سوسة: وزير السيّاحة يشرف على حملة تفقد لعدد من الوحدات الفندقية    دعوة الى تظاهرات تساند الشعب الفلسطيني    وزير الخارجية: تونس ترحب بالأفارقة القادمين اليها بغرض الدراسة أو العلاج أو السياحة أو الاستثمار    رئيس البرلمان يحذّر من مخاطر الذكاء الاصطناعي    تخص الحديقة الأثرية بروما وقصر الجم.. إمضاء اتفاقية توأمة بين وزارتي الثقافة التونسية و الايطالية    وزير السياحة يعلن الانطلاق في مشروع إصدار مجلة السياحة    عمار يطّلع على أنشطة شركتين تونسيتين في الكاميرون    الصحفي كمال السماري في ذمّة الله    رئيسة المفوضية الأوروبية تزورهذا البلد العربي الخميس    6 مليارات لتسوية ملفّات المنع من الانتداب…فهل هيئة المخلوفي قادرة على ذلك    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    صفاقس : خطأ عند الانتاج أم تحيل على المستهلك    وزير الثقافة الإيطالي: نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس    تامر حسني يعتذر من فنانة    ملكة جمال ألمانيا تتعرض للتنمر لهذا السبب    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط حفظ الصحّة    مصر.. تصريحات أزهرية تثير غضبا حول الشاب وخطيبته وداعية يرد    التعاون والتبادل الثقافي محور لقاء سعيّد بوزير الثقافة الايطالي    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    خط تمويل ب10 مليون دينار من البنك التونسي للتضامن لديوان الأعلاف    وزيرة الاقتصاد والتخطيط تترأس الوفد التونسي في الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الإسلامي للتنمية    صادم/ العثور على جثة كهل متحللة باحدى الضيعات الفلاحية..وهذه التفاصيل..    ملامحها "الفاتنة" أثارت الشكوك.. ستينيّة تفوز بلقب ملكة جمال    الرابطة الأولى: تشكيلة النادي البنزرتي في مواجهة نجم المتلوي    دورة اتحاد شمال افريقيا لمنتخبات مواليد 2007-2008- المنتخب المصري يتوج بالبطولة    فرنسا تعتزم المشاركة في مشروع مغربي للطاقة في الصحراء    استقرار نسبة الفائدة الرئيسية في تركيا في حدود 50%    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    عاجل: هذا ما تقرر في حق الموقوفين في قضية الفولاذ..    دورة مدريد للماستارز: أنس جابر تواجه اليوم المصنفة 35 عالميا    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم السبت 27 أفريل    عاجل/ حماس تكشف آخر مستجدات محادثات وقف اطلاق النار في غزة..    المجلس المحلي بسيدي علي بن عون يطالب السلطات بحل نهائي لإشكالية انقطاع التيار الكهربائي    خبير تركي يتوقع زلازل مدمرة في إسطنبول    عاجل/ نحو إقرار تجريم كراء المنازل للأجانب..    هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه    عاجل/ الحوثيون يطلقون صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر..    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    طقس الليلة    عاجل/ ايقاف مباراة الترجي وصانداونز    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    تونس تسعى لتسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لليونسكو    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    منظمات وجمعيات: مضمون الكتيب الذي وقع سحبه من معرض تونس الدولي للكتاب ازدراء لقانون البلاد وضرب لقيم المجتمع    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تونس ومصر: دولة الحداثة على أنقاض دولة الاستبداد
نشر في الحوار نت يوم 19 - 02 - 2011

د. إدريس جنداري- تعيش التجربة السياسية في العالم العربي؛ حالة غريبة من الاحتقان؛ الذي أصبح يهدد في كل لحظة بتفجير الأوضاع من المحيط إلى الخليج؛ ويمكن تفسير هذا الوضع؛ بغياب شامل وكلي لنموذج الدولة الحديثة؛ التي تقوم على أساس الديمقراطية وسلطة المؤسسات.
فرغم ما قد يبدو من حضور شكلي لهذه الدولة؛ فإن جوهر التجربة السياسية الحديثة غائب بالتمام؛ فليس هناك تداول سلمي وديمقراطي على السلطة؛ وليس هناك فصل واضح بين السلطات؛ ناهيك عن غياب جميع أشكال حرية التعبير؛ أما الأحزاب السياسية –إن وجدت- فهي هياكل فارغة وجثث هامدة لا حياة فيها؛ لا يتحرك منها إلا الحزب الحاكم؛ الذي يحتكر السلطة لعقود؛ عبر تزوير الانتخابات؛ وإخضاع الإرادة الشعبية .
إن التجربة السياسية في العالم العربي؛ ورغم طابعها الحداثوي المزور؛ فهي لا تخرج عن الإطارات التالية:
1- تجربة سياسية عتيقة: تستثمر في الدين من خلال شرعنة سلطتها دينيا؛ في مقابل الشرعية الشعبية؛ التي تميز النظام السياسي الحديث، وهذه التجربة تستعير معظم بواعث التعبير عن نفسها من الماضي البعيد؛ من التاريخ الأموي والعباسي، الذي تحولت فيه الخلافة إلى ملك؛ استعار بدوره معظم بواعث التعبير من المستبد الآسيوي بحسب تعبير الأستاذ عبد الله العروي، أو من أبيه أردشير "الملك الساساني" بحسب توصيف الأستاذ محمد عابد الجابري؛ في بحثه عن مبدأ الطاعة؛ الذي جعل من الدين طاعة رجل، والذي جعل من الطاعة عبر تمجيدها؛ فضيلة الفضائل، والذي تمكن من أن يغزو الثقافة العربية في عقر دارها؛ ويحولها لصالح الاستبداد الآسيوي كما تعبر عن ذلك وصية أردشير. "1"
2- تجربة سياسية "ليبرالوية": وإذا كانت التجربة الأولى تعد استمرارا؛ لنموذج الاستبداد الآسيوي؛ فإن العالم العربي؛ عرف بعد حصوله على الاستقلال؛ عرف تجربة سياسية جديدة؛ قامت على أساس استغلال القيم السياسية الحديثة؛ بهدف ترسيخ نموذج سياسي قائم على الاستبداد.
