رئيس الجمهورية قيس سعيد ... الشعب التونسي ينتظر «ثورة تشريعية» في كل المجالات    القصرين: تمتد على 2000 متر مربع: اكتشاف أول بؤرة ل«الحشرة القرمزية»    انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي لمركز «أكساد»    اليمن تعلن بدء المرحلة الرابعة من التصعيد: البحر المتوسط ممنوع على الصهاينة    مع الشروق .. عندما تعرّي الثورة الطلابية المبادئ الأمريكية الزائفة    بطاقتا إيداع بالسجن في حقّ فنان‬ من أجل العنف والسرقة    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    المركب الثقافي بمدنين يحتضن فعاليات الملتقى الجهوي للمسرح بالوسط المدرسي    محاميتها تتحدث عن كواليس ليلة القبض على الإعلامية حليمة بولند    رئيس الحكومة يشرف على مجلس وزاري مضيق: التفاصيل    المحمدية.. القبض على شخص محكوم ب 14 سنة سجنا    تالة: مهرجان الحصان البربري وأيام الاستثمار والتنمية    "سلوكه مستفز": الافريقي يطالب بتغيير هذا الحكم في مباراته ضد الصفاقسي    حالة الطقس هذه الليلة    سوسة: ايقاف مروج مخدرات وحجز 500 قرصا مخدرا    عاجل/ قضية "اللوبيينغ" المرفوعة ضد النهضة: آخر المستجدات..    فاو: ارتفاع مؤشر أسعار الغذاء... اللحوم والزيوت النباتية والحبوب    توقيع محضر اتفاق بين وزارة التربية وجامعة التعليم الأساسي .    جلسة عمل بين ممثلين عن هيئة الانتخابات ووزارة الخارجية حول الاستعدادات للاستحقاقات الانتخابية القادمة    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    عاجل/ أعمارهم بين ال 16 و 22 سنة: القبض على 4 شبان متورطين في جريمة قتل    العثور على جثة آدمية مُلقاة بهذه الطريق الوطنية    نتائج قرعة الدورين ثمن وربع النهائي لكاس تونس لكرة القدم    ألكاراز ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة بسبب الإصابة    توطين مهاجرين غير نظاميين من افريقيا جنوب الصحراء في باجة: المكلف بتسيير الولاية يوضّح    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها    الرابطة الأولى: تعيينات حكام مقابلات الجولة الثانية إيابا لمرحلة تفادي النزول    كرة اليد: بن صالح لن يكون مع المنتخب والبوغانمي لن يعود    مراسلون بلا حدود: تونس في المرتبة 118 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لسنة 2024    الرابطة الأولى: النادي البنزرتي يستضيف الأولمبي الباجي في حوار فض الشراكة في الصدارة    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    مدنين: حجز 50 طنا من المواد الغذائية المدعّمة    قرعة كأس تونس 2024.    الحماية المدنية:15حالة وفاة و500إصابة خلال 24ساعة.    الحمامات: اختتام فعاليّات الصالون المتوسّطي للتغذية الحيوانيّة وتربية الماشية    السعودية: انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة "أكساد"    188 قتيلا في فيضانات جراء الأمطار بكينيا..#خبر_عاجل    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    منظمة إرشاد المستهلك:أبلغنا المفتي بجملة من الإستفسارات الشرعية لعيد الإضحى ومسألة التداين لإقتناء الأضحية.    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    أعمارهم بين 13 و16 سنة.. مشتبه بهم في تخريب مدرسة    جدل حول آثار خطيرة للقاح أسترازينيكا مالقصة ؟    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    عاجل/ الأمن يتدخل لاخلاء محيط مقر مفوضية شؤون اللاجئين في البحيرة من الأفارفة..    زلزال بقوة 4.2 درجة يضرب إقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان    خطير/ خبير في الأمن السيبراني يكشف: "هكذا تتجسس الهواتف الذكية علينا وعلى حياتنا اليومية"..    اليونسكو تمنح جائزة حرية الصحافة للصحافيين الفلسطينيين    العمل شرف وعبادة    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    "أنثى السنجاب".. أغنية أطفال مصرية تحصد مليار مشاهدة    بايدن يتحدى احتجاجات الطلبة.. "لن أغير سياستي"    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنان عبد الله الشاهد    وفاة الممثل عبد الله الشاهد‬    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    ''أسترازنيكا'' تعترف بأنّ لقاحها له آثار قاتلة: رياض دغفوس للتونسيين ''ماتخافوش''    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نفحات من التفسير - الجزء الثاني
نشر في الحوار نت يوم 22 - 12 - 2009


الجزء الثاني
مفهوم السياسة بين المنطق العقلي والوحي وصلته بالواقع الحضاري

قال الله تعالى : " بسم الله الرحمان الرحيم : والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر(2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (3) ". لكي نرى ما يدل في هذه السورة على أصول سعي الإنسان السياسي علينا أن نحدد مفهوم السعي السياسي العام بما أمكن من الدقة ثم نقارب بين هذا المفهوم ومعاني آيات هذه السورة.
