عمال بشركة منتصبة بصحراء تطاوين يحتجون ويطالبون بإلغاء المناولة    سليانة: إستئناف أشغال مركز الصحة الأساسية بمنطقة المقاربة بسليانة الجنوبية    زلزال بقوة 6.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    مفزع: استشهاد أكثر من 100 صحفي خلال ستة أشهر في قطاع غزة..    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الثلاثاء 23 أفريل 2024    محمد الكوكي: هدفنا هو التأهل للمشاركة إفريقيا مع نهاية الموسم الحالي (فيديو)    غدًا طقس شتوي 100% مع أمطار غزيرة ب6 ولايات    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    سوسة: تعرض شاب لصعقة كهربائية أثناء تسلقه عمود كهربائي ذو ضغط عالي..    عاجل/ تحذير من بيض رخيص قد يحمل فيروس أنفلونزا الطيور..    بطولة ايطاليا : بولونيا يفوز على روما 3-1    اقتطاعات بالجملة من جرايات المتقاعدين...ماذا يحدث؟..    مترشحة للرئاسة تطرح استفتاء للشعب حول تعدد الزوجات في تونس..#خبر_عاجل    لأول مرة: التكنولوجيا التونسية تفتتح جناحا بمعرض "هانوفر" الدولي بألمانيا    الإطاحة ب 9 مروجين إثر مداهمات في سوسة    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    رغم منعه من السفر : مبروك كرشيد يغادر تونس!    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    طقس اليوم: أمطار في هذه المناطق وانخفاض في درجات الحرارة    مدنين: حجز 4700 حبة دواء مخدر وسط الكثبان الرملية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    مهرجان هوليوود للفيلم العربي: الفيلم التونسي 'إلى ابني' لظافر العابدين يتوج بجائزتين    نقل مغني فرنسي شهير إلى المستشفى بعد إصابته بطلق ناري    الأمم المتحدة: آسيا أكثر مناطق العالم تضرراً من كوارث المناخ ب2023    اتحاد الشغل بجبنيانة والعامرة يهدد بالإضراب العام    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    أراوخو يكشف عن آخر تطورات أزمته مع غوندوغان    البطولة الأفريقية للأندية الحائزة على الكأس في كرة اليد.. الترجي يفوز على شبيبة الأبيار الجزائري    الجزائر.. القضاء على إره.ابي واسترجاع سلاح من نوع "كلاشنكوف"    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    البنك التونسي السعودي ... الترفيع في رأس المال ب100 مليون دينار    في اختتام المهرجان الدولي «إيتيكات» بسوسة.. شعراء وفنانون عرب بصوت واحد: «صامدون حتى النصر»    هذه أبرز مخرجات الاجتماع التشاوري الأول بين رؤساء تونس والجزائر وليبيا    مذكّرات سياسي في «الشروق» (1)...وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم .. الخارجية التونسية... لا شرقية ولا غربية    المنستير.. الاحتفاظ بمدير مدرسة إعدادية وفتح بحث ضده بشبهة التحرش الجنسي    الإعلان عن تأسيس المجمع المهني للصناعة السينمائية لمنظمة الأعراف "كونكت"    بوعرقوب: القبض على 4 أشخاص كانوا بصدد سرقة أسلاك نحاسية خاصة بشركة عمومية    بداية من يوم غد: أمطار غزيرة وانخفاض في درجات الحرارة    استلام مشروع تركيز شبكة السوائل الطبية لوحدة العناية المركزة بقسم الأمراض الصدرية بالمستشفى الجامعي الهادي شاكر    تونس: وفاة 4 أطفال بسبب عدم توفّر الحليب الخاص بهم    الكاف: تقدم مشروع بناء سد ملاق العلوي بنسبة 84 %    بن عروس: توجيه 6 تنابيه لمخابز بسبب اخلالات تتعلق بشروط حفظ الصحة    وصول محمد الكوكي الى تونس فهل يكون المدرب الجديد للسي اس اس    باجة: انطلاق الاستعدادات لموسم الحصاد وسط توقعات بإنتاج متوسط نتيجة تضرّر 35 بالمائة من مساحات الحبوب بالجهة    بعد ترشّحها لانتخابات جامعة كرة القدم: انهاء مهام رئيسة الرابطة النسائية لكرة اليد    تقرير: شروط المؤسسات المالية الدولية تقوض أنظمة الأمان الاجتماعي    حليب أطفال متّهم بتدمير صحة الأطفال في الدول الفقيرة    تكريم هند صبري في مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة    بطولة الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الخامسة    رئيس غرفة القصّابين عن أسعار علّوش العيد: ''600 دينار تجيب دندونة مش علّوش''    وزارة الدفاع الوطني تعرض أحدث إصداراتها في مجال التراث العسكري بمعرض تونس الدولي للكتاب    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس    هاليب تنسحب من بطولة مدريد المفتوحة للتنس    لأقصى استفادة.. أفضل وقت لتناول الفيتامينات خلال اليوم    في سابقة غريبة: رصد حالة إصابة بكورونا استمرت 613 يوماً..!    أولا وأخيرا..الكل ضد الكل    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التقاه عبد الجليل المسعودي وخالد الحداد : الدكتور المنصف بن عبد الجليل ل «الشروق» - التونسي محصّن من كل تطرّف وغلوّ... بشرط توفّر الحرية
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2012


المنتدى
بعد استضافة الدكتورين حمادي بن جاء بالله وحمادي صمود يستضيف المنتدى اليوم الدكتور المنصف بن عبد الجليل الّذي أدلى بدلوه في مجمل القضايا السياسيّة والفكريّة المطروحة اليوم.

و«المنتدى» فضاء جديد فتحتهُ «الشروق» للتواصل مع قرائها بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكاديميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر، تبتعد عن ذلك الى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة اثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي 2011.

إنّ «المنتدى» هو فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا الى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الاعلاميّة اليوم، انّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و«صراع النخب» و«جدل المفكرين» و«تباين قراءات الجامعيين والأكاديميين من مختلف الاختصاصات ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والانسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.

وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة في حدود 400 كلمة) وبامكان السادة القراء موافاتنا بنصوصهم التفاعليّة مع ما يُنشر في المنتدى من حوارات على البريد الالكتروني التالي:news_khaled@yahoo. fr.

البداية لن تكون بعيدة عن الراهن السياسي والاجتماعي والثقافي في تونس. كيف يبدو لك الحدث الثوري الذي شهدته بلادنا؟ وهل حقّقت الثورة أهدافها؟ ما الذي حدث ويحدث حسب رأيك؟