فقد حضرت الليبرالية؛ ليس باعتبارها ديمقراطية؛ وليس باعتبارها تعددية حزبية حقيقية وانتخابات نزيهة وحرية تعبير وفصل بين السلطات... ولكنها حضرت على العكس من ذلك تماما كآليات سياسية؛ تمكن الحاكم العربي المستبد من ترسيخ سلطته؛ عبر فسح المجال لتعددية سياسية شكلية؛ تشرعن سلطته الحزبية؛ وكذلك عبر تنظيم انتخابات كاريكاتورية؛ يحصل فيها الحزب الحاكم دائما على نسبة تفوق التسعين في المائة؛ أما السلطات الأربعة؛ فهي تجتمع كلها في يد الحاكم الأبدي؛ يشرع وينفذ و صدر الأحكام القضائية باسمه ويوجه الرأي العام عبر مقاولاته الصحافية .
3- تجربة سياسية "يساروية": إذا كانت بعض الأقطار العربية؛ بعد حصولها على الاستقلال؛ قد انحازت إلى الخيار الليبرالي؛ كذريعة لترسيخ قيم الاستبداد؛ فإن أقطار أخرى انحازت إلى الخيار الاشتراكي؛ ليس عن سابق تفكير وتدبير؛ ولكن لأن هذا الخيار الإيديولوجي؛ يساير قيم الاستبداد السائدة في العالم العربي؛ فهو يقوم على أساس الحزب الواحد؛ ويقوم على أساس ديكتاتورية الطبقة الحاكمة؛ ويقوم على أساس الزعيم الأوحد... وكلها قيم سياسية؛ وجدت البيئة الملائمة في العالم العربي؛ كي تترعرع وتنضج؛ صانعة أنظمة سياسية ديكتاتورية؛ تعلن بالصريح والمباشر أن الديمقراطية آلية استعمارية لتفكيك الدول؛ وأن التعددية الحزبية مدخل لخلق الصراعات داخل المجتمع؛ وأن حرية التعبير تخلق الفوضى؛ وأن الفصل بين السلطات يهدد استقرار واستمرارية الدولة .. . !
إن التجربة السياسية في العالم العربي؛ لا تخرج عن هذا الإطار؛ ذي الإبعاد الثلاثة؛ وسواء تعلق الأمر باستمرارية النموذج السياسي العتيق؛ أوتعلق الأمر باستغلال القيم السياسية الحديثة؛ فإن النتيجة كانت دائما؛ غياب مضاعف لنموذج الدولة الحديثة؛ بما تجسده من ممارسة ديمقراطية وفكر ليبرالي؛ وهذا واقع لا يمكن لأحد أن ينكره؛ سواء في المغرب العربي أو مشرقه؛ لأن رائحة الاستبداد أصبحت تزكم أنوف الخارج قبل الداخل؛ وهذا ما أصبح يهدد بانفجار الأوضاع في كل لحظة وحين؛ إن لم يتم تدارك الأمر في أقرب وقت؛ عبر الانكباب الجدي على التأسيس لنموذج الدولة الحديثة؛ التي تربط وجودها بالشرعية الشعبية؛ الممارسة عبر تعددية حزبية حقيقية وانتخابات نزيهة وفصل بين السلطات؛ باعتبارها آليات سياسية تبلور ممارسة ديمقراطية حقيقية.
إن العصر الحديث يؤسس لقطيعة تامة مع النموذج السياسي الاستبدادي القديم؛ ونحن في العالم العربي لن نشكل الاستثناء أبدا؛ لأن العولمة بوسائل اتصالها الحديثة والمتطورة؛ وبقراراتها السياسية التي أصبحت تتوحد يوما بعد يوم؛ وبحركية مجتمعها المدني؛ الذي أصبح يشكل سلطة موازية؛ إن العولمة بخصائصها هاته؛ تشكل تحديا غير مسبوق على كل الأنظمة السياسية؛ التي لا تساير ركب الديمقراطية والحداثة في العالم.
فقد قدمت البشرية تضحيات جسيمة؛ للوصول إلى وضع سياسي؛ يضمن حريتها وكرامتها؛ حيث قام الغرب –بشكل خاص- بحركة هائلة؛ شملت المجتمع والفكر والاقتصاد والسياسة؛ وذلك للوصول إلى حالة يمكن القول عنها؛ أنه تم القطع والفصل مع أزمنة العصور الوسطى؛ وما حصل معه "القطع" في مجال السلطة وممارسة الحكم؛ هو النظام السياسي- الثقافي؛ الذي كان يقضي بان السلطة :
• مقدسة؛ فهي شأن ديني سماوي؛ لذلك لم يكن العرش الملكي عرشا ملكيا وكفى؛ بل إنه عرش الإله ذاته.
• أبوية؛ إذ الملوك يحلون محل الله؛ الذي هو الأب الحقيقي للجنس البشري.
• مطلقة؛ فليس للملك أن يقدم تبريرا لما يقوم به.
• ليس لها أن تكون موضع اعتراض عليها من الخاضعين لها.
وأما الحالة الجديدة؛ التي انتهى إليها صراع شامل؛ قوي وحاد معا؛ فهو التقرير؛ عكس ما تقدم؛ أن السلطة شأن بشري محض؛ فلا علاقة لها بقدسي ولا بمقدس؛ وإنما هي ترتيب يقره البشر فيما بينهم وفقا لإرادتهم؛ ويلتزمون بما قرروه بما هم عقلاء؛ وبالتالي فالعلاقة التي تقوم بينهم إنما هي علاقة بين راشدين عقلاء؛ وليس ما يربط الحاكم بالمحكوم من جنس ما يقوم بين الأب و ابنه؛ وإنما الجميع مواطنون. "2"
يتساءل الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي–على لسان بعض علماء الاجتماع السياسي- في كتابه: "الإسلام والديمقراطية": لماذا كانت الدولة في العالم العربي ضعيفة في أساسها؛ فهي تفتقد الشرعية السياسية الضرورية لاستمرارها؛ ولا تمتلك حماية فعلية من المجتمع؛ فالعلاقة بينها وبينه علاقة قهر من جهة؛ وصراع غير متكافئ من جهة أخرى؛ ولكنها تستمر في الوجود مع ذلك؛ أو "هي تتمتع على الأقل بمظهر الاستقرار" ؟
ويجيب الأستاذ سعيد بنسعيد العلوي؛ من خلال استحضار محاولتين؛ يسعى من خلالهما إلى تفسير هذا الوضع الغريب الذي تعيشه الدولة العربية:
- المحاولة الأولى: هي للباحث الأمريكي "وليام زارطمان" الذي يرى أن السر؛ في استمرار الدولة في العالم العربي في الوجود؛ إنما يكمن في طبيعة "المعارضة" الموجودة في هذه المنطقة من العالم، فإذا كان النظام السياسي في المفهوم الغربي؛ يستقيم وجوده ويتم تماسكه بفضل الجهود المتزنة التي يبذلها الممارسون للسلطة من أجل البقاء فيها؛ ويبذلها الموجودون خارجها من أجل الدخول فيها "وهو ما يدعى في المعتاد تناوبا أو تداولا على السلطة"، فإن الملاحظ في العالم العربي؛ أن التناوب الديمقراطي ليس من صفات السياسة العربية؛ ذلك أن الصفة السائدة للحكومة؛ في السنين الأخيرة؛ هي وجود جماعة سياسية – اجتماعية واحدة وعدم وجود مجال للتناوب؛ فالمعارضة لا تشتت ولا تصفى ولا تشرك في الحكم؛ إنها تُستخدَم؛ وهي تنحو إلى القبول بهذا الاستخدام؛ لسبب ما؛ هو توقعها أن تجد نفسها في السلطة؛ في المرة القادمة؛ سواء عن طريق الانتخاب أو غيره .