إن مصطلح " السياسة " يطلق اليوم على " فن الارتقاء بالمجتمع الإنساني من واقع مفضول إلى واقع أفضل منه " . وإن ما يعرف عن فن أنه ذوق وإحساس بالوجدان وعلم وتدبير بالعقل. وإن المقصود بالارتقاء هو السعي من مرتبة دنيا إلى مرتبة أعلى منها في شتى اتجاهات السعي التي يعرفها الإنسان والتي تجمعها أربعة اتجاهات كبرى هي الاتجاه السياسي. وأما المقصود بالمجتمع فهو كل جمع بشري تجمع بين أفراده روابط عقدية فكرية واجتماعية اقتصادية وثقافية وسياسية فهو إما قبيلة أو شعب يضم عدة قبائل أو أمة تضم عدة شعوب. وأما الواقع فهو الحال الظاهر الذي يكون عليه الأفراد والروابط التي تربط بينهم وصورته متغيرة بين طرفي نقيض، كالإيمان والكفر، والغنى والفقر، والتماسك والتفرق، والعلم والجهل، والعدل والظلم، والحرّية والاستبداد.
فالسياسة هي البحث والوجدان عن السبيل التي تجعل سعي المجتمع يرتفع به من حال عقدي فمري اجتماعي اقتصادي وثقافي وسياسي إلى حال أفضل، حتى إذا ما بلغ الأفراد أفضلها عرفوا معنى السعادة . فالغاية البعيدة للسياسة هي السعادة، كما رأينا أن غاية السعي العقدي الفكري هي الكمال. والمقصود " بالسعادة" في الواقع الإنساني هو " صفاء الفرد في ذاته وانسجامه مع غيره" فهي حالة ذاتية وجماعية لها جوانب عقدية فكرية واجتماعية اقتصادية وثقافية وسياسية، إذا أن صفاء الفرد في ذاته له شروط عقدية فكرية واقتصادية وثقافية وانسجامه مع غيره له شروط اجتماعية وثقافية وسياسية . إن الفرد في ذاته هو أن يرى صفات وأفعال الفطرة الحسية التي خلق عليها ، كالإيمان والعدل والإحسان والصدق ، ظاهرة فيه ونقيضاتها غريبة منه ، وأن تجد سبيلا سد حاجات عيشه كالطعام والشراب واللباس والمسكن . وأما انسجامه مع غيره فهو أن يرى نفسه مرتبطا بغير بروابط المودة والرحمة والأمن والسلام والحق والعدل.
إن السعادة هي إذن حالة الفطرة الذاتية وحالة الفطرة الجماعية مقترنتان إحداهما بالأخرى في الواقع المجتمعي. فإن غابت إحداهما أو افترقت إحداهما عن الأخرى لم يبلغ حالة السعادة.
إن حالة الفطرة الذاتية والجماعية، وهي حالة الإنسان المشرقة، وهي حالة يملكها كل فرد في باطنه العميق ولكن الذي يمنعها من أن تطفو إلي السطح وتظهر في الواقع الفردي والمجتمعي وهو سعي الإنسان لإظهار حالة نقيضة لها هي أيضا كامنة في باطنه العميق وهي حالته المظلمة . إن الإنسان في باطنه العميق حالتين متناقضتين من الفطرة الذاتية والجماعية ، حالة السعادة وحالة الشفاء . وهو بإدارته وسعيه قادر على أن يجعل إحداهما تطفوا إلى السطح وتظهر في الواقع والأخرى ترسب في القاع العميق فتختفي عن الواقع . وإن هذه الإرادة والسعي إلى السعادة هي التي سميناها " سياسة". إن السياسة بهذا المعنى هي سعي يبدأ عند كل فرد من المجتمع وليس خاصا بفئة أو مجموعة منه، فتقول عندئذ أن المجتمع " يشوس" نفسه إذا سعى كل فرد فيه إلى إخراج حالته المشرقة من الباطن إلى الواقع وتغييب حالته المظلمة عن الواقع . إن السياسة تبدأ عند الفرد وتنتهي عند المجتمع، فمبدؤها الفرد وغايتها المجتمع وسبيلها سعي نحو السعادة أي الحالة المضيئة في الإنسان . وإن المجتمع ليسوس نفسه إذا ساس كل فرد فيه نفسه فحملها على إطار وجهها المشرق وإخفاء وجهها المظلم.
وإن قدره الناس على سياسة أنفسهم تختلف بينهم اختلافا كبيرا، فمنهم من يظهر منه أكثر ما في وجهه المشرق وتخفي منه أكثر ما في وجهه المظلم، ومنهم من يظهر منه أكثر ما في وجهه المظلم وتختفي منه أكثر ما في وجهه المشرق، ومنهم من لا يظهر منه إلا القليل من هذا أو القليل من ذاك لذلك يترتب عن سياسة الناس لأنفسهم واقعا بعيدا عن حالة السعادة. فيحتاج المجتمع عندئذ إلى سياسة مجتمعية تقربه إلى هذه الحالة . فالسياسة إذن قسمان، قسم سياسة الفرد لنفسه ، وقسم سياسة المجتمع، ولكن مبدأ الأولى تختلف عن مبدأ الثانية، إذ الأولى مبدؤها الفرد والثانية مبدؤها المجتمع . وإن قسم سياسة المجتمع لنفسه هو ما اصطلحنا عليه بفنّ الإرتقاء بالمجتمع من واقع مفضول إلى واقع أفضل منه، وهو مصطلح السياسة في عمومه.