أريد أن أشكركم أوّلا على تخصيص هذا الركن من صحيفة الشروق لاستجلاء آراء المثقّفين والمتابعين للشأن السياسي في ما حدث ببلادنا منذ 17 ديسمبر 2010. ولا شكّ أنّ القرّاء قد أدركوا اختلاف الآراء في المسألة بين من اعتبر الحدث ثورة بتمام معنى الكلمة لأنّه فعل انعتاق جماعي من الاستبداد بحثا عن الحريّة. ومن النّاس من رجّح أن يكون الأمر انتفاضة عفويّة لم تخطّط لها أيّ جهة، ولم يقدها أيّ حزب أو تنظيم يمكن اليوم أن يدّعي لنفسها فضل قيادة الجماهير أو الهامها. وهذا هو الذي أميل اليه شخصيّا. وأريد مع ذلك أن أوضّح أربعة جوانب:
انّ السبب الأساسي الذي دفع التونسيين الى الخروج الى الشارع، هو الاستبداد السياسي وانقلاب الدولة الى نظام معاد للمواطن. وعلى قدر فقدان احساس الناس بالظلم وفقدان الأمل، تفقد الدولة تدريجيّا شرعيّتها الفعليّة وان تذرّعت بشرعيّة نظريّة هي وهميّة. ونجد في ما قال ابن خلدون شاهدا بليغا من الحالة التونسيّة، قال في ايجاز جامع: «الظلم مؤذن بخراب العمران». و أعتبر أن حرق البوعزيزي نفسه على مرأى ومسمع من كلّ أبناء تونس ليمثّل منعطفا لم يدرك النظام وقتها أنّ تونس صنعت لنفسها رمزا جديدا ودشّنت عهدا نضاليّا من تاريخها المعاصر لا عهد للسياسيين به. تعالت الشعارات بلا خوف، ولا استكانة، ولا تردّد: «خبز وماء وبن علي لا»، ونعت أعضاء الحكومة ب»عصابة السرّاق»، وما كان يتداول سرّا بين الناس أضحى أمرا علنا. واستطاع البوعزيزي أن يتحوّل الى أيقونة المجاهرة بالحقّ، وتمثال الحريّة في صيغة تونسيّة، هي على غاية من البساطة والاثارة هزّت ضمائر العالم شرقا وغربا. ودعني أجمل ما أشرت اليه في عبارة الظلم أنّ النظام السابق قد اغتصب حقوق الناس وانتزع كلّ أمل لا يعيش المرء الاّ به. وانّه لمن المذهل أن تداس كرامة الناس بالمنع من العمل حتّى يدفعوا رشوة، وأن تفتح السيدة الأولى عنوة مجلس النواب، فتخطب وتبيّن، وتلهم، ويتلاحق بها الناس من الأعيان بمن فيهم المدير العام لمنظّمة الايسسكو حتّى قضّى بيننا ضيفا مبجّلا مدّة أطول ممّا كان يجب أن يقضّيه في بلد الالحاق، والحال أنّ سيّدتنا الأولى لم تبلغ درجة من العلم تميّز به الخيط الأبيض من الخيط الأسود. أليس من المذهل أن يتخرّج من الجامعة التونسيّة أعداد من الكفاءات لا تجد شغلا ولا آفاقا تلبّي حاجتهم أو تكافئ جهدهم؟ انّ مثل هذا الانخرام هو الذي خلق حالة من اليأس بدّدت خوف الناس وحملتهم على التجرّؤ على كلّ ممنوع وما أكثره.


انّ انتفاضة التونسيين على نظام الاستبداد وقد عاضده الفساد في كلّ القطاعات الحيويّة هو رفض لشبه الدولة، وهي الدولة القهريّة المنيعة بالأمن والبوليس لا بالمؤسّسات الشرعيّة وعلويّة القانون الممثّلة لسيادة الشعب، صاحب المصلحة الأولى. وليس هذا الموقف وليد لحظة نادرة واستثنائيّة من تاريخ البلاد التونسيّة المعاصر، وانّما هو موقف نشأ على التدريج بالتراكم من صلب المآسي التي عاشها التونسيون، مآسي الحوض المنجمي، وأسلوب التعامل مع الظاهرة الدينيّة، ومنهج التفكير في التعدّد الفكري وقبول المخالف، وتركيب الديمقراطيّة الوهميّة على غير أسّ الحريّة، الخ. والحاصل أنّ كلّ القوى المناضلة في تونس قد ساهمت بلبنة في صياغة وعي سياسي نقديّ سرعان ما تبلور في اقتلاع بن علي من جذوره.

وما من شكّ عندي في أنّ كلّ من تبنّى اليوم استئثاره بحمل التونسيين على الثورة ليس سوى مدلّس على الناس. وكلّ المغالطة أن يقرأ التاريخ القريب قراءة بعديّة فينتصر بنتائج الانتخابات بعد سنة من هروب بن علي على أنّ حزب النهضة هو الفاعل الأصلي في ثورة الناس. تلك مغالطة مازال الباحث عن الشرعيّة الفعليّة يكرّرها في شتّى الصيغ وفي كلّ المنتديات. ليست انتفاضة التونسيين فعلا دينيّا، وانّما كان ردّ فعل مدنيّ على انخرام نال الحقوق والحريّة. من أجل استرجاع تلك الحقوق وتأصيل الحريّة كانت هبّة التونسيين.

أشار السيد طارق رمضان الى التآمر على المجتمعات العربيّة وحلّل في كتابه «الاسلام واليقظة العربيّة» (L'Islam et le réveil Arabe) كيف استعدّت المجتمعات العربيّة قبل انتفاضتها لاستعمال آلة الاعلاميّة والمواقع الاجتماعيّة في احكام المعارضة للنظام القائم في كلّ من تونس ومصر خاصّة. ولم يستبعد أن تكون الولايات المتحدة الأمريكيّة طرفا في «صناعة» ما سمّي بالربيع العربي. وقد يحتاج المؤرّخ الى شيء من الوقت للبتّ في الأمر. ولكن اللافت مع ذلك أنّ الأمثلة التي قدّمها طارق رمضان أمثلة توهم بأنّها حقيقيّة.

ومال الى ترجيح نظريّة المؤامرة. والشعور الذي اكتسبه التونسيّون من معاينتهم للأحداث أنّ انتفاضتهم هي ثورة، وأنّها نابعة من حقدهم على ظلم بن علي ونظامهم القهري. ورأوا أنّهم صاغوا لتاريخهم وللعالم أجمع نموذجيّا ثوريّا طالما حلموا به. والدليل الرمزي على تونسيّته أن أضحى «أبو القاسم الشابي» الشاعر التونسي أيقونة عالميّة. في كلّ ذلك ما يدلّ على أنّ الربيع العربيّ صنع محلّي وليس مؤامرة سيق فيها السذج كالأنعام. ورغم هذا الأمر فليحذر التونسيّون أن يكون حلمهم «منامة عتاريس». بل كلّ الخشية أن ترفع شعارات أخرى من قبيل «بوخشم ولا هاالهمّ»، وهو تماما ما نشرته بعض الاستطلاعات من نسب مثيرة تتمثّل في أنّ 42% من التونسيين يفضّلون بن علي! وهذا يقودنا الى الملاحظة الأخيرة عن تحقيق الثورة أهدافها.

كم تراني كنت سعيدا لو حقّقت الثورة أهدافها. لو كان الأمر كذلك ما كنت لتسمع مثل الشعارات التي ذكرناها آنفا. ومع ذلك يمكن أن نقول انّ الكثير ممّا حلم به التونسيّون قد تحقّق بالفعل، ولا يمكن انكاره ! لقد اقتلع بن علي وفرّ فرار الجبناء، وفي ذلك درس للجميع، الحاضر والقادم. وتحرّرت الصحافة من قيود كثيرة. وفي اليوم الذي بدأت فيه وسائل الاعلام تحرج النظام القائم، كان ذلك دليلا على حريّة الصحافة واستقلاليّتها. وحقّقت تونس أيضا انتخابات شرعيّة ونزيهة يمكن أن تعتزّ بها أيّا كانت نتيجتها. وتحقّقت أيضا قدرة التونسيين على مشاكلهم العالقة من الاستبداد السياسي في ظرف من الزمن وجيز نسبيّا. ونضيف أنّ القضاء في طريقه الى الاستقلال، وأنّ الخطأ الذي أقدمت عليه الحكومة بعزل 82 قاضيا سيبقى معرّة لمنافاته لكلّ الاجراءات القانونيّة والتعتيم على معايير انتقاء القضاة. انّ مؤسّسة القضاء لن تنسى هذا ولن تفرّط في حقّها، وستخبر الأيّام بما لم تتوقّعه الحكومة. وعلى الرغم ممّا تحقّق للتونسيين، فانّ ما يجري اليوم خطير للغاية. لعلّه من المفيد أن أشير الى ثلاث ظواهر لا يختلف عليها اثنان. مغالطة حزب النهضة كلّ التونسيين بالتزامه أنّه حزب سياسي لا دينيّ.