وأما تفسير هذا الأمر عند زارطمان؛ فهو يقوم على وجود نوع من العلاقة القائمة بين السلطة والمعارضة؛ يطلق عليها نعت "التكميلية"؛ حيث يستمر الاستقرار في الأنظمة العربية من جهة؛ وترسم المعارضة لنفسها نوعا من الخطوط تقف عندها و لا تتخطاها أبدا؛ من جهة أخرى .
ويستخلص زارطمان في الأخير أن "الحكومة والمعارضة معا لهما مصالح يتابعانها داخل النظام السياسي؛ وهذه التكميلية في المتابعة من شأنها أن ترسخ الدولة؛ إذ كل واحد منها يخدم مصالح الآخر في أدائه لدوره . "3"
- المحاولة الثانية: هي للباحث الأمريكي " جون ووتر بيري" الذي يحاول تفسير الطبيعة الاستثنائية للمنطقة العربية؛ فهو يعتبر أن الشرق الأوسط أو على الأخص الشرق الأوسط – العربي؛ إنما هو منطقة استثنائية في مقاومتها التحرك نحو الليبرالية السياسية؛ واحترام حقوق الإنسان؛ والممارسة الديمقراطية التقليدية .
ويلاحظ "ووتر بيري" أنه في حال "الشرق الأوسط" ما يشي بالخروج عن المسيرة التاريخية الاعتيادية؛ التي تفسر منشأ التحول الديمقراطي في بلد من البلدان؛ و التي تقضي بأن "ارتفاع مستويات التعليم و عمليات التحضير وارتفاع مستوى الشريحة الاجتماعية ذات الدخل المتوسط؛ يؤدي إلى ظهور طبقة وسطى ذات اطلاع و لها مصلحة في كيفية إدارة الأمور السياسية؛ وتحس إحساسا عاليا بالمواطنة؛ مع الإصرار على جعل الموظفين العموميين مسؤولين عن أعمالهم" ويستطرد الباحث الأمريكي؛ فقد حدث تغيير في الشرق الأوسط؛ نتج عنه تصاعد في هذه المؤشرات كلها؛ لكن دون أن تنتج عنه "مرابح ديمقراطية" .
أما الصفات الفريدة من نوعها –على حد تعبيره- التي تسد الطريق بوجه التحول نحو الديمقراطية؛ فهي تعود إلى سببين كبيرين:
- أولهما : وجود نسبة كبيرة من الطبقات الوسطى؛ تعتمد اعتمادا مباشرا على الدولة أو تستخدم من قبلها.
- ثانيهما: يرجع إلى طبيعة مثقفي الشرق الأوسط؛ وهؤلاء هم من نواح متعددة مثقفو الدولة .
ويعقب " ووتر بيري" بالقول: إن اتفاق مصالح الأنتلجنسيا و الدولة تتجاوز موضوع المكافآت والاستخدام و الإجازات المهنية؛ فتشمل شعورا قويا بالهوية والأهداف المشتركة . "4"
وسواء مع محاولة "وليام زارطمان" أو مع محاولة "جون ووتر بيري"؛ فإن التجربة السياسية في العالم العربي؛ تعاني أزمة بنيوية متأصلة؛ تعود إلى طبيعة البنية الفكرية والاجتماعية والسياسية السائدة في المجتمع؛ والتي تشكل بيئة ملائمة؛ لترعرع القيم السياسية الاستبدادية؛ باعتبارها قيما ينتجها المجتمع؛ وتمارسها عليه بعض فئاته؛ التي تمتلك وسائل العنف المادي والرمزي .
1- الإرادة الشعبية بديلا للمعارضة
السياسية المُستخدَمة
كنتيجة مباشرة للانفتاح المعاق؛ الذي تعيشه المجتمعات العربية على قيم السوق والاستهلاك؛ نتج وضع اجتماعي يشجع على الانتهازية والوصولية؛ باعتبارها الطريق الآمن نحو "التبرجز" الموهوم؛ الذي لا يقوم على أي أساس واضح ومنطقي؛ ما عدا الاستثمار في اقتصاد الريع غير المنتج؛ أو الاستثمار في صناعة منتوج الاستبداد السياسي وتسويقه؛ باعتباره منتوجا عالي الجودة؛ لا يمكن للمجتمعات العربية أن تعيش وتستمر من دون إنتاجه و استهلاكه !
في ظل هذا الوضع الاجتماعي المأزوم؛ بدأت تطفو على السطح؛ فطريات سياسية؛ لا تمتلك أي رؤية أو مشروع سياسي؛ تقدم نفسها في البداية بديلا للنظام السياسي القائم "معارضة"؛ بهدف الحصول على شرعية شعبية؛ وبعد ذلك تنتقل إلى المرحلة اللاحقة؛ حيث تشرع في استثمار هذه الشرعية الموهومة؛ ليس في خدمة المجتمع؛ عبر البحث عن بديل سياسي ديمقراطي يخدمه؛ ولكن هذا الاستثمار؛ يكون في خدمة النظام السياسي السائد؛ عبر الدخول معه في علاقات مشبوهة؛ مقابل الحصول على ريع سياسي أو اقتصادي.
وبحصولها على مبتغاها من هذا الريع –موضوع الصراع- تنتهي القصة؛ وتنتقل المعارضة من مطالب التغيير؛ نحو وضع ديمقراطي يسمح بالتداول السلمي على السلطة؛ إلى وضعية "الاستخدام" بتعبير "زارطمان"؛ فهي لا تُشرَك في الحكم ولا تُبعَد عنه؛ إنها تُستخدَم لشرعنة السلطة السياسية القائمة؛ لإيهام الداخل والخارج؛ أن الدولة تعيش وضعا ديمقراطيا جيدا .