إن سياسة المجتمع لنفسه هي حاجة نشأت عن اختلاف الناس في سياستهم لأنفسهم، وما هذا الإختلاف إلا تناقض في السياسات الفردية تجعل الأفراد يسعون في اتجاهات متناقضة ومت.... فيبعدون عن غاية السعادة . فسياسة المجتمع لنفسه هي إذن إزالة تناقض السياسات الفردية حتى لا تكون الحصيلة العامة لهذه السياسات إلا سعي نحو غاية واحدة هي سعادة المجتمع . إن " السياسة" هي حاجة يفرضها الواقع الإنساني بوجهيه المشرق والمظلم وبقسميه الجزئي والكلي، إذ الواقع الإنساني يحتاج بطبعه إلى إظهار وجه المجتمع المشرق وإخفاء وجهه المظلم، ولا سبيل إلى ذلك إلا برفع التناقض بين الجزئي والكلّي ، أي بين الأفراد والمجتمع لقد رأينا فيما سبق أن السياسة هي فن، وأن الفن هو ذوق وإحساس بالوجدان وعلم وتدبير بالعقل . فأين هو وجه الحق في هذا الرأي؟ لقد رأينا أن غاية السياسة البعيدة هي السعادة، وأن السعادة في الواقع الإنساني هي صفاء الفرد في ذاته وانسجامه مع غيره. فبماذا يعرف الفرد صفاءه الذاتي وكيف يصل إليه ؟ أليس بالوجدان ذوقا وإحساسا. ثم كيف يعرف انسجامه مع غيره وكيف يصل إليه؟ بالعقل علما وتدبيرا تارة وبالوجدان ذوقا وإحساسا تارة أخرى . فالسبيل إلى الصّفاء الذاتي والانسجام الجماعي، الذي هو سبيل السياسة، ما هو إلا سبيل الوجدان والعقل معا، وذلك هو سبيل الفن . فالسياسة هي إذن فن يحكم أن سبيلها وسبيل الفن واحد.
ولكن ما هي سيمات هذا الصفاء الذاتي فسيمته ظهور وجه الطبع الإنساني المشرق واختفاء وجهه المظلم ، أي ظهور وجه الحق واختفاء وجه الباطل، لأن الطبع المشرق هو الحق والطبع المظلم هو الباطل . فالصفاء الذاتي إنما يعرف ذوقا بالحق الظاهر وإن هذه المعرفة الذوقية ما هي إلا " الإيمان" فللصفاء الذاتي سمة أولى هي الإيمان بالحق. ولقد رأينا أيضا أن صفاء الفرد في ذاته مشروط بسد حاجات معيشته من طعام وشراب وملبس ومسكن، وإن السبيل إلى ذلك هو العمل الصالح، فالسمة الثانية للصفاء الذاتي هي العمل الصالح. وأما الانسجام الجماعي الذي يدرك بالعقل فإن من سيماته رفع التناقض بين أجزاء الكل أي بين الفرد والجماعة،ة كما رأينا سابقا ولكن ما معنى رفع التناقض بين أجزاء الكل؟ أليس هو قبول كل جزء بما يراه أو يطلبه أجزاء آخرون من الحق ، فسبيل رفع التناقض بين الإفراد إنما هو التقاؤهم حول رؤية واحدة الحق وتحمّل مشقة السعي إليها جميعا وذلك هو الصّبر . إن من سيمات الإنسجام الجماعي إذن الإرتقاء حول الحق، والصبر في السعي إليه.
هكذا نرى أن السعادة التي هي صفاء ذاتي وانسجام الحق والصبر . وهذه السيمات هي التي جاءت في سورة العصر كسبيل للفوز بالسعادة : إذ قال فيها تعالى " إن الانسان لفي خسر " أي خسر السعادة ولم يفز بها " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتوصوا بالحق وتوصوا بالصبر" . ولقد رأينا أن الفوز بالسعادة هو غاية السياسة . فسورة العصر قد بينت إذن أصول السياسة التي بها يفوز الإنسان بالسعادة وهي نفس الأصول الأربعة التي وصلنا إليها بالتحليل المنطقي لمفهوم السياسة والسعادة. هكذا نرى التقاء الوحي والمنطق العقلي حول مفهوم السياسة.
إن بهذا الإلتقاء المبين عقليا تسقط حجة كل من يريد أن يجعل حاجزا بين السياسة وأصولها الدينية إما عن جهل بهذه الأصول وإما عن جهل بمفهوم السياسة المنطقي . إن آيات سورة العصر الثلاث ليست هي وحدها التي تبين ارتباط مفهوم السياسة العقلي بأصوله الدينية بل تبينه أيضا آيات كثيرة أخرى من القرآن والسنة النبوية الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أول من ربط في الواقع بين السياسة وأصولها الدينية .
إن سورة العصر مكية أي أنها نزلت قبل الهجرة أي قبل أن تنشأ الدولة الإسلامية الأولى في يثرب، وهذا يعني أن مفهوم السياسة بأصوله الدينية ليس مرتبطا بمفهوم السياسة الدينية هو مفهوم عام مرتبط بكل مجموعة بشرية تربط بينها روابط عقدية فكرية أو اجتماعية اقتصادية او ثقافية أو سياسية ولو لم تكن لها دولة وهي ما يعرف بالأحزاب السياسية. إن الحزب السياسي الذي يربط مفهوم السياسية المنطقي بأصوله الدينية.