واذا به يتحوّل على التدريج الى حزب دينيّ بامتياز. وقد استعمل كلّ الوسائل الدينيّة الرمزيّة للتأثير في ضمائر الناس، والاستحواذ على مسألة الهويّة، والاستئثار بالشأن الديني. ولم يقف عند هذا الحدّ، بل تجاوز ذلك الى حدّ التخطيط لتغيير مقوّمات المدنيّة التي من أجلها قامت انتفاضة الناس. والمعضلة النكراء أنّ الحزب الفائز في الانتخابات باستدرار عواطف الناس الدينيّة لا يملك رؤية واضحة في ادارة الشأن السياسي وما يليه من سائر الشؤون الأخرى التي يتقوّم بها مجتمع عليه أن يغالب التحدّيات التنمويّة الحديثة، والاّ ظلّ مجتمعا في غيبوبة.

والظاهرة الثانية أنّ نشهد ممارسة استبداديّة يتولّى فيه الحزب ادارة الدولة. واذا ثار التونسيون من أجل الفصل بين الحزب الحاكم والدولة، فنحن نرى من جديد أن حزب النهضة لا يتوانى عن التدخّل في شتّى دواليب الحكم بحجّة الشرعيّة الانتخابيّة. والأدهى أنّ الحزب الحاكم مؤسّس على مشيخة تغلّف فيها الشرعيّة المدنيّة بالشرعيّة الدينيّة.

لذلك يدعى للشيخ المستحوذ على كلّ السلطات، بأن «رضي الله عنه». والظاهرة الثالثة أن عدلت الانتخابات عن مسارها. فالمعلن أنّ مهمّة المنتخبين هي تحرير دستور جدير ببلاد حديثة تبني على مكتسباتها ما منعها الاستبداد تأسيسه وتطويره. ولكنّ الحادث أن هرعت أحزاب الحكم الى تقاسم الرئاسة والسيادة ولو كان ذلك بتشكيل حكومة لها الحقّ في التربّص، وما ضير أن يكون في الحكومة ما يناهز المائة عضو؟ أليس في التربّص تنمية للكفاءات استعدادا للحاجة اليها يوم الضيق؟ عفوا، انّى لأعتذر لكلّ التونسيين أن حلمنا معا حلما ضاع مع بوادر الصبح، ولمّا تبزغ الشمس. هنيئا لنا بالتعليم الأصلي بالزيتونة حيث سيكوّن خمسون طبيبا، وسيتخرّج أهل العلوم الصحيحة، وسننافس أكبر الجامعات !!. هنيئا لنا بخطباء أفذاذ انهالوا على فنّانينا سبّا وتهديدا، وهنيئا لنا بمجتمع منقّب، لا يرى الاّ من وراء حجاب. عفوا، لم تحقّق الثورة صرخة الشهداء، ولا صيحة الجرحى، وانّما فتحت بلادنا عنوة ونال منها أهل الغنيمة ما أفاء الله عليهم.


هل الثورة في تغيير رأس النظام أم هي التغيير في البنية والأنساق، أم هي النتيجة بعد أن «تهدأ الأخلاط» على حدّ عبارة الجاحظ؟

أراكما مازلتما تتحدّثان عن ثورة في وصف ما حدث بتونس، وهذا رأيكما لا أنازعكما فيه، وانّما أرى أنّها انتفاضة تهيّأ لها من العوامل التي بيّنّا ما دفع بالناس الى الخروج في غير ما تخطيط، ولا قيادة، ولا إيديولوجيا، ولا ترتيب حزبي أوسياسي. كان كلّ ما طلب الناس أن يرحل بن علي، وأن تتحرّر ارادة الشعب وأن يصبح أفراد المجتمع مواطنين ذوي أهليّة تامّة في اختيار من أرادوا وتقرير ما شاؤوا. واذا قبلنا هذا الرأي تبيّن أنّ النمط الجديد الذي تريد الانتفاضة تحقيقه هو بلا شكّ نمط مجتمعي، نعني بذلك نظاما اجتماعيّا بالتوازي مع حسن تدبير الناس وترتيب أحوال معاشهم، ويستند كلّ من تلك الأنظمة الى أربعة مبادئ كبرى، هي الحريّة الضامنة لحقوق الناس ومسؤوليتهم العينيّة، والمساواة بينهم في كلّ ما يخصّهم مواطنين لا رعايا، لا يميّز في ذلك بين المرأة والرجل، ولا بين الأفراد من أهل الديانات المختلفة أو العقائد المتنوّعة.

ويدور الأصل الثالث على مدنيّة الدولة بكلّ مؤسّساتها اللازمة لتصريف شؤونها، ويخصّ الأصل الرابع محوريّة المسألة القانونيّة في كلّ ما ينتظم به المجتمع وتتقوّم به سلطة الدولة. وبذا ترى أنّ التغيير المجتمعي المنشود في تونس هو قبل كلّ شيء تغيير في الرؤية والفكر أي على حدّ عبارتكما في النظم والأنساق. بعد ذلك تكون الترجمة في كلّ تفاصيلها العمرانيّة.

بعد ركام من التنظيرات السياسيّة والفكريّة، وبعد محاولات نظريّة وعمليّة، وبعد كتابات زعم أصحابها أنّها مشاريع للنهضة والتحديث والتغيير، من حسن حنفي الى محمد عابد الجابري ومحمد أركون، وغيرهم كثير مّمن أنت أدرى بهم، هل أسهم المفكّر العربي في تغيير الواقع وفي أن يكون دوره عضويّا» في الحضارة والتاريخ في الواقع والمثال، في قراءة الماضي وتشخيص الحاضر، واستشراف المستقبل؟ هل أسهم المثقّف في الثورة، على غرار مثقّفي الغرب؟

على الرغم من تهميش المفكّر والمثقّف في العالم العربي»ّ والاسلامي، فانّ آراءهم ومشاريعهم قد أثّرت في المحاضن التي نشأوا فيها بل منهم من تجاوزها الى غيرها من الأماكن والمجتمعات. قد لا تصدّق أن يكون للمفكّر محمد أركون أثر في نخبة لا يستهان بعددها بالمملكة العربيّة السعوديّة. ولتنظر الى مثل ما ترك نور خالص مجيد مؤسّس الاسلام الليبرالي بأندونيسيا تر أثره في شقّ كبير من الأندونيسيين، والماليزيين وكثير من مسلمي سنغافورة.