إن "وليام زارطمان" حينما يحمل المعارضة السياسية السائدة في العالم العربي؛ حينما يحملها مسؤولية استمرار الوضعية السياسية؛ القائمة على الاستبداد والقهر؛ فهو لا يجانب الحقيقة؛ بل يضع أصبعه على مكان الجرح؛ وذلك لأن جميع الأنظمة الاستبدادية السائدة في العالم العربي؛ تستمد شرعيتها السياسية "الديمقراطية"؛ من المعارضة المُستخدَمة "بفتح الدال"؛ التي تبيع شرعية ديمقراطية موهومة لهذه الأنظمة؛ كتعويض عن فقدان الشرعية الشعبية؛ الذي تعاني منه .
ولذلك فإنه في الوقت الذي تأمن فيه هذه الأنظمة الاستبدادية على موقعها؛ اعتمادا على تقارير استخباراتية مغلوطة؛ تفسر الاستقرار بإخضاع المعارضة و استخدامها؛ في هذا الوقت بالذات تخرج الشرعية الشعبية من قمقمها؛ متحدية النظام و المعارضة؛ وسط ذهول كلا المكونين؛ الذين ألفا نعمة الاستقرار؛ في ظل تبادل الخدمات بينهما.
إن هذه الوضعية؛ هي التي لم يأبه لها "وليام زارطمان" كما لم تأبه لها الأنظمة والمعارضة؛ وفي نفس الآن لم تأبه لها الدول الغربية الداعمة لهاته الأنظمة بدون شروط؛ خدمة لمصالحها الخاصة؛ حتى يخرج المارد الشعبي من قمقمه ويفاجئ الجميع برمي هذه الأنظمة في مزابل التاريخ .
ولذلك فقد قرأنا وسمعنا كثيرا من منظرين و فاعلين سياسيين غربيين وعرب؛ أن الشعوب العربية تتميز بالسلبية والخنوع؛ فقد تمكن منها "براد يغم الطاعة" بتعبير الطاهر لبيب "5" وأن اللعبة السياسية تدور بين الأنظمة الحاكمة والمعارضة؛ وبما أن العلاقة الجامعة بين المكونين علاقة مصالح؛ فإنه لا خوف على استقرار الدول العربية؛ وبالتالي لا خوف على المصالح الغربية في هذه الدول .
لكن النموذجين "التونسي والمصري" أكدا بالملموس والواضح؛ أن هذه النظرية تتميز بقسط كبير من التهافت؛ لأن التغيير الذي عجزت عن تحقيقه المعارضة السياسية المستخدَمة "بفتح الدال" تنجح في تحقيقه –أخيرا- الإرادة الشعبية؛ التي لا تدين بأي تأطير أو تنظير لهذه المعارضة؛ التي أصدرت لعقود؛ الكثير من الجعجعة؛ لكن بلا طحين؛ كما يقول المثل العربي .
إن الثورتين الشعبيتين" التونسية والمصرية" تدشنان لعهد جديد في العالم العربي؛ ليس فقط من حيث النتائج السياسية المحققة؛ ولكن كذلك من حيث تغيير المنطق السياسي؛ الذي ساد لعقود في العالم العربي؛ وهو منطق يربط أي تغيير سياسي محتمل بفعالية المعارضة السائدة؛ وبما أن هذه المعارضة تدخل في علاقة استخدامية مع الأنظمة الحاكمة؛ فإن التغيير يظل صعبا إن لم يكن مستحيلا – حسب هذا المنطق- !
لكن المرحلة الجديدة التي يعيشها العالم العربي؛ تعبر عن قوة خارقة في قلب التوازنات السياسية السائدة؛ في أقل وقت وبأقل كلفة؛ وهي بذلك "المرحلة" تؤسس لنظرية سياسية جديدة؛ لا تربط التغيير بفاعلين سياسيين محددين؛ بل تربطه بالإرادة الشعبية الغير خاضعة لأية قيادة؛ لأن القيادة تصنعها ساحة الميدان؛ حيث يحضر التغيير السياسي كممارسة؛ وليس فقط كتنظير .
هل يمكن الحديث إذن عن عهد سياسي جديد في العالم العربي؛ قوامه الإرادة الشعبية كبديل للمعارضة المُستخدَمة ؟.
نعم؛ يمكن لأي منظر أو محلل سياسي؛ أن يستخلص ذلك بمنتهى الموضوعية العلمية؛ في منأى عن أية نزوعات سياسوية رخيصة؛ تستثمر في بؤس الشعوب العربية؛ لتنمية ريعها السياسي والاقتصادي؛ وهذه خلاصة تؤكدها الممارسة الميدانية؛ أكثر مما يستخلصها التنظير؛ لذلك فهي تفرض نفسها بقوة .
إن هذا الواقع الجديد؛ لا يهدد أحدا –في الحقيقة- بقدر ما سيدفع في اتجاه التغيير السلمي؛ تفاديا لأي تغيير ثوري؛ يمكنه أن يهدد الدولة بجميع مكوناتها. لكن هذا التغيير يتطلب إرادة وعزيمة صلبة من الأنظمة الحاكمة؛ التي يجب عليها أن تقبل بكل روح رياضية المتغيرات الجديدة؛ التي تعرفها المجتمعات العربية؛ وألا تقنع بما توفره لها المعارضة السياسية المُستخدَمة؛ من شرعية مزورة؛ لا يمكنها أن تتحدى الشرعية الشعبية؛ التي تعتبر أساس كل ممارسة سياسية ديمقراطية؛ تقوم على أساس التداول السلمي على السلطة؛ والمشاركة الفاعلة لجميع الفئات الشعبية ...
لقد استثمرت المعارضة السياسية المُستخدَمة في العالم العربي؛ لوقت طويل في تسويق الأوهام؛ سواء في علاقتها بالأنظمة الحاكمة؛ أو في علاقتها بالإرادة الشعبية؛ لكنها في الحقيقة لم تحقق الاستقرار والمشروعية للأنظمة الحاكمة؛ وكذلك لم تحقق الديمقراطية والحرية للفئات الشعبية؛ الشيء الذي حولها إلى عائق كبير؛ في وجه أي تحول ديمقراطي محتمل في العالم العربي. فهي من خلال علاقتها المشبوهة مع الأنظمة الحاكمة؛ تمضي للفئات الشعبية الداعمة لها؛ شيكا على بياض؛ وفي الآن ذاته؛ فهي تبيع الأوهام لهذه الأنظمة؛ حينما تقدم نفسها كبديل عن الإرادة الشعبية؛ التي بإمكانها لوحدها أن تمنح الشرعية السياسية لأي نظام حاكم .