إنما يعطي لمفهوم السياسة معناه الكامل والصحيح، وكذلك الدولة التي تربط مفهوم السياسة المنطقي بأصوله الدينية. ذلك أن الأصل هو الرابط بينهما والاستثناء هو الفصل بينهما . إن الفصل بين الدين وسياسة الدولة أو سياسة الحزب السياسي هو ما يعرف باللائكية التي هو مفهوم دخيل على المجتمعات الإسلامية وغريب عنها، استورده بعض مفكر بها وحكامها من دول الغرب ظنا منهم بأنه شرط من شروط الوصول الى ما وصلت إليه هذه الدول من التقدم والازدهار. وهو جزء من الفصل بين الدين وكل جوانب سعي الانسان أي السعي اللائكية هي مذهب فكري في رؤية العلاقة بين الدين وحياة الانسان المجتمعية مبني على الانفصال الكلي بينهما . فهو يحكم بأن الدين لا شأن له بالروابط الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تربط بين أفراد المجتمع وإنما هو أمر خاص بالأفراد ، أي هو ليس أكثر من شعائر فردية كالصلاة والصوم والحج . إن الإنفضال بين الدين والمجتمع الذي يحكم به مذهب اللائكية يعني ضرورة الفصل بين الدين وكل مؤسسات المجتمع، السياسة كالدولة والأحزاب السياسية والاجتماعية كالجمعيات الثقافية والخيرية وغيرها، والاقتصادية كالشركات الفلاحية والصناعية والتجارية، والثقافية كالمدارس والمعاهد والكليات.
لقد قلنا أن المذهب الفكري مستورد من الغرب وذلك لأنه ظهر أول ما ظهر في المجتمعات الأوروبية على أيدي بعض المفكرين والفلاسفة لمّا كانت الكنيسة المسيحية في أوجه سيطرتها على تلك المجتمعات ولمّا بلغت تلك المجتمعات أسفل درجات الشفاء والبؤس فظن عندئذ هؤلاء المفكرون والفلاسفة والعلماء أن الدين المسيحي وبؤسه، وهو ظن خاطئ إذ لم يفرّقوا بين الدين المسيحي وبين الكنيسة المسيحية أي رجال الدين الذين كانوا يشرّعون للمجتمع المسيحي ويسوسونه . ذلك أن هؤلاء قد ابتعدوا عن أصول هذا الدين وزاغوا عن أحكامه إلى حدّ أن شرّعوا من الأحكام والقوانين ما هو متناقض تماما مع أصول الدين ويعملون به في واد آخر، ولكن رجال الكنيسة كانوا ينسبون كل ما يحكمون ويعملون إلى الدين حتى استيقن الناس ذلك ولا سيما المفكرون والفالسفة والعلماء الذين كانوا يجهلون حقيقة الدين، فارتبطت عندئذ * صورة الدين الحقيقية بصورة الفكر الديني المتخلف الذي أشاعه رجال الدين وهذا هو الخطأ الأصولي الذي وقع فيه هؤلاء . وهو خطأنا شيء عن جهلهم بالصورة الحقيقية للدين ، إذ لو علموها لفرّقوا بينها وبين الفكر الديني الغريب عنها الذي ابتدعته الكنيسة آنذاك، ولرأوا أن فكر الكنيسة المسيحية آنذاك هو أبعد ما يكون عن أصول المسيحية . ولذلك فأنهم عوض أن يرفضوا فكر رجال الدين لمّا رأوا فيه الضّلالة بعينها رفضوا الدين جملة وتفصيلا، وعوض أن ينسبوا شقاء المجتمع المسيحي وبؤسه إلى فكر رجال الدين نسبوه إلى الدين ذاته، فرفضوا الدين والفكر الديني معا وقالوا أن الهداية والنور إنما هما في الفكر الذي ليس له أي صلة بالفكر الديني وخلاص المجتمع من الشفاء والبؤس إنما الهو في الفصل بينه وبين الدين . وهكذا نشأت اللائكية على أساس نبذ الفكر الديني والفصل بين الدين والمجتمع.
إن اللائكية قد جاءت نتيجة عاملين رئيسيين، الأول هو انحراف رجال الكنيسة المسيحية عن اصول دينهم فكر وعملا وعمّا يقتضيه التطور الفكري والعلمي والثاني هو جهل الفلاسفة والمفكرين والعلماء بأصول المسيحية فلو أفلح رجال الكنيسة المسيحية في وضع فكر يربط بين أصول دينهم بأصوله وفروعه غير مشوّهة بتراكمات الضلالات الفكرية المتعاقبة عليه عبر العصور لما نشأت اللائكية، ولو جد رجال الدين والفلاسفة مساحة فكرية مشتركة يقفون عليها جميعا ومنهجا واحدا يسوقون فيه المجتمع لإخراجه من واقع الشفاء والبؤس.
وإن هذين العاملين الذي جعل اللائكية ترى النور في المجتمعات الإسلامية مضاف إليها عامل ثالث هو عامل الاحتكاك الحضاري. إذ مرّت هذه المجتمعات بفترة نضب فيها معين الفكر الديني الصافي أو كاد وخيّم عليها فيها شبح البؤس والشفاء والوهن حتى تداعت عليها الشعوب الأوروبية كما تتداعى الجياع على قصعتها، وبذلك التحقت الشروط الكافية لنبات اللائكية في أرضها كما التقت قبل ذلك اللائكية في المجتمعات الأوروبية.