وما تأسيس جامعة برامدينا بجاكرتا، وما دار حول مفهوم البانكاشيلا (Pancasila) والمجتمع المدني الاّ من أثر آراء مفكرين ليبراليين مثل نورخالص مجيد. لذلك أعتقد أنّ المجتمع الأندونيسي قد أخذ بآراء مفكّريه ونظم رؤية في مدنيّة الدولة والمجتمع زاد مفهوم التعدّديّة طرافة هناك. نعم أعتقد أنّ المفكّرين العرب قد استنبتوا في مجتمعاتهم أفكارا لم تذهب أدراج الرياح، وانّما أثّرت في وعي الناس ونظرتهم، وان لم ينصفهم السياسي، وعاداهم في غالب الأحيان. أمّا الانتفاضة التونسيّة فلا أظنّ أنّ المثقّف قد هيّأ لها الاّ من باب ما حصل للنّاس من فكره عبر السنين الطويلة. ولنتذكّر مجريات الأحداث بعد 17 ديسمبر 2010، لم يكن المثقّف ممّن كانوا يقودون العصيان المدنيّ ولا الاعتصامات الأولى، وانّما لحق بعد تشكّل الجبهات الكثيرة. والظاهر أنّ النخبة من التونسيين قد فوجئت أيضا بما حدث.

انقشع «غبار الثورات» العربيّة وجاء «المنقذون»، أفرزتهم الشعوب، أفرزهم التاريخ، أفرزهم الواقع والديمقراطيّة الوليدة، جاء الاسلام السياسي بديلا. فكيف تنظر الى القادم «الشرعي»؟ كيف ترى مشروعه الفكري والحضاري؟

دعاني أبيّن أمرا لا جدال فيه هو أنّ الانتخابات في تونس لا تشوبها شائبة، وأنّ الأحزاب الثلاثة التي تعاضدت لتتولّى تحرير الدستور وما يلي ذلك من الشؤون السياسيّة لا يطعن في شرعيّتها أحد. وانّما كلّ الأمر يتمثّل في عدولها عن صياغة الدستور الى حكم البلاد بلا رؤية واضحة، ولا كفاءة في مجابهة المسائل الشائكة، وعلى رأسها المسائل الاقتصاديّة التي قامت من أجلها انتفاضة الناس. لقد قلنا هذا وكرّرناه، والأمثلة على التخبّط في ادارة الدولة عديدة. في هذا الأفق أجيب عن سؤالكما. نعم انتخب التونسيّون أوّلا الحزب ذا المرجعيّة الاسلاميّة، واستفاد حزب النهضة من نضاله، والتعذيب الذي نال أتباعه، والمظالم التي سلّطت على قيادييه، مثله في ذلك أتباع أحزاب المعارضة المعروفة. ولكنّ التعبئة التي حقّقتها النهضة كانت كبيرة، وتوسّلت الى ذلك بتوظيف المساجد والمسامرات، والبرامج الاذاعيّة والصحافة، الخ.

وساعد على نجاح النهضة في الانتخابات طريقة الانتخاب، وتشتّت الأحزاب الصغرى. ولكن أعتقد أنّ هذه السنة من الحكم الفعلي توقف الناس على كفاءة حزب النهضة في ادارة شؤون البلاد. رأيي أنّ النهضة لا تملك رؤية سياسيّة واضحة، بل لا تقدر على الالتزام ببعض الأصول المبدئيّة التي نالت بها اعجاب الدول الكبرى والمجتمعات الدوليّة، مثل القول بمدنيّة الدولة، ومدنيّة القوانين والتشريعات، والمساواة بين الجنسين، وأهل الأديان كافّة. وتدلّ المناقشات في المجلس التأسيسي على تراجع النهضة عن المكاسب التي ظنّ التونسيّون أنّهم لن يفرّطوا، خاصّة ما يتعلّق بالأحوال الشخصيّة، والتعليم، وترتيب الادارة، وتنظيم الاقتصاد بما يضمن الانخراط في اقتصاد عالمي شديد المنافسة، سريع التطوّر.

انّ عودة الاسلام السياسي في تونس أمر متوقّع لأنّه بقي بمثابة المسائل المعلّقة التي لم تواجه جذريّا، ولم يسمح فيها النقاش الفكري والسياسي. أمّا وقد حان وقتها، فخير اختبارها تجريبها، وأنتما لا تريا منذ البدء عجز الحكومة الراهنة عن حلّ المشاكل الحقيقيّة، وتلهية الناس بقضايا لم ينتفض الناس من أجلها، ولا طالبوا بها. ورأيي أن يفصل الدين عن السياسة، لتستقيم السياسة فنّ التدبير بما يضمن الحقوق والعدل، ويحثّ على الكسب بالضوابط الحديثة التي لا غنى عنها، تماما كسائق الطائرة، ليس له الاّ أن يقود طائرته بضوابط الملاحة المعلومة التي يستوي فيها أهل الدراية جميعا. ليس للاسلام السياسي أكثر ممّا أدّاه في تركيا مثلا، وأنكى ما أحدثه قسمة المجتمع الى فريقين، لذلك تراجع التدبير السياسي بالدين، بعد أن تولّت مؤسّسة الجيش حماية الجمهوريّة. ولكنّ الأمر في تونس مختلف.

في ضوء ما يقع بين الفينة والأخرى من مظاهر للتعدّي على الحرّيّات وعودة الى الاستبداد من قبل السلفيين والمتطرفين بالتحديد، هل توجد لديك مخاوف من استبداد باسم الدين وحماية المقدسات في تونس مثلما ذلك موجود اليوم عند عدد من النخب والسياسيين ؟

لا شكّ عندي أنّ الاستبداد العسكري هو أقلّ خطورة من الاستبداد باسم الدين، وان كانت المقترنة بين أمرين فاسدين لا تجدي نفعا. الأخذ بأيّ شكل من أشكال الاستبداد مرذول وجريمة لأنّه سطو على حقوق الناس. ولكن هذه النظرة لا يحملها السلفيّون لأنّهم لا يرون في استعمال الدين استبدادا، بل على العكس من ذلك يرون في التشدّد الديني صفة محمودة ظنّا منهم أنّهم يؤدّون واجبا هو واجب عين لا واجب كفاية. وينظرون الى أنفسهم باعتبارهم بقية الدين، و»الدين يبدأ غريبا ويعود غريبا، فطوبى للغرباء»، فيما يتداول أصحاب هذه النظرة. ويذكّرني هذا الموقف الديني المتشدّد بالمناظرات الحادّة بين فرقاء المسلمين في القرون الأولى من التاريخ الاسلامي، ففريق يصف الآخر بالتشدّد وغيره يردّ عليه بتهمة التقصير، وهكذا.

والمهمّ من هذا أنّ النظرة عند السلفيين هي نظرة مؤسّسة على موقف حنيني واعتباري من الماضي الاسلامي، وهو فهم عاطفي للفترة النبويّة التأسيسيّة، فهم فيه اختزال شديد لمجريات الأحداث، وتبسيط لفترة معقّدة وحسّاسة، وتمثّل مريح للضمير كما شاء أن يكون الماضي وأجياله، لا كما كان الأمر في سياق التاريخ. السلفيّون، في ظنّهم، يستحيون تلك اللحظات الاستثنائيّة، ويعيشونها افتراضا بحماسة شديدة، خارج المقام والزمان، ولا معنى عندهم لشيء مثل الاستبداد وما يتعلّق به. انّهم يفكّرون من داخل منظومة أخرى، لا علاقة لها بمنطق الدولة الديمقراطيّة ولا بمسألة الحريّات الأساسيّة، ولا بالمواطنة، فكلّ هذا مردود عندهم. لذلك لا أرى أنّهم يحنّون الى الدولة القمعيّة التي سادت في الحضارة العربيّة، كما جاء في سؤالكما، لأنّ فهمهم للأشياء مختلف.