إن استمرارية الأنظمة السياسية الاستبدادية في العالم العربي – في تناقض تام مع التحول الذي يعرفه العالم نحو الديمقراطية – يجد تفسيره حسب وليام زارطمان- في ذلك التكامل الحاصل بين الأنظمة الاستبدادية الحاكمة والمعارضة المُستخدَمة؛ وهو تكامل تحكمه المصالح المشتركة بينهما؛ لكن على حساب الدولة والشعب.
ويمكننا أن نستحضر الكثير من التجارب الديمقراطية في العالم العربي؛ التي كانت قريبة التحقق نتيجة النضال الكبير الذي بذلته الشعوب العربية؛ في بحثها عن الحرية والديمقراطية؛ لكن هذه التجارب كانت تجهض في آخر لحظة؛ كنتيجة مباشرة لدخول المعارضة المُستخدَمة على الخط؛ للقيام بوظيفة مزدوجة؛ تجاه الشعب و تجاه النظام الحاكم.
وفي قيامها بهذه الوظيفة؛ فهي تحقق مصالحها الخاصة؛ عبر الخروج من الهامش إلى المركز؛ وفي نفس الآن فهي تضخ روحا جديدة في شرايين النظام الاستبدادي الحاكم؛ من دون تجديده أو تغييره؛ لكن الضريبة باهظة الثمن؛ يؤديها الشعب من حريته ومن مواطنته؛ التي يتم الإجهاز عليها؛ لتحقيق التكامل بين الطرفين؛ خدمة لمصالحهما المشتركة.
إن البديل الذي أصبح متاحا أمام الشعوب العربية؛ للخروج من الاستبداد السياسي؛ لم يعد مرتبطا الآن – بعد ثورتي تونس ومصر- بمشاريع المعارضة السياسية؛ سواء أكانت في الداخل أم في الخارج؛ لأنها مشاريع لا تخدم سوى مصالح أصحابها؛ وهي في الأخير تعتبر امتدادا مباشرا لمشاريع الأنظمة الحاكمة؛ في إخضاع الشعوب العربية والسيطرة عليها؛ باستخدام مختلف أنواع العنف المادي و الرمزي .
لكن البديل يظل مرتبطا بالإرادة الشعبية؛ التي تصنع رموزها و قياداتها في ساحة الميدان؛ والشعب بمختلف فئاته؛ لا يمكن أن يجتمع سوى من أجل مصلحة وطنه؛ التي يمكنها وحدها؛ أن توحد أقصى اليسار مع أقصى اليمين؛ ليس ضد أحد بعينه؛ ولكن ضد جميع أشكال الفساد والاستبداد والقمع ... التي تهدد استقرار الأنظمة الحاكمة؛ أكثر ما تهدد استقرار ونهضة الشعوب.
إن هذا التحول الذي يعيشه العالم العربي؛ عبر انتقال فعل التغيير؛ من المعارضة السياسية إلى الفئات الشعبية؛ من شأنه على المدى المتوسط والبعيد؛ أن يحل إشكالية الشرعية؛ التي تعاني الأنظمة السياسية في العالم العربي من فقدانها.
وذلك لأن أي تغيير محتمل؛ تقوده جميع الفئات الشعبية بمختلف انتماءاتها الإيديولوجية والمذهبية والعرقية ... ستكون له بالضرورة نتائج سياسية؛ ستنعكس إيجابيا على الدولة؛ شعبا ونظاما سياسيا؛ فالشعب سيستفيد من الحرية والديمقراطية؛ والنظام السياسي؛ سيمتلك شرعية شعبية حقيقية؛ ليست من جنس تلك الشرعية الوهمية؛ التي تمنحها له المعارضة؛ خدمة لمصالحها الخاصة.
إن جميع حركات التغيير الشعبية؛ التي حدثت في العالم عبر التاريخ البشري؛ تقدم لنا هذه الدروس البليغة؛ حيث تكون النتائج دائما إيجابية؛ في صالح الشعب؛ وكذلك في صالح الأنظمة السياسية الحاكمة؛ حيث يقتسم الطرفان معا غنائم "المعركة"؛ لأن هذا النوع من المعارك السياسية؛ لا يكون –بالتأكيد- بين أعداء ألداء؛ ولكنه يجري بين مواطنين؛ حريصين جميعا على مصلحة ونهضة وطنهم .
لكن ما يجب الحذر منه في مثل هذه التحركات الشعبية؛ هو أن تخرج عن المسار الشعبي المخصص لها؛ في اتجاه تيارات معارضة؛ تسعى إلى استثمارها؛ للزيادة في ريعها السياسي و الاقتصادي؛ أو في اتجاه قوى خارجية؛ تسعى إلى استثمارها لفرض أجندتها الخاصة، وفي كلا الحالتين؛ فإن الخاسر الأكبر هو الدولة نفسها؛ التي تخسر الكثير من طاقتها؛ من دون تحقيق أية نتائج ملموسة؛ سواء عبر الانتقال نحو الديمقراطية و الحرية؛ أو عبر تحقيق الأمن و الاستقرار.
2- الإرادة الشعبية بديلا لأنتلجنسيا الدولة
إذا كانت جميع تجارب التحول نحو الديمقراطية في العالم؛ ترتبط بارتفاع مستويات التعليم وعمليات التحضير وارتفاع مستوى الشريحة الاجتماعية ذات الدخل المتوسط؛ ما يؤدي إلى ظهور طبقة وسطى؛ ذات اطلاع و لها مصلحة في كيفية إدارة الأمور السياسية؛ وتحس إحساسا عاليا بالمواطنة. فإن العالم العربي قد عرف تصاعدا كبيرا في هذه المؤشرات – وخصوصا في الدول البترولية- لكن من دون أن يحقق ذلك أي تصاعد في مؤشرات الممارسة الديمقراطية. ولعل هذا هو ما حير الباحث الأمريكي "جون ووتربيري " ."6"
ويحير –في الحقيقة- جميع الباحثين السياسيين والمفكرين؛ لأنه وضع شاذ؛ لا يستجيب للنظريات السياسية؛ التي تسعى إلى تفسير أوضاع الانتقال نحو الديمقراطية عبر العالم؛ حيث ساهمت الطبقة الوسطى المتعلمة "النخبة الثقافية" بنسبة كبيرة؛ في تسريع عملية الانتقال هاته؛ وذلك لما تتميز به؛ من وضع اقتصادي مستقر؛ ووضع اجتماعي فاعل؛ ووعي سياسي عميق؛ وكلها خصائص من شأنها أن تساعد المجتمع والدولة على التحول نحو الديمقراطية .