انه لمّا غزت الحضارة الأوروبية الشعوب الإسلامية لتستأثر بخيراتها وغلبتها على أرها بالقوة العسكرية استفاقة هذه الشعوب لترى أنها قد هوت إلى الدرجات السفلى من السلّم الحضاري بينما كانت الشعوب الأوروبية ترتقي إلى الدرجات العليا. فطفق عندئذ بعض مفكّريها قادتها يتساءلون عن العوامل التي جعلت زمام الحضارة والقوة يفلة من أيديهم ويستقر بأيدي الشعوب الأوروبية . وبعد درس الجدذور الفكرية للنهضة الأوروبية الحديثة وتمصيصها علموا أن مذهب اللائكية كان أحد عواملها الرئيسية وأن الشعوب الأوروبية لم تكن لتخرج من واقع البؤس والشفاء وتبني هذه الحضارة التي قهرت بها الشعوب الإسلامية إلا لمّا نبذت الفكر الديني وفرّقت بين الدين والمجتمع بل وأنكرت حتى الأصول العقدية في الدين كالإيمان بالله واليوم الآخر.ثم إن هؤلاء لمّا نظروا في واقع المجتمعات الإسلامية راوا فيه بعض سيمات واقع المجتمعات الأوروبية قبل نهضتها الحديثة وأبرزها تخلّف الفكر الديني وانتشار عوامل البؤس والشفاء في المجتمع كالفقر والجهل والمرض. فقالوا عندئذ انه لا خلاص لنا من واقعنا المتخلف ولن تكون لنا نهضة تضاهي نهضة الشعوب الأوروبية القوية والمزدهرة إلا باتباع مذهب اللائكية.
هكذا وقع هؤلاء المفكرون والقادة المسلمون في نفس الخطا الذي وقع فيه رواد اللائكية الأوروبية بل وأضافوا إليه خطأ آخر هو وضع تشخيص وعلاج واحد لنمطين مجتمعيين مختلفين اختلافا جذريا هما النمط المسيحي الأوروبي والنمط الإسلامي . إذ أنه رغم التشابه بين بعض سيمات واقع المجتمعات الأوروبية قبل نهضتها وواقع المجتمعات الإسلامية في فترة تخلّفها فإن كثيرا من السيمات الأخرى تجعلهما مختلفين تماما دينيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا. فلئن كان التخلف واحدا فإن عوامله ومظاهره المتعددة قد تختلف من مجتمع إلى آخر كيف وكما، فالخروج منه عندئذ لا يكون بنفس السبيل وجوبا، بل إن سبيل الخروج من التخلف ينبغي أن تختلف باختلاف عوامله ومظاهره، ومن لم يراع هذا الإختلاف فقد أخطأ التشخيص والعلاج معا.
وإن من أبسط مظاهر الإختلاف بين تخلف المجتمعات المسيحية الأوروبية والمجتمعات الإسلامية فكريا ودينيا هو أن الأولى كانت تخضع إلى سلطة فكرية دينية تسمى " الكنيسة المسيحية" وتضم عددا من كبار رجال الدين ولها نواميسها وطقوسها وتنظيماتها الخاصة ونفوذها يسري في كل طبقات المجتمع بما في ذلك الطبقات السياسية العليا والدنيا فهي تكاد تكون صاحبة النفوذ المطلق فكريا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا واقتصاديا . فاذا ما أصاب هذه الكنيسة الوهن والجمود والمرض سرى كل ذلك في المجتمع بكل طبقاته . لذلك يصدق القول أن تخلف المجتمعات الأوروبية وبؤسها مرتبط ارتباطا عضويا ومباشرا وقويا " بالكنيسة المسيحية " . أما المجتمعات الإسلامية فلم تكن تخضع لمثل هذه السلطة الفكرية الدينية ، حتى وإن كان لرجال الدين دور في توجيه المجتمع ، إذ لم يكن لهؤلاء تنظيم وسلطة خاصة تجعلهم أصحاب نفوذ فكري واجتماعي وسياسي وثقافي واقتصادي يسرى في كل طبقات المجتمع.لذلك لم يكن واقع الفكر الديني في المجتمعات الإسلامية مرتبطا عضويا ومباشرا بواقع المجتمع العام . فقد يكون الفكر الديني متقدما في الوقت الذي يكون فيه واقع المجتمع متخلفا أو العكس. لذلك فإنه لا يصدق القول وجوبا بأن تخلف الفكر الديني، إذ قد يكون الفكر الديني بريئا من ذلك ويكون السبب الحقيقي للتخلف سياسيا ومرتبطا بالطبقة السياسية وفكرها وعملها.
هذا أحد وجود الإختلاف الكثير بين واقع المجتمعات المسيحية الأوروبية والمجتمعات الإسلامية في عصور تخلّفها التي تفرض أن يكون تشخيص المرض وترتيب العلاج مختلفا تماما بينهما . فقد كان على المفكرين والقادة * في المجتمعات الإسلامية أن يفرقوا بين مظاهر تخلف المجتمعات المسيحية في القرون الوسطى ومظاهر تخلف المجتمعات الإسلامية ثم أن يفرقوا بين عوامل تخلّفهما ثم أن يفرّقوا أخيرا بين سبيل نهضتهما. ولو فعلوا ذلك لما وجدوا حاجة البنة إلى اتباع سبيل اللائكية للنهضة بالمجتمعات الإسلامية بل لوجدوا سبيلا آخر وأقوم من هذا السبيل.