كيف تنظر الى التطرّف الديني والتطرّف المذهبي في الاسلام وفي غيره من الديانات؟ هل هما آليّة من آليّات التهويل والتحويل في الخطاب الديني قصد الهيمنة وبسط النفوذ وازاحة أو اقصاء كل الخطابات المخالفة؟ أم هما تعبيرة طبيعيّة تاريخيّة يمكن أن تتعايش مع تعبيرات أخرى كالاعتدال والوسطية وغيرها؟

لقد أنفقنا جهدا ووقتا طويلا للاجابة على هذا السؤال الهام. ومبلغ ما انتهينا اليه من دراسة أمثلة دقيقة أنه على قدر الاستبداد ينشأ التطرّف.

وأظنّ أنّ ما يحدث في تونس أمر لا بدّ منه، لأنّ التونسيين مثل غيرهم، لم يتحدّثوا في الشأن الديني ومتعلّقاتها حديث العالم والمؤرّخ والمفكّر الاّ فيما ندر، ولم تعقد لذلك الملتقيات الجادّة، ولم تتكافح الآراء بالحجج، وأرجئ الأمر الى حين تتوفّر للناس حريّة التعبير، وهو ما تمّ لنا منذ اقتلاع بن علي ودحر نظامه. لا شكّ أنّ مجتمعنا سيمرّ باضطرابات كما تمرّ الطائرة باضطرابات جويّة، ولكن على القائد الماهر أن لا يخرج عن مسار رحلته، والاّ تاه وعرّض حياة الركّاب للخطر المتأكّد. على الحكومة والمجتمع المدني، مثل قائد الطائرة أن يمنعا حيد المجتمع عن مبادئ الثورة والأهداف التي قامت من أجلها.

ولنذكّر مرّة أخرى أنّ الشعب أطلق «خبز وماء وبن علي لا» ولم يطلق ما يخصّ دينه، ولا هويّته، فذاك أمر محسوم. شخصيّا لا يخيفني أمر السلفيين، لأنّه أمر محسوم. للتاريخ دوره في أن تبقي سننه ما وافقها. وللتونسي ضمير وكيان أخلاقي (éthos) يمنعان كلّ تطرّف أو غلوّ ديني ومذهبي وفكري، بشرط أن يتوفّر أصل الحريّة، ومن أجل ذلك انتفض الناس وخرجوا الى الشارع في هبّة واحدة.

ألا يمكن التوفيق في الممارسة بين الاسلام والحداثة بمقولاتها ومقالاته؟ وهل تتناقض الديمقراطيّة والاختلاف ودولة القانون والحرّيّات مع تعاليم الاسلام وتشريعاته؟
هذا سؤال أصبح ممجوجا لكثرة ما ألّف فيه، وتنازع فيه أهل الذكر وغيرهم. وأختزل الرأي جوابا عليه باشارتين: أولاهما أنّ عبارة «الاسلام» في سؤالكما لا تصحّ لأنّه تعميم باطل، وانّما الأصحّ أن نتحدّث عن فكر اسلامي.

والثانية أنّ الحديث عن مقوّمات الحداثة يستدعي أن يكون الدين شأنا شخصيّا، لا يستعمل في ادارة الشأن السياسي، ولا في النظرة الى المسألة الأخلاقيّة، ولا في سنّ القوانين والتشريعات، ولا في تشكيل مراجع الشرعيّة. فاذا داخل الفكر الديني كلّ هذه الممارسات المدنيّة، كان وبالا على انتظام المجتمع ومسيرته نحو التنمية والتقدّم، لأنّ أوّل أصل يسطو عليه المتكلّم باسم الدين هو اغتصاب حقوق الناس وأوّلها حقّه في الحريّة. فكّرا قليلا في افتاء الأزهر بحرق ألف ليلة وليلة، ومنع غيرها من المؤلّفات الأدبيّة الجريئة، وانظرا اليوم الى تجريح بعض الخطباء فنّانينا الى حدّ أنهم هدّدوا حياتهم. وأدعوكما أن تنظرا في شروط الانتداب ببعض الجامعات الاسلاميّة لترىا اشتراط الاعتقاد في المترشّح بدل الاكتفاء بالكفاءة والخبرة، الخ. أليس في هذا سطو على حريّة الناس، وتجاوز للحدود المدنيّة التي تتحقّق بها أصول المواطنة؟

ما العلاقة بين «الثقافي» و»السياسي» وكيف ترى الجدل بين مثاليّة «القيمة» وبراغماتيّة «المنفعة»؟

بين الثقافي والسياسي جدليّة تمنع أن يتماهى أحدهما مع الآخر أو يذوب أحدهما في الآخر. وأظنّ أنّ الثقافي يمثّل الرؤية الفكريّة الجامعة التي تسم مجتمعا من المجتمعات، وتفسّر مواقفه وطرق تحليله للظواهر التي قد تطرأ هنا وهناك.

وأعتبر في هذا السياق أنّ الشأن الثقافي على اختلاف المجال، من فكر وأدب وفنّ ومعرفة عموما، هو النظرة التي تنصهر فيها تلك المجالات المفردة وتتحوّل في أفقها الى رؤية شاملة للوجود. وبهذا يكون الشأن السياسي جزءا من تلك الرؤية الشاملة، يوفّر لها ما استطاع الأرضيّة الصالحة للتحقّق والتطوّر والتعمّق، و تبادله بدورها مهمّة التأكّد من غائيّة الفعل السياسي، وحسن التدبير أو ما أضحى يسمّى اليوم بمصطلح «الحوكمة». انّي أؤكّد هنا تقدّم الثقافي على السياسي.

وان كان الشأن الثقافي في جملة ما يرمي اليه، ترسيخ القيم الانسانيّة الكونيّة، ومنها تحرير الفكر مثلا، فانّ السياسة بما يمنع تلك الحريّة لأجل غاية حزبيّة أو نفعيّة، تكون معارضة للثقافي، الى حين أن تعمل الجدليّة عملها وتحقّق شيئا من الانتظام بينهما. وأقول شخصيّا بأثر الثقافي في الشأن السياسي تماما كما قلت بتقدّم الثقافي على السياسي. وانّى لواثق بأنّ فنّانينا وأدباءنا ومفكّرينا وكلّ حملة الهمّ المعرفي والعلمي سيلوّنون الشأن السياسي بالرؤية الفكريّة الجامعة لكلّ التونسيين.

الدين والفنّ: ما هي الممكنات في هذه العلاقة وما هي المحاذير؟

عدنا الى جدليّة السياسي والثقافي ! دعاني أبدي ملاحظة أرجو ألاّ تثير مواقف عاطفيّة، وهي أنّ جلّ الأديان قد طوّرت علاقتها بالفنّ، بالموسيقي والايقاع والانشاد، والرسم، والنحت، وحتّى الأدب. ولا يذهبنّ الظنّ أنّها علاقة تمجيديّة يكون الفنّ بموجبها في خدمة الدين أو المذهب العقدي، وانّما كان ذاك فعلا وضدّه. والمهمّ من هذه الملاحظة أنّ المتديّنين والروحانيين قد استطاعوا أن يوسّعوا أفق الايمان نحو مزيد الوعي بجماليّة الفنّ وبلاغته وعمق تعبيره عن كوامن النفس البشريّة في كلّ حيرتها وتقلّباتها ومشارف ابداعها.

