دأب المسؤولون في النظام البائد طيلة أكثر من عقدين على محاربة كل أشكال النقد سواء بالتلميح أوالتصريح حتى تحوّلت إلى عقليّة عشّشت في أذهانهم، وترسّخت في أنفسهم فباتت بمثابة «الواجب» لحماية مصالحهم ومناصبهم. مقولة «الواجب» هذه يبدوأنها مازالت «تستهوي» بعض مسؤولي تونس ما بعد الثورة، ومفعول «سحرها» مازال يؤثر على ممارسات وسلوك عدد من أصحاب القرار على المستويين الجهوي والوطني لأنهم ببساطة لم يكفّوا عن الاعتقاد أن النقد موجه إلى أشخاصهم بأسمائهم وألقابهم، وليس لخططهم ووظائفهم، وهويمثّل خطرا على كراسيهم وامتيازاتهم، ووجاهتهم الاجتماعية.
نفس «منسوب» الارتباك، وموجة السخط التي كانت تتملّك أبسط مسؤول جهوي في العهد السابق كلما وُجّهت إليه سهام النقد نلاحظه اليوم، وبعد أن تحرّر الإعلام من قيوده يتكرر بذات الطريقة، وبنفس ردّ الفعل، مع الإقرار بوجود بعض الاستثناءات طبعا.
صحيح أن تغيير العقليات يحتاج إلى الكثير من الوقت، والجهد، وصحيح أيضا أن البلد برمّته حكاما وشعبا ومعارضة لم يتخطّ بعد سنته الثانية ديمقراطية، لكن هذا لا يمنع في اعتقادنا أصحاب المسؤوليات من محاولة التدرّب على قبول النقد، وتحمّل تبعات قراراتهم، ومواجهة الأزمات والأخطاء التي يمكن أن يقعوا فيها بالشجاعة اللازمة دون اللجوء إلى الحلول السهلة بذرّ الرماد في العيون، أودسّ الرؤوس في الرمال.
فإدارة الشأن العام من أي موقع كان : علا شأنه أوصغر ستشوبها بالضرورة ككلّ عمل بشري نقائص وثغرات وأخطاء مهما بلغت قيمة العمل المنجز، ودرجة الاجتهاد، وهنا يأتي دور الإعلام والمعارضة ومنظمات المجتمع المدني للنقد، والتقييم والتصويب حتى لا تحيد القاطرة عن المسار.
الاعتراف بالأخطاء، وبالفشل في تحمّل مسؤولية ما يعتبر في الأنظمة الديمقراطية العريقة قمّة الشجاعة، ومنتهى المسؤولية والوطنية غالبا ما تُترجم على أرض الواقع بتقديم الاستقالة بصفة طوعيّة.. فهل سيأتي اليوم الذي نشاهد فيه أحد مسؤولينا يقدّم استقالته من منصبه ويعترف بفشله دون خجل أوتبريرات واهية؟