فلو أنهم سرّحوا النظر في تاريخ الحضارة الإسلامية لاستطاعوا استنباط سبيل لنهضة إسلامية حديثة أقوم وأيسر من سبيل اللائكية. ذلك أن نهضة المجتمعات الإسلامية الأولى وحضارتها لم تبن على اللائكية بل بنيت على أصول الدين الإسلامي، إذ استنبط مفكروها وحكماؤها فكرا دينيا إسلاميا متقدما وجعلوا الدين الإسلامي روحا تسرى في كل فئات المجتمع ومؤسساته لترتقي به في درجات السلم الحضاري فكريا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا .هكذا قامت على أساس الدين الإسلامي حضارة إنسانية راقية مازالت آثارها ترى حتى في الأقطار الأوروبية وكانت إحدى الركائز التي قامت عليها الحضارة الأوروبية الحديثة فما الذي يمنع اليوم من بعث دورة حضارية جديدة على أساس الدين الإسلامي تضاهي الحضارة الأوروبية الحديثة كما بعثت الدورة الحضارية الإسلامية الأولى . لا شيء يمنع من ذلك إلا ضعف الإرادة والاستسلام للحضارة الغالبة . فلو تعلقت إرادة المفكرين والعلماء والحكماء والحكّام المسلمين ببعث دورة حضارية إسلامية جديدة تستمد روحها من أصول الدين الإسلامي ولو تحرّروا من عقيدة التبعية للحضارة الغربية لاستطاعوا بناء صرح حضاري إسلامي جديد يضاهي الصرح الغربي قوّة ومتانة أو يفوقه.
إن اللائكية ليست هي السبيل الحتمي لنهضة المجتمعات الإسلامية ولا غيرها من المجتمعات، بل إن سبيلها الأقوم هو " السبيل الإسلامية " التي يجعل الإسلام هو القاعدة التي تقام عليها كل أركان النهضة العقدية الفكرية والاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية . إن مثل الذين يريدون إخراج المجتمعات الإسلامية من التخلف باللائكية مستعيضين بها عن الإسلام كمثل طبيب يريد أن يشفي مريضه بدواء غريب عنه، ونسي أن في البيت وقد جربه من قبل وكان فيه الشفاء أم أن يخرج باحثا عن دواء غريب غير مستيقن من شفائه؟ لا شك أن دواء البيت هو أقرب وأيسر للشفاء كذلك فإن " السبيل الإسلامية " هي أيسر وأقوم لنهضة المسلمين من اللائكية.
إنه ليس للمفكرين المسلمين ولا لحكمهم حجة لا في أن الإسلام غير صالح ليكون قاعدة النهضة في المجتمعات الإسلامية، لأنه كان كذلك في دورة حضارية سابقة، ولا في أن اللائكية هي السبيل الوحيدة للنهضة، لوجود سبيل آخر وهي" السبيل الإسلامية " التي جرّبها المسلمون السابقون وآتت أكلها . بل الحجة قائمة على عكس ذلك تماما أي على أن الإسلام صالح يكون قاعدة وسبيلا لنهضة جديدة، ويكفي لذلك أن يستنبط المفكرون من أصول الإسلام رؤية فكرية حديثة وشاملة لكل جوانب السعي الإنساني وأن يجعل الحكام روح الإسلام تسري في كل مؤسسات المجتمع وفئاته ليهتدي جميعهم إلى أيسر وأقوم سبيل النهضة الجديدة.
وإنه لمن الخطأ المنهجي الفادح والتناقض الجوهري أن يتحدث المفكرون المسلمون عن الخروج من هيمنة الدول الغربية والتحرّر من أغلالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهم قد اتخذوا اللائكية قاعدة لكل أعمالهم وروح تسري في مجتمعاتهم إذ أن هذه القاعدة التي قامت عليها النهضة الغربية بكل بناءاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لن تقوم عليها في المجتمعات الإسلامية إلا بناءات مرتبطة ارتباطا وثيقا بمثيلاتها في الدول الغربية، أي أنها لن تكون إلا جزء منها. فكيف يجوز عندئذ الحديث عن التحرّر من هيمنة الدول الغربية لمن يسعى في الحقيقة بكل جهده ليكون جزء منها . أليس ذلك هو التناقض بعينه؟
إن التحرّر من هيمنة الدول الغربية لا يتيسّر إلا لمن أقام بناءه المجتمعي على قاعدة مغايرة تماما للقاعدة التي أيم عليها بناء المجتمع الغربي، أي لمن يجعل اللائكية قاعدة ومسلكا للبناء المجتمعي بل جعل الإسلام هو القاعدة والسبيل إلى ذلك . ذلك أن الفكر اللائيكي إنما هو كالبذرة لا تنبت إلا نفس الشجرة ولا تخرج إلا نفس الثمار سواء بذرتها في المغرب أو في المشرق . فإذا زرع هذا الفكر في المشرق أو المغرب الإسلامي فانه لن تنبت ويثمر إلا مجتمعا على نفس الصورة التي عليها المجتمع الغربي، فكيف السبيل عندئذ إلى التفريق بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي وقد ذاب الأول في الثاني كما يذوب الملح في الماء.
إنه على المفكرين والحكام المسلمين أن تختاروا بين وجهتين مختلفتين اختلافا كبيرا، إما * إقامة نهضة ومجتمعا متحرّرين ومستقلين عن المجتمع الغربي فعندئذ لا قاعدة ولا سبيل إلى ذلك إلا من أصول الإسلام ، وإما أن يرضوا بأن تكون نهضتهم ومجتمعهم جزء من النهضة والمجتمع الغربي، الذي هو غريب تماما عن المجتمع الإسلامي، وسيكون لهم ذلك إذا ما جعلوا اللائكية قاعدة ومسلكا لبناء نهضتهم ومجتمعهم، وليس لهم أن يقولوا نريد أن نبني مجتمعا متحررا من أغلال الدول الغربية وحضارة مستقلة عن الحضارة الغربية ونريد أن نجعل اللائكية قاعدة وسبيلا لبلوغ هذه الغية، فذلك لا يستقيم لا عقلا ولا واقعا لأن الفكر اللائكي متناقض مع أصول الإسلام ولأن واقع المجتمع الإسلامي مغاير لواقع المجتمع الغربي.
