أصبح الإلحاح على «شرعيّة الحكومة» سلاحًا يُرفَعُ في وجهِ كلّ نقد أو احتجاج! وكأنّ الحكومات «الشرعيّة» فوق النقد! وكأنّ ذهنيّة الحزب الواحد والفكر الواحد والحاكم الواحد تمخّضت لتلد لنا «فأر» الشرعيّة الواحدة!! أنجب لنا التاريخ العديد من «الشرعيّات» غير الانتخابيّة بدايةً من شرعيّة القوّة البشريّة أو الربّانيّة وشرعية الوراثة والدم مرورًا بشرعيّة النضال وصولاً إلى شرعيّة الكفاءة دون أن ننسى «شرعيّة» الوثوب والركوب!!
استطاع جانب من هذه الشرعيّات التعايش مع الشرعيّة الانتخابيّة في نوعٍ من «الكيتش»! وليس من الصعب الاهتداء إلى براهين على ذلك في الممارسة الحكوميّة اليوم. قسّم ماكس فيبر الشرعيّة إلى أصناف منها شرعيّة الكاريزما وشرعيّة التقاليد وشرعيّة القوانين أو المهمّات. وتتيح هذه الشرعيّة لأفرادٍ أو لمجموعاتٍ «إقناعَ» المُجتمع بجدارتهم القياديّة في ظرف مُعيّن أو لفترة مُعيّنة!
المؤسف أنّ الأداء الحكوميّ الراهن لم يُفلح حتى الآن إلاّ في إنتاج احتقان اجتماعيّ وشلل اقتصاديّ وانخرام أمنيّ وتهديد للحريّات. وهو من ثمّ عاجز عن «الإقناع». الإنجاز الحكوميّ الوحيد الظاهر في المرحلة الحاليّة هو التغوّل عن طريق الدولة وإرغام المجتمع على الانقياد إلى «جنّته» بالسلاسل والسيوف والهراوات. ظاهرة لا تقطع مع نهج النظام السابق في استخدام الفزّاعات: استعمل الاستبداد فزّاعة الإسلاميّين لتبرير بقائه وها هم يستخدمون ثنائيّة السلفيّين والكفّار لنفس الغرض! هذا هو واقع الحال اعترفت بذلك الحكومة أم لم تعترف. إلاّ أنّ الفزّاعات شبيهة بعلبة باندورا، سرعان ما يُصبح مُستخدِمُها رهينةً لها سواء علِم بذلك أم ظلّ آخر من يعلم.
ولعلّ «استعارة الحكومة الشرعيّة» لم تحضر بهذا القدر إلاّ لافتقار أصحابها إلى مقوّمات الإقناع! وهل تحتاج الشرعيّة الواثقة من نفسها إلى تأكيد شرعيّتها في كلّ لحظة؟!
ليس من شكٍّ في أنّ الانتخابات تمنح الفائز بها شرعيّة مشروطةً بمدى احترامه اللعبةَ السياسيّة المُتَّفق عليها. ولكن ما أن يتنكّر هذا الفائز لقواعد اللعبة وما أن يبدر منه ما يفيد التحايل عليها حتى تهتزّ شرعيّته من أُسُسِها.
أوّلاً: لأنّ الشرعيّة (La légitimité) ليست بالضرورة مطابقةً للقانونيّة (La légalité) ولولا ذلك لبطلت الشرعيّة الثوريّة نفسُها باعتبارها أمّ الشرعيّات في المرحلة الراهنة.
وثانيًا: لأنّ الشرعيّة الحقيقيّة ليست صكًّا على بياض بل هي وليدة الثقة التي يضعها الناخب في نوّابه مُقابل التزامهم بمضمون العقد الذي صوّت لهم على أساسه. الشرعيّة أخلاقيّة قبل كلّ شيء.
ويكتمل شرطُها الأخلاقيّ باعتراف الطرف الخاسر في الانتخابات للطرف الفائز بأنّ انخراط المشتركين في اللعبة الديمقراطيّة ليس مجرّد تكتيك للانقلاب عليها. وقد أثبتت الانتخابات التونسيّة الأخيرة عن طريق نسبة الإمساك عن التصويت وعدد المصوّتين للترويكا أنّ الوعي الاجتماعيّ لم يُترجَم إلى وعي انتخابيّ وأنّ الأكثريّة الانتخابيّة هي في الوقت نفسه أقليّة شعبيّة واجتماعيّة.
في مثل هذه الوضع نحن أمام شرعيّة نسبيّة مشروطة بوفائها للعقد الذي يربط بينها وبين الناخبين والذي يتضمّن العهدة الموكولة إليها. ولا تتعدّى هذه العُهدة في المرحلة الراهنة كتابة الدستور والقطع مع حلف الفساد والاستبداد.
المشكلة أنّ مضمون هذا العقد لا ينسجم مع التلكّؤ في كتابة الدستور ولا ينسجم مع سياسة الحكومة التي لم تفلح حتى الآن إلاّ في تهديد المكاسب والحريّات والحقوق عوضًا عن تثبيت المكاسب وإطلاق الحريّات وتأمين المزيد من الحقوق.
في هذا السياق قال ستيفان هيسل: «أرى أنّ شرعيّة القيم أكثر أهميّة من قانونيّة الدولة وأنّ من واجبنا كمواطنين أن نضع دائمًا قانونيّة الدولة موضع السؤال.. » من حقّ الناخب اليوم أن يسأل ماذا بقي من هذه الثقة ومن ثمّ ماذا بقي من الشرعيّة المرتبطة بها؟ وهو سؤال مؤسف يفرضه سعي الترويكا بقيادة الطرف المهيمن عليها إلى فرض رؤية لا علاقة لها بمضمون العقد الانتخابيّ!
الشرعيّة مثل الحبّ لا تحصل بالإرغام أو بالوثائق ولا تُثبتها الشعارات بقدر ما تثبتها البراهين. إنّها زهرة شديدة الرقّة تحتاج إلى تربة اسمُها الثقة. وما أن تهتزّ الثقة حتى تحتاج الشرعيّة إلى استعادة مقوّماتها من جديد.