم من أضرموا النيران وأحدثوا الفوضى والخراب.
ويذهب العديد من المتابعين إلى أنّ «الحقيقة» هذه المرّة قد تكون أبعد من «عرض لوحة فنيّة مستفزّة» أو هجوم على محكمة أو مركز أمني أو تسريب امتحان من امتحانات الباكالوريا هؤلاء المتنطعين عن القانون ليسوا في نهاية المطاف سوى «أدوات» تتحرّك كلّما طُلب منها ذلك لتوفير الغطاء لتصفية حسابات سياسيّة تحت غطاء كثيف من الدخان ووسط لهيب النيران..فمن الفاعل ومن المستفيد؟.
سابقا ، ومنذ حكومة السيّد السبسي عرفنا «أمثلة» شبيهة بما جرى هذه المرّة ( شارع الحبيب بورقيبة والبالماريوم وسليانة وقفصة والقصرين وسيدي بوزيد وأحداث القصبة 3) ، أحداث «فرضتها» تطورات سياسيّة و«استدعتها» تطلعات حزبيّة وانتخابيّة ولذلك خيّر «فرقاء الحياة السياسيّة» كتم صوت الحقيقة وتغييب تلك الملفات دون إنارة للرأي العام في ما كان يُعتبرُ «صفقات تحت الطاولة» بين السياسيين وأجهزة الأمن والقضاء.
لكن اليوم ليس الأمس ، واللحظة هذه المرّة تستدعي «الحقيقة» ولا شيء غيرها وإلاّ ازدادت الأوضاع سوءا وتدهورا وتدحرجت كرة النار والحرائق لتلتهم المزيد. الجميع ينتظر اليوم من الأمن والعدالة – والّذين استعادا أجزاء من فاعليتهما ونجاعتهما- أن يُصارحا الناس بحقيقة ما يجري من «حرائق» وطبيعة الأيادي السياسيّة والحزبيّة الّتي تحّرك «كرة النار» وتضخّم موجة الحرائق وتدفع بالبلاد إلى هاوية الفتنة لا قدّر الله...قولوا لنا الحقيقة فلسنا «أغبياء» ، ما يجري تصفية لحسابات سياسيّة وقودها الفن والحريّة والدين والمقدّس والنعرات الجهويّة والعروشيّة ومنفذوها «متطرفون» و«مجرمون» لا يفقهون من السياسة وحساباتها شيئا.
أدلة وبراهين
ولأنّنا لسنا «أغبياء»، ولأنّ السياق المنهجي للتحليل يفترضُ في النهاية التدليل على أنّ ما جرى ليس اعتباطيّا ولا عفويّا ولا يُمكنه أن يكون كذلك ، هذا تعداد للأحداث السياسيّة البارزة الّتي عاشتها البلاد مؤخّرا والتي تستبطنُ تجاذبات سياسيّة انتهت إلى نوع من القطيعة أدّت – في اعتقادنا-إلى الصدام واشتعال الحرائق والنيران : إقدام الحكومة على خطوات في تطهير قطاعات حسّاسة منها تحديدا القضاء والديوانة وفتح ملفات فساد عديدة. طرح كتلة المؤتمر من اجل الجمهوريّة لمشروع قانون متعلّق باستبعاد التجمعيين من الحياة السياسيّة لخمس سنوات قادمة وبدء اللجان التأسيسيّة مناقشة المسألة. مطالبة طيف من المعارضة باستقالة حكومة الجبالي وتركيز حكومة إنقاذ وطني. بدء تنفيذ برنامج ميزانية الدولة للسنة الحالية وتكثيف زيارات الوفود الحكوميّة إلى الجهات. قُرب الإعلان عن مبادرة السيّد الباجي قائد السبسي والتي عرفت منعطفا حاسما وتداعيات هامّة نهاية الأسبوع المنقضي بعد أن تمّ الانزياح بروحها من «الجبهة» إلى «الحزب». هجمة ممنهجة لضرب المؤسّسة العسكريّة والمس من مصداقيتها والقدح في قياداتها. توتّر في العلاقة بين وزير الداخلية ونقابات الأمن حول «تسييس العمل النقابي داخل الأجهزة الأمنيّة». تحريض زعيم القاعدة أيمن الظواهري للتونسيين للعمل على إسقاط «حكومة النهضة» الّتي اتّبعت – حسب قوله- منهجا في استرضاء أمريكا والغرب والتهليل الّذي لقيه هذا التحريض من قبل العديد من الأوساط الإعلاميّة والحزبيّة.