لكننا هنا يمكن أن نتساءل؛ هل تشكلت في العالم العربي نخبة مثقفة "انتلجنسيا" نتيجة توافر هذه المؤشرات الاقتصادية –بدرجة أولى- أم إن هذه المؤشرات الاقتصادية؛ لم توازيها نقلة في العقليات السائدة؛ وهي عقليات ما زالت تدين بنسبة كبيرة إلى المنظومة الثقافية والسياسية القديمة؛ حيث تحاط أسرار الاستبداد بهالة مرعبة ومقدسة؛ ويلعب الإيمان في ذلك دور المصاحب؛ بل الحامل للواء السيد "7" ؟
هل يمكن الحديث في العالم العربي عن "أنتلجنسيا" قادرة على تفكيك البنيتين الثقافية والسياسية؛ المسؤولتان معا عن ترسيخ قيم الاستبداد؛ مثلما فعلت الأنتلجنسيا الروسية إبان القرن التاسع؛ في مواجهتها للنظام القيصري الروسي؟ أم إن النخبة المثقفة العربية؛ لا تعدو أن تكون حامية عرين الآداب السلطانية؛ التي ارتبطت في التاريخ الإسلامي؛ بانقلاب الخلافة إلى ملك؛ وهي في جزء كبير منها؛ نقلا واقتباسا من التراث السياسي الفارسي؛ وهدفها الرئيسي تقوية السلطة ودوام الملك ؟ "8"
إن ما يمكن تسميته ب "الأنتلجنسيا" في العالم العربي؛ لا يتجاوز في معظمه أن يكون؛ نخبة في خدمة البنية الثقافية والسياسية والاجتماعية السائدة؛ إنها نخبة تحت الطلب؛ تبيع خدماتها الرمزية للدولة؛ مقابل ريع سياسي أو اقتصادي؛ إن وظيفتها لا تتجاوز إعادة إنتاج reproduction إيديولوجية الدولة –بتعبير بيير بورديو- .
وإذا كانت المعارضة السياسية العربية؛ في علاقتها بالأنظمة السياسية؛ تقوم بوظيفة تعويض الشرعية الشعبية المفقودة؛ وبالتالي تساهم في تكريس قيم الاستبداد؛ فإن "الانتلجنسيا" العربية؛ تقوم بنفس الوظيفة؛ لكن من منطلقاتها الخاصة؛ حيث تعمل على استثمار رأسمالها الثقافي؛ لإضفاء الشرعية على الأنظمة الاستبدادية السائدة.
وفي هذا الصدد يرى الأستاذ عبد الله العروي أن أدبيات القرن التاسع عشر المخزنية "في المغرب" على غرار كتاب "الفخري في الآداب السلطانية" بمنزلة تنظير لممارسات "التدبير السلطاني"؛ ويلاحظ الأستاذ العروي أن هذه الأديبات؛ على الرغم من كل مستجدات القرن التاسع عشر؛ وما حفل به من قضايا و أسئلة؛ " لا تعمل إلا على اجترار أمثلة واستشهادات من هنا وهناك؛ بعيدة كل البعد عن طبيعة الأسئلة المطروحة؛ فكانت بالتالي إعادة إنتاج مملة لما سبق أن قاله وأعاد قوله الآداب السلطاني" ."9"
ولعل ما قاله الأستاذ العروي؛ عن نخبة القرن التاسع عشر؛ هو ما يمكن أن نقوله اليوم عن النخبة العربية المعاصرة؛ والتي لا تعدو أن تكون صناعة في غاية لإتقان؛ للنظام الاجتماعي والثقافي والسياسي السائد؛ وهو نظام يشكل امتدادا طبيعيا للنظام القديم؛ لان الحداثة التي بإمكانها اختراق هذه البنيات القديمة؛ واستبدالها ببنيات حديثة؛ ظلت حداثة شكلية مشوهة؛ لم تستطع بعد النفاذ إلى عمق المجتمع و الدولة و الفكر .
ولذلك فإن منطق الآداب السلطانية؛ ما زال هو المتحكم في صناعة "الأنتلجنسيا" العربية؛ وهذا ما يشجع على استمرارية الدولة المملوكية الاستبدادية؛ كما تعبر عنها الدولة العربية القائمة؛ التي تفتقد لفكر ومؤسسات الدولة الحديثة؛ سواء تعلق الأمر بترسيخ قيم الديمقراطية؛ من فصل بين السلطات وتداول سلمي على السلطة؛ وحرية الرأي و التعبير ... أو سواء تعلق الأمر ببناء مؤسسات الدولة الحديثة؛ برلمانا و حكومة و قضاء و إعلاما حرا؛ بناء يستجيب للمنطق السياسي الحديث؛ وليس بناء مؤسسات "جثث" بلا روح و لا حراك؛ تعلن ببناياتها الفخمة الشاهقة عن صورة الدولة الحديثة؛ بينما تخفي داخلها نموذجا سياسيا مملوكيا؛ يقوده فقهاء الآداب السلطانية.
إن "جون ووتر بيري"؛ حينما يفسر فشل تجربة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي؛ بناء على فشل المجتمع؛ في تشكيل أنتلجنسيا مستقلة عن الدولة؛ إنما يقرر أمرا واقعا؛ نعرفه و نعايشه جميعا في عالمنا العربي؛ حيث سيادة الريع السياسي والاقتصادي؛ الذي يشجع على الاتكالية والوصولية والانتهازية داخل المجتمع؛ والنخبة الثقافية بدورها؛ لا تنجو من هذا الواقع؛ بل على العكس من ذلك؛ فهي تكرسه؛ فحسب "جون ووتر بيري" فإن أغلبية النخبة المثقفة في العالم العربي؛ تعتمد اعتمادا مباشرا على الدولة أو تستخدم من قبلها؛ وهذا ما يجعل أغلبية مثقفي الشرق الأوسط؛ مثقفي الدولة .
لكن؛ هل يمكن –اعتمادا على تحليل ووتر بيري- لتجربة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي؛ أن نستخلص أن هذا الانتقال من الاستحالة بمكان؛ في ظل ما هو سائد؛ من تواطؤ بين النخبة المثقفة والأنظمة الحاكمة؛ وهو تواطؤ يخدم مصالح الطرفين؛ ولا أحد منهما مستعد للتضحية بمصالحه الخاصة؛ فهناك –حسب جون ووتر بيري- اتفاق مصالح الأنتلجنسيا والدولة؛ تتجاوز موضوع المكافآت والاستخدام والإجازات المهنية؛ فتشمل شعورا قويا بالهوية والأهداف المشتركة؟.