فإذا ما اختار المفكرون والحكام الوجهة الأولى فإن ذلك لا يعني رفض كل ما يأتي من الغرب فكرا أو عملا ، بل على العكس، أن لا يرفض من فكر الغرب وعمله إلا ما هو مناقض لأصول الإسلام عقيدة وعملا. لأن نهضة الشعوب والأمم إنما قامت على مبدأ إثبات هو مبدأ " الأخذ الحضاري" الذي يعني أن كل أمة إنما تاخذ لبناء نهضتها على الأمة أو الأمم التي سبقتها في الحضارة، كما أخذت الأمة الإسلامية لبناء حضارتها عن الأمم الفارسية والهندية واليونانية، وكما أخذت الشعوب الأوروبية لبناء حضارتها عن الأمة الإسلامية . وكما أن الرفض من الغرب لا يكون كليّا فكذلك الأخذ منه لا يكون كليّا. وإنما يكون الأخذ والردّ " انتقائيا"، بمعنى أن لا يؤخذ من الغرب إلا م لا يتناقض مع أصول الإسلام عقيدة وعملا ولا يرد عنه إلا ما هو متناقض مع هذه الأصول . فمقياس الأخذ والرد هو أصول العقيدة والعمل في الإسلام يؤخذ ما وافقها ويردّ ما خلفها . إن هذا المقياس هو الشرط الأول لتكون نهضة المجتمعات الإسلامية متمايزة ومستقلة عن النهضة الغربية ومتحررّة من قيودها، وهو الشرط الذي جعل نهضة الأمة عن نهضة غيرها من الأمم، ولقد كان هو الشرط الذي جعل نهضة الأمة الإسلامية الأولى متمايزة ومستقلة عن حضارة الأمم التي أخذت عنها . بناء على هذا الشرط المبدئي فإن اول ما ينبغي ان يرد عن الحضارة الغربية مذهب اللائكية ، لأنه متناقض كليا مع أصول العقيدة والعمل في الإسلام. ولنكن في ذلك معتبرين فقط بما فعله الشعوب الأوروبية لما كانوا في الطور الأول من نهضتهم غذ أخذوا عن الأمة الإسلامية علومها وفنونها وآدابها وحتى بعضا من شرعيتها وردّوا عنها أصول دينها.
عن العالم اليوم يعيش ف ظل حضارة واحدة هي الحضارة الغربية اللائكية التي اكتسحت كل الأمم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وهيمنة على كل الشعوب بكل وسائل المدينة والعسكرية . وإن من أبرز سيمات هذه الحضارة انها مهلكة للإنسان ومدمّرة للعمران، لم تر أكثر شعوب الأرض منها إلا البؤس والشفاء فيما استأثرت قلة قليلة منها بأسباب الرخاء ولقد أحكمة الشعوب الغربية الحاملة لواء هذه الحضارة قبضتها على الشعوب المستضعفة وأرهقتها إرهاقا جعلها تبحث عن النجاة وعن مخرج لها من كابوس الغربيين القاتل . إن هذه الشعوب لن تستطيع المنجاة من ورطتها إلا إذا أطلت على العالم حضارة جديدة متمايزة أصولها العقيدية عن الحضارة الغربية لتستطيع هذه الشعوب أن تختار من بينهما تلك التي ترى فيها رخاءها وسعادتها . إن الشعوب في حاجة إلى ان تكون لها حرية الإختيار بين الإيمان والكفر . إن الإنسان خلق حرّا في اختيار عقيدته بين عقيدتين متناقضين، وكذلك الشعوب والأمم ينبغي أن تكون حرّة في اختيار وجهتها الحضارية بين وجهتين حضارتين متناقضتين، ولا سبيل إلى هذه الحرية إلا إذا وجدت هاتين الوجهتين، وجهة أخرى إلى جانبها مناقضة لها في أصولها العقدية الفكرية، وما هذه الوجهة إلا وجهة الحضارة الإسلامية هكذا نرى ان بناء نهضة إسلامية حديثة يقتضيه مبدأ حرّية الشعوب في اختيار وجهتها الحضارية . وان هذا البناء قد حان وقته الآن لأن العالم قد دخل اليوم في فترة أحادية الحضارة.إنه على المفكرين والمثقفين والحكام المسلمين أن يعوا بأنهم يمرون بلحظة تاريخية تدعوهم إلى رفع " الاحتكار الحضاري الغربي" لتمكين شعوبهم وكل الشعوب المستضعفة من حرية اختيار وجهتهم الحضارية بين الوجهة الغربية والوجهة الإسلامية ، وأول خطوة في هذا السبيل هي بناء نهضة إسلامية حديثة قائمة على أصول الدين الإسلامي ومتمايزة عن أصول الفكر اللائكي.
