صراع الشيوخ في تونس لم يكن وليد الأحداث الأخيرة فقط بل كان مباشرة إثر ثورة 14 جانفي عندما سارع عدد منهم إلى الصعود إلى سطح الأحداث السياسيّة ومن أبرزهم السادة أحمد المستيري وأحمد بن صالح ومصطفى الفيلالي الّذين طرحوا فكرة مجلس حكماء يقود البلاد خلال الفترة الانتقاليّة ، غير أنّ تلك المبادرة لم تعمّر طويلا خاصة بعد عودة السيّد راشد الغنوشي من المهجر وتولّي السيّد الباجي قائد السبسي الوزارة الأولى يوم 2 مارس 2011. الغنوشي والباجي سرقا الأضواء من سائر الشيوخ وبدا وإلى حدّ اليوم أنّهما فعلا من بين أبرز وأهمّ الأطراف والشخصيات التي ترسمُ الجزء الأبرز من توجهات الحياة السياسيّة الوطنيّة.
وعلى الرغم من أنّ البداية لم تكن جيّدة بين الرجلين حينما نعت الغنوشي الباجي بأنّه من الأرشيف وردّ عليه هذا الأخير بالقول إن الاثنين من الأرشيف ولكن كلّ واحد من «علبة مختلفة» أي العلبة الإسلاميّة والعلبة الدستوريّة التجمعيّة، على الرغم من ذلك فإنّ الحسابات السياسيّة الوطنيّة على وجه الخصوص قد قرّبت بين الرجلين طيلة الفترة الانتقالية الأولى حيث لم تظهر للعلن خلافات كبرى بل ظهر ما يؤكّد وجود تواصل ومشورة بينهما ، قبل أن تعود العلاقة إلى نوع من التجاذب الجديد والصراع المعلن منذ اطلاق السبسي نص بيان مبادرته يوم 26 جانفي 2012 عندما أكّد على ضرورة تحقيق توازن سياسي يواجه الترويكا الحاكمة وحزب حركة النهضة وشروعه في تأسيس حزب سياسي لتنفيذ تلك المهمّة.
«شفيق» و«مرسي» !!
الباجي ظهر كلاعب محوري في صناعة الواقع السياسي حاضرا وربّما مستقبلا، فقد لقيت مبادرته وهجا سياسيّا وإعلاميّا واسعا ولها انتظارات لدى قطاعات متعدّدة ، وقد يكون ذلك الأمر أزعج لا فقط الغنوشي وحركة النهضة بل شركاؤهما في الحكم فاندلعت سلسلة من المواجهات الجديدة التي انخرط فيها أيضا السيّد أحمد بن صالح انتصارا للطرف الأوّل على الثاني وأوشك أن يقع فيها شيخ آخر هو السيّد مصطفى بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي الّذي سارع بتصويب موقفه من حزب الباجي.
ويبدو أنّ المواجهة بين الرجلين أي الغنوشي والباجي ستتواصل على اعتبارها ستبقى مواجهة مفتوحة على الأقل إلى حدود الانتخابات القادمة وهو ما تؤكّده عبارات الغنوشي مؤخّرا بمناسبة فوز محمّد مرسي مرشّح الإخوان المسلمين في الانتخابات الرئاسيّة المصريّة عندما قال بأنه «مشروع لصناعة أحمد شفيق في تونس» يجري حاليا مؤكّدا أنّها صناعة ستبوء بالفشل في إيحاء لما يقوم به الباجي حاليا من توجّه لتشكيل قوّة سياسيّة وانتخابيّة.
تختزل تلك المواجهات بين الرجلين والتي جاءت في العديد من المرات في قالب «فذلكة» وطرافة المعطى الأهم الّذي يقود الساحة السياسيّة اليوم بين توجّهين اثنين: الأوّل يقوده السيّد الغنوشي وحزبه حركة النهضة في إطار قيادة الدولة وتسيير شؤون البلاد ضمن تحالف ثلاثي مع المؤتمر من أجل الجمهوريّة والتكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريات.
والثاني يتزعّمه افتراضيّا إلى حدّ الآن السيّد الباجي قائد السبسي كقوّة معارضة قادرة على امتلاك البديل والمنافسة على السلطة خلال الانتخابات القادمة خاصة في ظلّ غياب قوى معارضة فعليّة أخرى.
بوابتان ومشروعان مجتمعيان أم ماذا؟
ولكن بعيدا عن السياسة وحساباتها فإنّ صراع الرجلين يتجاوز المعطى الانتخابي إلى معطيات تاريخية وثقافيّة ومجتمعيّة أيضا ، أي أنّ المواقع الحالية للرجلين وبحسب العديد من المؤشرات تبرز وقوفهما على بوابتين متقابلتين في كل واحدة منهما مشروع مجتمعي مخصوص.