ينقلنا هذا التساؤل مباشرة للحديث عن التحول الذي يعرفه مفهوم "المثقف" أو "الأنتلجنسيا" ذاته؛ وهو تحول يمنح للنخبة الثقافية دورا هامشيا في التغيير؛ وذلك ناتج عن التحول الذي أصبح يعرفه مفهوم الثقافة _بالدلالة العلمية- التي اتسع مجالها؛ ولم تعد حكرا على فئة بعينها؛ إن الثقافة في ظل العولمة واتساع دور وسائل الإعلام؛ وحركية المجتمع المدني؛ أصبحت ملكا مشاعا؛ ليست موضوع تلقين ولا موضوع احتكار؛ إن كل الناس عبر العالم؛ بإمكانهم استثمار ما توفره الشبكة العنكبوتية؛ وما توفره وسائل الإعلام المختلفة؛ من إمكانيات هائلة للإطلاع؛ على مجالات ثقافية واسعة؛ لا يمكن أن توفرها المكتبات التقليدية؛ كما لا يمكن أن يوفرها التعليم التقليدي القائم على أساس التلقين والشحن.
إن المثقف/الأنتلجنسيا الذي امتلك لوقت طويل رأسمالا رمزيا؛ جعله مؤهلا لتأسيس سلطة موازية؛ لا تقل قيمة عن السلطة السياسية؛ يجد نفسه الآن يفتقد هذه السلطة؛ في ضوء التحولات التي فرضتها العولمة؛ و لذلك فإن مكانته الاعتبارية؛ لم تعد تؤهله لبناء الشرعية السياسية للنظام السياسي؛ الذي طالما باعه خدمات رمزية؛ في مقابل الحصول على مكاسب مادية .
لقد تحدث المفكر الفرنسي "ميشيل فوكو" كثيرا؛ عن هذه الوضعية الجديدة التي يعيشها المثقف عبر العالم؛ و هو ينتقل من وضعية المثقف الشمولي/العضوي/ الملتزم؛ " المشتق من رجل القانون المرموق؛ ويجد تعبيره الأكبر في الكاتب حامل الدلالات و القيم" "10" إلى مثقف خصوصي؛ " مشتق من صورة أخرى؛ ترتبط بالعالم الخبير""11".
إن الانتقال من المثقف الشمولي؛ المشتق من رجل القانون؛ إلى المثقف الخصوصي؛ المشتق من العالم الخبير؛ يجعل المثقف الجديد يفتقد تلك الشحنة السياسية؛ التي رافقته لوقت طويل كسمة مميزة له؛ تجعله يحضر دائما في موازاة السلطة السياسية؛ إما عبر معارضتها؛ و إما عبر خدمتها.
وبفقدانه لهذه الشحنة السياسية؛ فإنه يفتقد في الوقت ذاته؛ تلك المكانة الرمزية؛ التي استثمرها طويلا في تقديم خدمات رمزية للسلطة السياسية؛ قد تصل إلى مستوى إضفاء الشرعية عليها؛ للحصول على ريع سياسي أو اقتصادي؛ ضمن سيرورة مرسومة؛ تقوم على أساس تبادل المصالح المشتركة .
فلما سئل "ميشيل فوكو" عن دور المثقف في عالم اليوم؛ كان جوابه أن " المثقف الذي يقال عنه أنه من اليسار؛ تناول الكلمة لمدة طويلة؛ و رأى أنه يعترف له بحق الكلام؛ من حيث هو سيد الحقيقة والعدالة؛ كان الكل يستمع إليه؛ أو كان يزعم انه مسموع إليه؛ كممثل لما هو شمولي ".." و أعتقد أن تلك الفكرة منقولة عن الماركسية؛ ومن ماركسية باهتة؛ فكما أن طبقة البروليتاريا؛ بفعل ضرورة وضعها التاريخي؛ طبقة حاملة لما هو شمولي؛ فإن المثقف باختياره النظري؛ والأخلاقي والسياسي؛ يريد أن يكون؛ هو حامل هذه الصورة الشمولية؛ لكن في صورتها الواعية والكاملة - ويؤكد فوكو في الأخير- قبل سنوات من الآن؛ لم يعد يطلب من المثقف؛ أن يلعب هذا الدور؛ لقد نشا نمط جديد؛ من العلاقة؛ بين النظرية والممارسة."12"
إن هذا الواقع الجديد؛ الذي بدأت تفرضه العولمة؛ يفرض على النظام السياسي؛ البحث عن بديل للمثقف الشمولي؛ الذي طالما قدم نفسه كمصدر للشرعية السياسية؛ سواء كمثقف معارض؛ أو كمثقف رسمي؛ وهذا البديل لا يوجد في المعارضة السياسية –طبعا- لأنها امتداد غير مباشر للنظام السياسي؛ تجمعهما معا مصالح مشتركة؛ لا يمكنهما التفريط فيها؛ في سبيل تحقيق التحول نحو الديمقراطية.
إن البديل الآمن الذي بدا يفرض نفسه الآن؛ هو الإرادة الشعبية؛ التي تعتبر مصدر أي ممارسة ديمقراطية ناجحة؛ وذلك لأن الشعب وحده؛ هو القادر على منح الشرعية لأي نظام سياسي؛ أو نزعها عنه؛ لكن هذه الشرعية؛ لابد أن تمر عبر قنوات سياسية واضحة؛ تقوم على أساس حرية الرأي والتعبير؛ والمشاركة السياسية الواسعة؛ والانتخابات النزيهة؛ ولا يمكن لهذه القنوات أن تكون صالحة –طبعا- إلا إذا التزمت فصلا واضحا بين السلطات؛ وتداولا سلميا على السلطة.
ولعل هذا البديل وحده هو القادر على حماية دولنا ومجتمعاتنا العربية؛ من الانهيار الشامل الذي ينتظرها؛ لأن التحول نحو الديمقراطية؛ أصبح اليوم رهانا حتميا؛ إن لم تسع الأنظمة السياسية في شراكة مع شعوبها إلى تحقيقه؛ فإن الحتمية التاريخية قادرة على تحقيقه؛ لكن عبر عمليات جراحية غير محسوبة العواقب .
إن ما نتمناه كشعوب وكأنظمة سياسية؛ هو أن نمتلك الجرأة الكافية؛ لإحداث تحول حقيقي نحو الديمقراطية؛ لحماية دولنا من أي انحراف نحو الفوضى "الخلاقة"؛ التي تعتبر المدخل الرئيسي نحو التدخل الخارجي في شؤوننا السياسية.