إنه ليس من الغريب أن نرى اليوم دول الغرب تتفق على منع قيام النهضة الإسلامية الحديثة وتجنّد لذلك كل وسائلها المدنية والعسكرية المستحدثة، فهي تحاصر الدول الإسلامية الحديثة التي خرجت عن طاعتها سياسيا وعسكريا واقتصاديا، كما تحاصر الحركات الإسلامية الأصولية الناشئة في المجتمعات بشتى الوسائل المدنية والعسكرية ، وإنها ما تفعل ذلك إلا لعلمها بأن قيام نهضة إسلامية حديثة سيجعلها تفقد هيمنتها على العالم بأسره ويفتح الباب أمام شعوب العالم لتتحرّر من قيودها، ولعلها أيضا بأن القاعدة الأصولية الفكرية المستمدّة من أصول الدين الإسلامي في هذه النهضة هي قاعدة نقيضة لأصول الفكر اللائكي الذي قامت عليه الحضارة الغربية . إنه لا همّ اليوم لرمز الحضارة الغربية إلا منع النهضة الإسلامية الحديثة من بلوغ غاياتها، فكريا عن طريق المحاضرة الكلية للأنظمة والحركات الإسلامية الأصولية، حتى تبقى الحضارة الغربية مهيمنة على كل شعوب العالم بدون منازع. عن النزاع الحضاري العالمي اليوم هو نزاع بين مرتكز النفوذ في الغرب ولواحقها في المجتمعات الإسلامية وبين الأنظمة الأولى تريد المحافظة على سيطرتها الكاملة والشاملة على كل الشعوب بدون استثناء، والأطراف الثانية تريد التحرّر من هذه السيطرة لها ولكل الشعوب . إنها إذن معركة تحرّر عالمية، وإنها لا تختلف عن المعركة التي خاضتها الشعوب المستعمرة في بداية هذا القرن من مستعمريها إلا في الوسائل والأساليب لأن موضوع النزاع وجوهره واحد هو إرادة تحرر المستضعفين من هيمنة المستكبرين وتقرير مصيرهم . ولأن الوسائل والأساليب قد تطوّرت فأصبحت تغلب عليها الوسائل السياسية والاقتصادية والمالية والثقافية وأساليب الترغيب والإقناع والجملة، ولا تجند وسائل قد أضعت أشد فتكا وإرهابا والأساليب أكثر تنوعا وإغراء مما كانت عله في القرن الماضي. إن هذه المعركة ستكون معركة هذا القرن إذ هي ليست معركة عام أو بضعة أعوام بل سيكون وقودها أجيال من المستضعفين. ذلك لأنها معركة حضارية تشمل الجوانب العقدية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية ولأنها معركة عالمية تدور رحاها بين أكثر الشعوب المستعصية وبين مراكز الهيمنة المنتشرة في كل أنحاء العالم، سواء كانت دولا أو مؤسسات اقتصادية ومالية عالمية أو منظمات سياسية وثقافية واجتماعية عالمية.
وإن اول خطة تخطوها الشعوب الإسلامية المستعصية وطلائعها المثقفة والمفكرة والواعية لخوض هذه المعركة هي التصدي للفكر اللائكي ومواجته بفكر إسلامي حديث قائم على أصول الإسلام وممسك بناصية الواقع الإنساني الحديث بمختلف جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والثقافي والسياسي ونشر هذا الفكر في كل فئات المجتمعات الإسلامية وغيرها.ليكون هو الأرض الصلبة التي تقف عليها هذه المجتمعات في معركة تحرّرها العملية . لأن جهد المجتمعات العملي في هذه المعركة لن يثبت في المقاومة إلا إذا سبقه وواكبه جهد فكري ينير له السبيل ويبين له الحقائق ويكشف زيف الفكر المقابل وعمله ويفتح له الأفاق ويدفع عنه الشبهات ويدحض الأقاويل الباطلة . إن لبّ المعركة عقائدي فكري وقشرتها اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية فلن تتغير قشرة المجتمعات إلا إذا تغير لبها . ولن تفشل قوى الهيمنة في زرع اللب اللائكي وتنميته في هذه المجتمعات إلا إذا أفلحت الطلائع المفكرة والواعية في زرع اللبّ الإسلامي الحديث في مجتمعاتها.
وإن المجتمعات الإسلامية وغيرها من المجتمعات المستضعفة لن تستطيع كسب معركة التحرّر الكامل ما لم تخص تكسب المعركة العقائدية الفكرية. وإن لنا لعبرة فيما آلة إليه المعركة و التحرّر السابقة . إذ أن الشعوب لئن كسبت فيها سياسيا وعسكريا فإنها لم تكسب المعركة العقائدية الفكرية وأن لنا لعبرة فيها آلة إليه الحركة السابقة . إذ أن الشعوب لئن كسبت فيها سياسيا وعسكريا فإنها لم تكسب المعركة العقائدية الفكرية إذ ظلت المجتمعات الإسلامية تعيش فراغا عقائديا فكريا بعد تحرّرها الجزئي حتى تسرب إليها الفكر العلماني عن طريق بعض نخبها الفكرية والسياسية، فما لبثت ان وجدت نفسها تحت كلكل هيمنة غربية أشد وطأ من سابقتها . ولو ان هذه الشعوب استكملت حرّيتها بالتحرّر العقائدي الفكري وتحصّنت بفكر إسلامي أصولي حديث لدفع الفكر اللائكي الغربي لما وجدت قوى الهيمنة الغربية سبيلا لإعادة استعبادها إن المعركة العقائدية الفكرية قد انطلقت منذ بداية القرن الماضي مع الشيوخ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وأبو الأعلى المودودي وغيرهم ولكن أن تستمر وتتسع دائرتها لتشمل مواضيع الفكر الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي وغيرها ولتحيط بكل جوانب واقع المجتمعات الإسلامية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.