في هذا المستوى يجدر التوقّف عند مسألتين مهمّتين:
1) لا يُخفي راشد الغنوشي توقه إلى مجتمع تونسي إسلامي بل يتعدّاه إلى ما هو أبعد من ذلك عبر مصطلحات المغرب الإسلامي الموحّد أو المنطقة العربية الإسلاميّة أو إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير أي الخلافة الإسلاميّة أو اتحاد الدول المسلمة ، والارتباط ليس غريبا فالرجل هو ثاني قيادي في اتحاد علماء المسلمين حيث تغيب الجنسيات والحدود.
ويعكسُ هذا الخيار «الإسلامي» ابتهاج الغنوشي ومباركته لمجمل الأحداث التي صعّدت «إخوانه» في مصر وليبيا والمغرب وانتصاره لثورة «إخوانه» في سوريا ، هذا مع التواصل المفتوح مع «إخوانه» في تركيا وسائر الدول الإسلاميّة ، وما يعزّز تلك التطلعات والارتسامات قيادة الغنوشي لحزب سياسي مهيكل ومؤطّر أكّدت كلّ الأوساط بأنّه الحزب الأقوى حاليا في تونس.
2) في المقابل يقدّم الباجي قائد السبسي نفسه على أنّه «مجمّع» لما يُسمّى التيار الحداثي العلماني في تونس بشقيه البورقيبي الدستوري واليساري والذي كشفت الانتخابات الأخيرة حالة تشتّته وتصدّعه ، ويجد الرجل في مكاسب الدولة التونسية على مدار الخمسين سنة الفارطة الكثير من المزايا التي تجعلهُ يتقدّم أشواطا في مشروعه السياسي الجديد خاصة وأنّه نجح إلى حدّ الآن في تحقيق الترابط والانسجام بين وجوه وطنية عديدة من الشقين إضافة إلى كونه أصبح بمثابة «المنقذ» لفئات واسعة كانت تنتمي لحزب التجمّع المنحل الّتي عبّر الكثير منها عن مساندتها لحزب الباجي واستعدادها للانخراط فيه بما يضمن لها العودة إلى المشهد السياسي الوطني.
محاذير وتحديات
العديد من الملاحظين ووفق قراءة لواقع الحال اليوم يذهبون إلى أنّ الرجلين سيكونان قطب الرحى أو بوصلة المشهد السياسي القادم بما يعنيه ذلك من قدرة على الاستقطاب وتوجيه معطيات الشأن السياسي والتي ستكشفُ عمقها وأثرها في أوّل انتخابات قادمة حينما ستبرز موازين القوى ومكانة كلّ واحد منهما في المجتمع التونسي.
وعلى الرغم من أنّ العديد من المطبّات ما تزال قائمة وأنّ لكلّ طرف تحديات جسيمة عليه تخطّيها بالسرعة والنجاعة المطلوبتين: مطبات وتحديات أمام الغنوشي: سيتحمّل الغنوشي تبعات تجربة الحكم الأولى بما تمّ فيها من أخطاء، كما أنّه سيقف بمناسبة كتابة الدستور وضبط ترتيبات وإجراءات الانتخابات القادمة في موقف دقيق جدّا حيث عليه أن يؤكّد انفتاحه على الخيار الديمقراطي التعددي وعلى مبادئ الدولة المدنيّة وأنّه قادر على فرض ذلك الخيار وتلك المبادئ على توجهات المؤتمر التاسع لحركة النهضة وتوسيع تلك الأفكار على القاعدة الواسعة للإسلاميين في تونس عبر إعلان الموقف الواضح برفض كلّ مظاهر التطرّف والغلوّ الدينيين.
مطبات وتحديات أمام الباجي: الباجي مدعوّ إلى الصمود في وجه ما يروّج حوله وحول أهداف حزبه الجديد وذلك بتثبيت عدم وجود صلة مع الحزب الحاكم السابق و«النظام القديم» والبرهنة على أنّ الحزب الجديد لن يكون مظلّة يستظل تحتها رموز أو لوبيات الفساد المالي والسياسي ، كما أنّ السيّد الباجي يقف أيضا أمام تحد جسيم وعلى غاية من الدقّة ألا وهو القدرة على تجميع كلّ القوى الحداثيّة – أو على الأقل غالبيتها- بما لا يجعل حزبه الجديد مجرّد رقم متواضع في المعادلة السياسيّة والحزبيّة في البلاد.
بين «الغنوشي» و«الباجي» هناك فعلا صراع سياسي وثقافي وتاريخي، ولهما الاثنان محاذير وتحديات، وهناك أيضا بينهما قواسم مشتركة لصناعة المستقبل...فمن يسبق؟