3- في نقد مسلمة استحالة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي
إن "جون ووتر بيري" مثله في ذلك مثل مواطنه "وليام زارطمان" حينما يربطان صعوبة "استحالة بالأحرى" الانتقال الديمقراطي في العالم العربي؛ بالتواطؤ الحاصل بين الدولة من جهة؛ و المعارضة السياسية و النخبة المثقفة من جهة أخرى؛ فإنهما معا لا ينظران سوى إلى وجه واحد للعملة؛ بينما يظل الوجه الآخر غامضا؛ مما يجعل التحليل في الأخير قاصرا عن الوصول إلى الحقيقة .
ولذلك؛ فإننا نجد الباحثين معا؛ يؤكدان بوثوقية مطلقة؛ أن العالم العربي عاجز تمام العجز؛ عن الانتقال إلى الديمقراطية؛ وكأنهما يطمئنان الغرب على مصالحه الإستراتيجية؛ التي لا خوف عليها من أي تحول محتمل؛ ولذلك ما على الغرب سوى دعم الأنظمة الاستبدادية السائدة؛ القادرة لوحدها على حماية هذه المصالح !
إن الأمر يتجاوز التحليل العلمي الموضوعي؛ وذلك على شاكلة معظم الكتابات الأنجلوساكسونية –الأمريكية خصوصا- التي يتداخل فيها البعد الفكري بالبعد الاستراتيجي؛ في تناولها للقضايا والأحداث عبر العالم. فالمحلل والمنظر السياسي توجهه دائما روح البراجماتية؛ وهو يفكر فيما ستربحه القوى الغربية العظمى؛ من أي تحول أو استمرارية؛ في الأوضاع السياسية عبر العالم .
وإذا كانت منطقة الشرق الأوسط تشكل محور الصراع الدولي على الطاقة؛ فإننا يمكن أن نفهم جيدا؛ لماذا يطمئن هؤلاء الباحثون/الإستراتيجيون صناع القرار السياسي الغربيين؛ أن الوضع السياسي في العالم العربي جثة هامدة بلا حراك؛ لأن الدولة الاستبدادية الحامية لمصالح الغرب الإستراتيجية؛ محصنة كامل التحصين؛ فهي نجحت في تدجين المعارضة السياسية؛ كما نجحت في تدجين النخبة الثقافية؛ وذلك عبر نسج علاقات مصالح متبادلة؛ يستفيد منها الطرفان؛ ولا احد من الطرفين مستعد للتضحية بمصالحه الخاصة؛ في سبيل التحول نحو الديمقراطية .
إن الاستبداد والحرمان من الديمقراطية – حسب تحليل ووتر بيري وزارطمان- قدر مقدر على العرب؛ وما عليهم سوى أن يصبروا ويصابروا؛ خدمة للمصالح الإستراتيجية الغربية؛ التي تحميها الأنظمة الاستبدادية الحاكمة؛ ومن شأن الممارسة الديمقراطية؛ أن تهددها في أي وقت وحين؛ عبر صعود حكومات؛ تعتبر مصالح شعبها أولوية الأولويات !
هل يمكن بعد هذا أن نطمئن إلى الدعوات الغربية –الأمريكية خصوصا- التي تزعم أنها تعمل على نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط ؟
وهل يمكن أن نطمئن إلى دعوات التغيير من الخارج؛ التي تعتمد لفرض الهيمنة و السيطرة؛ عبر فرض أجندة استعمارية؛ تقودها معارضة مأجورة؛ تسعى إلى تحقيق المصالح الاستعمارية للغرب وحماية مصالحها؛ أكثر مما تسعى إلى تحقيق الانتقال الديمقراطي في بلدانها ؟
إن ما لم يأبه له "جون ووتر بيري" كما لم يأبه له "وليام زارطمان"؛ هو أن الشعوب العربية؛ قادرة لوحدها على تغيير أوضاعها؛ من دون أي توجيه أو قيادة خارجية أو داخلية؛ ودخول المعارضة السياسية والنخبة المثقفة العربية؛ في علاقة تواطؤ مع الأنظمة الحاكمة؛ لا يعني تماما أن هذه الأنظمة في مأمن من التغيير؛ وذلك لأن الإرادة الشعبية التي بدأت تتشكل في العالم العربي؛ على ضوء ما تفرضه العولمة و تقنيات الاتصال وموجات المجتمع المدني؛ هي أقوى بكثير من أي تأثير؛ يمكن أن تشكله المعارضة السياسية أو النخبة المثقفة؛ التي تظل عوامل تقليدية في أي تغيير محتمل.
*كاتب وباحث أكاديمي مغربي
الهوامش:
1- أنظر: محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية " بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية ،2001".
2- سعيد بنسعيد العلوي– الإسلام والديمقراطية – سلسلة المعرفة للجميع ع: 26 –أكتوبر– نوفمبر 2002 - منشورات رمسيس– ص: 52- 53
3- وليم زارطمان– المعارضة كدعامة للدولة– نقلا عن سعيد بنسعيد العلوي–المرجع السابق– ص: 69
4- جون ووتر بيري – إمكانية التحرك نحو الليبرالية السياسية في الشرق الأوسط – نقلا عن سعيد بنسعيد العلوي – المرجع السابق – ص: 71
5- الطاهر لبيب- هل الديمقراطية مطلب اجتماعي؟ علاقة المشروع الديمقراطي بالمجتمع المدني العربي – ضمن أعمال ندوة المجتمع المدني في الوطن العربي و دوره في تحقيق الديمقراطية – منشورات مركز دراسات الوحدة العربية – 1992 – بيروت – ص: 339.
6- جون ووتر بيري – المرجع السابق
7- محمد الناجي - العبد و الرعية: العبودية و السلطة و الدين في العالم العربي – المكتبة الوطنية- يناير 2009 - توطئة ريجيس دوبري- ص: 9 .
8- عبد الرحيم العلام- الآداب السلطانية: دراسة في بنية و ثوابت الخطاب السياسي – عالم المعرفة –ع :324- 2006 – "ص:8-9".
9- Abdellah laroui – les origines sociales et culturelles du nationalisme marocaine "1912-1980" – centre culturel arabe – 1993 – p : 222-
10- ميشيل فوكو – حوار أجراه معه "م . فوينتانا " و نشر بمجلة القوس "L'ARC"- ع: 70 - 1977 .
11- نفس المرجع
12- نفس المرجع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.