والفنّ في كلّ هذه التعبيرات ليس محاكاة للواقع، ولا تصميما مبتذلا للحقائق، وانّما هو ابداع خلاّق يعبّر عن رؤى الناس وحساسياتهم نحو ما يطرأ لهم. فاللوحة المحيلة على مرجع ديني، وكذا القطعة الموسيقيّة، والمنحوتة، الخ. .. هي بمثابة الرحلة الصوفيّة التي تسبر أغوار النفس ذاتا وجمعا. وما غاية صاحبها الاّ أن يحقّق شيئا من الاطراب والتحرّر الخلاق. أمّا فقهاء المسلمين فانّهم لم يتركوا شاردة ولا واردة الاّ قيّدوها، وأصبح الفنّ الخلاق كارثة على صاحبه باسم العقيدة. والناظر في آراء الكثير ممّن تصدّى للفتيا يجد تحريما للتصوير والرسم والموسيقى. وتلغى بذلك متعة التنعّم بالفنّ وجماليّته. انّ الهجمة الشرسة على أهل المسرح اليوم، والتجريح الذي نال رسّامينا ومبدعينا، على مرأى ومسمع من الحكومة الشرعيّة ومؤسّسات الدولة، بل انّ حديث السيد وزير الثقافة عن حدود المقدّس في الفنّ ليدلّ كلّ ذلك على ابتذال الخطاب السياسي، وبؤس النظرة الى الفنّ، والنفعيّة المجحفة التي يترضّى بها الوزير الحزب الذي ارتضى تعيينه على رأس الوزارة. انّى لا أرى محاذير في الفنّ لأنّ الفنّ حريّة أو لا يكون. والدين يجني كلّ خير من الفنّ لو علم المتديّنون. وعلى المفكّرين المسلمين المعاصرين أن يقتفوا أثر الجرجاني في قوله «والشعر بمعزل عن الدين»، وكذا الفنّ، على رأي الجرجاني نفسه، ان كان لا بدّ من سلف نتّبعه.

أنت عميد لكلّيّة الآداب والعلوم الانسانيّة بسوسة، بعد الثورة، فما هي محاولات الاصلاح التي قمت بها وأين مشاريع التجديد التي تحلم بتنفيذها في محيطك هذا؟
لا أعتقد أن بكلّيّة الآداب والعلوم الانسانيّة، جامعة سوسة، أمرا يحتاج الى الاصلاح. انّ لهذه المؤسّسة تاريخا واشعاعا معلومين. فهي وريثة دار المعلّمين العليا في اختصاص الآداب والعلوم الانسانيّة، وهي اليوم فضاء أكاديمي يشرف على تكوين ما يقارب 6000 طالب في اختصاصات خمسة، يساهم في ذلك أكثر من 300 أستاذ من ذوي الرتب المختلفة. فادارة هذه المؤسّسة أمر لا يتيسّر الاّ بتضافر كلّ الجهود. ولا يسعني هنا الاّ أن أتقدّم بعبارات الامتنان للأساتذة الذين تحمّلوا مسؤوليّتهم معي في ادارة الكليّة، وحمايتها من الاندراج في النفعيّة الحزبيّة والسياسيّة.

والمهمّ أنّنا حرصنا على البناء على قواعد وضعها من كان قبلنا من السادة العمداء والزملاء أعضاء المجالس العلميّة. وانّما اضافتنا جزئيّة، وتتمثّل في تطوير الكليّة نحو دعم العلوم الانسانيّة والاجتماعيّة، في ظرف ظهرت هجمة شرسة عل كليّات الآداب والعلوم الانسانيّة. وقد قبلت الجامعة مشكورة مشروع احداث معهد للأنثروبولوجيا الثقافيّة والاجتماعيّة، وهو أوّ مؤسّسة من نوعها بالبلاد التونسيّة. والمشروع مازال قيد النظر حسب التراتيب الجاري بها العمل. وقد رتّبنا لتدريس هذا الاختصاص بتكوين فريق تدريس من جامعات تونسيّة وأجنبيّة لكليّة الآداب معها اتفاقيّات تعاون. وظنّنا أنّنا سنوفّر اختصاصا ممتعا ومفيدا.

وقد وجّهنا اهتمامنا الى احداث برامج في الانسانيّات يكون تدريسها باللغة الأنجليزيّة. وقد قبلنا مسرورين اقتراح جامعة سيتي بلندن تمويل ماجستير مهني في علم الصحافة، وهو برنامج تتولّى الكليّة الاشراف عليه، وتكون الشهادة أنقليزيّة. وهذا مشروع في مراحله الأخيرة من المباحثات.

وتباحثنا مع جهات أمريكيّة على دعم الدراسات الأنقليزيّة ببعث برنامج يهتمّ بتكوين المكوّنين في اللغة الأنقليزيّة، وخاصّة منهم من يدرّسون اللغة الأنقليزيّة بالمدارس الاعداديّة والابتدائيّة. ويتنزّل هذا النشاط في حرص على تطوير الكليّة نحو احداث مدرسة لفلسفة التربية والبيداغوغيا.

وتوجد مشاريع أخرى تخصّ المكتبة التي شرعنا في تطويرها من مكتبة تدريس الى مكتبة بحث ذات اختصاص. ولم نتأخّر عن التفكير في تطوير الحياة الفكريّة والثقافيّة بالكليّة تماما كاهتمامنا بالحياة الطالبيّة حتّى تكون الكليّة فضاء فكريّا وأكاديميّا بامتياز، يحمي نفسه بالمعرفة، ويؤدّى دوره المجتمعي بالمعرفة أيضا دون سواها. وآخر ما تمّ انجازها منذ أيام قليلة تأسيس جمعيّة قدماء كليّة الآداب والعلوم الانسانيّة بسوسة للاستفادة من كلّ الكفاءات التي تخرّجت من المؤسّسة أو تلك التي درّست بها. فالدعوة للجميع حتّى يدعموا الكليّة وطلبتها.

سمّاك البعض من طلبتك وزملائك «عميد المشاريع الكبرى»، ما حقيقة هذه التسمية؟ وما هي الافادة التي حصلت لك من تجربتك في الجامعات الأجنبيّة؟

هذه مبالغة ممّن يحبّنا ! بل اسألا غيرهم ترى أنّهم أميل الى استنقاص جهدنا. وهذا أيضا أمر طبيعي لا يكون الناس على رأي واحد. أمّا الاستفادة من الجامعات الأجنبيّة فتتمثّل في المعارف الجديدة التي تعلّمتها، والدراسات التي اطّلعت عليها في الابّان، وقد كانت ممنوعة في العهد البائد. ولعلّ أهمّ فائدة جنيتها أنّي تنقّلت كثيرا ودرّست في أكثر من 6 بلدان بين بريطانيا وكندا وألمانيا والباكستان وكينيا وأندونيسيا. وقد جرّبت هناك الكثير من المسائل ووقفت على آراء فكريّة متعدّدة وسّعت آفاق النظر عندي. أمّا لغتي الأنقليزيّة فقد جادت بما يسمح اليوم أن أنشر في تلك اللغة. ولا أخفي أنّ العلاقات العلميّة التي ربطتها بدت اليوم مفيدة في اغناء الكليّة بالخبرات الأجنبيّة.
كأنّنا نعود معك الى صفة «العميد» في دلالتها الأولى/النواة، قبل أن يصبح اداريّا مسؤولا.

لم أعتبر نفسي يوما عميدا، الاّ عند المسؤوليّة العينيّة عن المؤسّسة. ولكنّي أرى نفسي دائما أستاذا وباحثا بالكليّة. ولمّا كان القرار جماعيّا وكذلك التخطيط، لم يكن هناك بدّ من تحويل العمادة الى مؤسّسة لتصوّر البرامج الأكاديميّة الجديدة لا تكليسها في الشأن الاداري.

نفهم منك أنّ دور المؤسّسة الجامعيّة لا ينحصر في تخريج «التقني/ الآلة» فقط، بل يتعدّاه الى تكون الشخصيّة الخلاّقة والعقل المدبّر والفكر النقدي لدى الشعب، بما يحمله من قيم وأحلام وطرائق تنفيذ. هل يمكن أن يتحقّق ذلك في عصر العولمة، عصر التماثل الماسخ ومسطرة التنميط؟ ما العلاقة بين الخصوصيّة والكونيّة؟

أظنّ أنّ العولمة لا تناقض الثقافة المحليّة. ويكفي أن تراجع أعمال عالم الاجتماع الأمريكي بيتر برجر في هذا المضمار لتقف على الانتظام التام بين وعي المجتمعات بثقافاتها المحليّة وانفتاحها على عالم الألفيّة الثالثة حضاراته بما فيها تحدّياته. العولمة حقيقة نافذة الى كلّ الشعوب، ونحن نتنفّس على ايقاعها، ومنخرطون فعلا فيها، ومن الغباء ادّعاء مقاومتها والخرج عن فلكها، ومن الحكمة ترتيب العلاقة بها. أظنّ أن العلوم الانسانيّة التي تقبل على تدريسها كلّيات الآداب هى التي تخوّل وضع العولمة في نصابها، والترتيب لما يكون منها مفيدا وبنّاء للشأن المحلّي، في غير انبتات ولا انغلاق. انّ اتقان مزيد من اللغات الحيّة، واطّلاع طلبتنا على الثقافات الأخرى وتيسير السفر لهم الى بلدان متنوّعة ليزيد البعد الكوني رسوخا في ضمائرنا والمعارف التي ننهض بتدريسها.


هل مازال مطروحا على المثقّف والأكاديمي والمفكّر، دور المشاركة في الهمّ اليومي العامّ، والانصات الى «نبض الشارع» السياسي والثقافي والاجتماعي؟ أم أنّ دوره التنظير والنظر الى الراهن من كوّة أو شرفة؟

لا غنى للمثقّف عن الانصات المتأنّي الى وقع الشارع ومراقبة التحوّلات الدقيقة في مجتمعنا. وفي كلّ الأحوال، لا يمكن أن يعيش المثقّف التونسي المعاصر خارج ما يحدث يوميّا أمام عينيه، الاّ أن يكون في غيبوبة. وما يدور بين الناس الآن أنّنا لا نستطيع ملاحقة الأحداث لسرعة نسقها وعجز المفكّر والمؤرّخ عن تحليل الأحداث ساعة حدوثها ! ولا شكّ أنّ شيئا من الوقت ضروريّ لفهم الأشياء والظواهر فهما أسلم. أمّا عن الهجمة السلفيّة، فقد تصدّى لها طلبتنا وموظّفو الكليّة وأساتذتها ممّن كان لهم همّ معرفي وأخلاقي ثابت، ووعي نقابيّ لا يزايد عليه. أمّا العميد فلم يكن سوى مترجم لهذه الارادة الجامعة، ولا يزيد فضله عن فضل زملائه.

نعود الى الواقع في تونس: أين يكمن الحلّ في كنف هذا الاحتقان بل الانفجار أحيانا، في مختلف مجالات الحياة؟ هل هو الصراع البنّاء؟ هل هو صراع «الأقران»؟ ما هو المطلوب بالضبط؟

نشهد اليوم احتقانا في تونس كما قلتما. ولا مناص من تجاوزه الاّ بحلّ جذري يتمثّل في أن تكفل الدولة ومؤسّساتها الحقوق للجميع، وأن تمنع كلّ انحراف عن أصول المدنيّة التي انتفض من أجلها التونسيّون، وأن تطبّق القانون بالصرامة اللازمة كلّما اقتضى الأمر ذلك. عندها يكون الصراع وكلّ أشكال التجاذبات السياسيّة أمرا مقبولا ما دام لا يبلغ مبلغ العنف والتشجيع على الكراهية والفرقة بين التونسيين. ولمّا كانت الدولة في طور الترسّخ والتدرّب على الديمقراطيّة مجابهة بذلك مشاكل الفقر والبطالة والانخرام الأمني والجهويّات والعصبيّات، فانّ على المجتمع المدني بكلّ رؤاها وكذلك أحزاب المعارضة المساعدة على التقليل من هذا الاختناق، واقتراح الحلول منعا لكلّ تعكّر يزيد الحالة سوءا. ولا يخفى أيضا دور المثقّف والمفكّر في هذا المسار.

بعد دعوات أيمن الظواهري للتونسيّين، ووسط أحاديث عن انتشار التشيّع وظهور الوهّابيّة والأحباش وغيرهم، يخشى البعض أن تصبح بلادنا مرتعا للطائفيّة وملاذا للتطرّف؟
أجد في وصفكما للواقع التونسي شيئا من المبالغة والتهويل. لقد عاش الفاطميون في افريقيّة مدّة كانت تسمح ببقاء أثرهم في الثقافة والحضارة والشخصيّة التونسيّة المعاصرة. ولكن يندر أن ترى ذلك الاّ ان كنت مؤرّخا أو عالم آثار. ولئن كنت مع التنوّع الدينيّ والتعدّد المذهبي لأنّه يزيد المجتمع اغناء، فإني لا أرى من حولي اليوم أعدادا هامّة من الشيعة أو الأحباش وممّن ذكرتما. ولا يعني هذا أنّي أنكر الظاهرة بالتعامي، ولكنّ أقدّر الأمور حقّ قدرها ووزنها. وفي كلّ حال يجب ألّا تحجب الشجرة الغابة. واذا كان التونسيّون لا يعلمون شيئا عن الأحباش، فانّ لمن التجنّي عليهم أن يوصف مستقبل تونس بقابليّته للطائفيّة منها الأحباش.

يرى البعض أنّك، وان لم تكن مدافعا عن النظام السياسي السابق أو منخرطا فيه، كنت من المفكرين والمثقّفين الذين كانوا سلبيّين في معارضته أو التشهير بممارساته أو على الأقل القيام بما ينتظر ممن كانوا في علمك ومكانتك وثقافتك؟

طرح علي هذا السؤال أكثر من مرّة، وعادة ما يقرنونه بعملي مستشارا لدى وزير التربية والعلوم، الأستاذ محمد الشرفي، ثم من بعده مستشارا لدى وزير التعليم العالي والبحث العلمي، الأستاذ الدالي الجازي. والواقع أنّها مهمّة استشاريّة جمعتني بثلّة من الخبراء والكفاءات الجامعيّة العاليّة، ويسّرت لي الى المشاركة في اصلاح النظام التربوي أيّام المرحوم محمد الشرفي والمفكّر البارز ممّن تعتزّ بهم تونس. مثلما يسّرت الخطّة الثانية مع المرحوم الدالي الجازي أن أهتمّ بالدراسات الدينيّة العليا والانكباب خاصّة على اصلاح جامعة الزيتونة مع ثلّة من الكفاءات الزيتونيين.

وقد كنت في كلّ ما أنجزت متشبّثا بصفتي الأكاديميّة، واختصاصي في الاسلاميّات. ولم يحدث يوما ماّ أن أختار نهجا لا أرتضيه علميّا ولا فكريّا. ولئن داخل عمل المعرفي والأكاديمي جانب من الشأن السياسي، فانّ ذلك يعود الى أنّ انقطاع السياسي عن سائر الشؤون الأخرى هو من باب المحال. لذلك تراني اليوم معتزّا بما أنجزت من تصوّر الدراسات الاسلاميّة بالمدرسة التونسيّة وجامعة الزيتونة، على الرغم ممّا ألحق بالبرامج والاصلاح من فساد وتشويه. أنا أتحدّث عن فترة تاريخيّة ليس لأيّ كان أن ينكرها أ ويسكت عنها.

لقد بقيت أكاديميّا، ولم أفارق الجامعة حتّى أيّام الاستشارة. وبذلك كانت مساهمتنا في ترسيخ الفكر النقدي، ونشر المنهج التاريخي التحليلي في فهم الظواهر فهما يمنع التزييف والكذب وإعاقة الشرعيّة حتى لا تقوم. وانّه لمن دواعي السعادة أنّ طلبة كليّة الآداب والعلوم الانسانيّة بسوسة كانوا من أوائل الطلبة الذين قاوموا بن علي ونظامه أشرس مقاومة، وهم اليوم كعهدي بهم على كلمة واحدة: «لن يمرّوا» يقولونها لكلّ من أراد أن يسرق منهم انتفاضتهم وأملهم في غدهم.

يرى البعض أنّ هناك مدرسة واحدة تهيمن على فرق البحث والتدريس في مجال الدراسات الحضارية بالجامعة التونسية، ألا ترى أنّ هذه المسألة كانت من بين عراقيل حريّة البحث الأكاديمي ثمّ كيف تنظرون إلى أفق هذه الحرّيّات في هذه المرحلة الجديدة من عمر الدولة التونسيّة؟

يجب أن نلاحظ البحث العلمي في اختصاص العلوم الإنسانيّة عموما مازال دون المأمول. فوحدات البحث قليلة نسبيّا، ولا تمثّل مشاريعها نشاطا شيئا من استقرار سنّة البحث في المؤسّسات.

بل يكفي أن نتابع المنشورات حتّى قلّتها، وضآلة نصيب البحوث الحضاريّة منها. أمّا عن اتّجاه وحدات البحث في اختصاص الدراسات الحضاريّة، فموصول بالتكوين الأصلي للباحثين، إذ هم إمّا مؤرّخون، أو من أهل الدراسات العربيّة أو فلاسفة أو من خرّيجي علم الاجتماع، وأثّر هذا التنوّع في التكوين في اتّجاهات الدراسات، وإن اتّفقت في ظهور ما يمكن تسميته ب«المدرسة التونسيّة» ذات الاتجاه التاريخي النقدي أو كما يقول هشام جعيط «الاستقرائي التفهّمي». ولادة جدال في أنّ شخصيّات فكريّة مرموقة قد طبعت بذكائها اتّجاه الدراسات الحضاريّة، ومنها شخصيّة عبد المجيد الشرفي في قسم العربيّة وشخصيّة هشام جعيّط في قسم التاريخ. ولم يمنع هذا التألّق الفردي وتحوّل فكر الآحاد إلى مدرسة يحمل رايتها أجيال من الطلبة من ظهورها اتّجاهات أخرى في صلب الجامعة الزيتونيّة وغيرها من الجامعات ومراكز البحث.

ولكنّ سادت المدرسة التاريخيّة النقديّة، أو الاستقرائيّة التفهّميّة لما أنفذت إليه من النتائج الطريفة، والمراجعات النقديّة المثيرة، وعدول الذهن عن استطراف المكرّر الممجوج في عصر تسارع التحصيل، وانقلاب المعارف العلميّة رأسا على عقب. لذلك لا أرى أنّ سيادة مدرسة على غيرها ممّا يعرقل حرّيّة البحث الأكاديمي، ولا أظنّ أصلا أنّها وحدات البحث المختصّة في الدراسات الحضاريّة تمثّلا اتّجاها واحدا، لما بين أفرادها وباحثيها من اختلافات نوعيّة في المنهج، والتكوين. وإنّى لواثق في مثل هذه المرحلة من التحرّر السياسي والتعدّد الحزبيّ، من أن يجني البحث العملي كلّه خير، إلاّ أن تتحوّل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يساندها السيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي رقيبا على الدراسات الحضاريّة. عندها سينزّل ذاك الصنف من الدراسات منزلة المقدّسات، وسيفتي في البحوث الحضاريّة الطريفة مثلما أفتى السيد وزير الثقافة في الرسم والفنّ عموما، وبئس البحث العلمي إن قنّنه فقيه، وتاجر به سائس !

يذهب البعض إلى أنّ هناك تنظير غربي للقبول والتعاطي مع الأحزاب السياسية الإسلامية كإحدى نتائج ربيع الثورات العربيّة، إلى أيّ مدى سينجح وسيتواصل هذا القبول وهل بإمكان عقل غربي أن يقبل مراجعات في هذه الأهمّيّة بعد عقود من التواصل مع أنظمة دكتاتوريّة وشموليّة؟
اعتقادي أنّ هذا التواصل مع الغرب سيبقى ببقاء المصالح السياسيّة، وليس ذلك مزيّة من أيّ طرف. ولننتبه إلى أمرين، أوّلهما أنّ الغرب ليس فضاء واحدا، وليست له رؤية واحدة، وإنّما هو متعدّد، وكذلك مصالحه بل مصالح كلّ كتلة من كتله. والثاني أنّ العزلة لم تعد أمرا ممكنا، لا من قبل الغرب، ولا من قبل التونسيين والعرب. العزلة السياسيّة دوليّا حكم على الذات بالإعدام الحضاري والاقتصادي، وما ادّعاء الصفاء الأخلاقي والديني والاجتماعي إلاّ ترّهات لا يسوقها إلاّ من كان غرّا أو جاهلا. أمّا عن دراسة العقود الماضيّة لترتيب سياسة الحاضر والمستقبل، فكلّ الرجاء أن يتريّث الناس لتستقيم صورة ما حدث دونما تشويه.

تميّز المشهد في تونس مباشرة ما بعد 14 جانفي 2011 باستقطاب إيديولوجي كان مرّات في غاية العنف، هل توافق البعض الذي يذهب إلى وجود مخاطر حقيقيّة على انسجام المجتمع التونسي ووحدته ونمط العيش الذي عرف به والذي تميّز على مدى قرون بالوسطيّة والاعتدال؟

تحدّثت سابقا عن ضمير تونسي وكيان أخلاقي يسميه أهل الفلسفة ب éthos. ذاك هو المانع من كلّ انحراف ومغالاة. لا خشية عندي على تونس، لأنها بلد قادر على الانسجام، وتجاوز المحن الطارئة، وتمثّل الحداثة كأحسن ما يكون التمثّل. ولكن ذلك كلّه بشرط أن يلتزم بالشرعيّة المدنيّة، وألا يتاجر بالدين من أجل تسويق بضاعة الجهل. لو انتفى هذا الشرط لأضحينا كائنات غريبة عن هذا الكوكب، وسيقول الناس مرّة أخرى «بوخشم ولا ها الهم» ! فليحذر الجميع وأد النفس بالجهل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.