سألني ابني منذ أيام عن كتاب لمصطفى لطفي المنفلوطي، لم يعثر عليه في مكتبتي المتواضعة التي صارت أقرب الى مجال اختصاصي وهوايتي الادبية. حدّثته بشيء من الاسهاب عن المنفلوطي وعن طائفة من الكتّاب مثل جبران والرافعي وطه حسين واحمد تيمور... ممّن تعلّم عليهم أبناء جيلنا اصول العربية، وجرت مؤلّفاتهم منّا مجرى المحفوظ المأثور. وكنّا، بفضلهم، ندير العربيّة على ألسنتنا، بكثير من السهولة واليسر، ونحن دون الرابعة عشرة. بل إن منّا من كان يحاول في تلك السنّ المبكّرة كتابة الشعر الموزون والقصّة والخاطرة... برغم ان وسائل تحصيل الكتاب كانت تعوز اكثرنا. وقلت لابني إني لا أتوقّع ان يجد أي كتاب للمنفلوطي ولا لغيره من أعلام الادب العربي، في مكتبة المعهد الذي يدرس به. فقد ولّى ذلك الزمان الذي كان فيه لمكتبة المدرسة شأن أورثنا ملكة في اللغة وقوّى احساسنا بها، وصارت أكثر مدارسنا ومعاهدنا خالية من هذه المكتبات، على أهميّتها في خدمة المناهج التعليميّة واستكمال الأبحاث والواجبات المطلوبة من التلاميذ. ولك ان تسأل: ما الحامل على ذلك؟ أهي دعوى التيسير والتسهيل ام اللامبالاة ام هذه الثرثرة الجديدة التي نسمعها كل يوم حول الوسائل السمعية البصرية التي لا يمكن بأي حال ان تنوب مناب الكتاب؟ إن ما بين أيدي تلاميذنا من وسائل تحصيل العلم، يظل رغم الجهد المبذول دون المأمول بكثير. وينبغي ان نقرّ بأن غياب المكتبة المدرسية او اهمالها، هو من أظهر الاسباب التي أورثت التلميذ او الطالب عامّة، عجزا يأخذ بلسانه وقلمه، فلا هو يستطيع قولاولا بيانا، وإنما يخلط عربيا بعامّي أو عجميّ... ناهيك عن مساخر اللحن وأضاحيك العجمة وكل ما يؤذي السمع ويعمي القلب. ما أريد ان أسمّي مدرسة او معهدا ولا بلدا بعينه، ولكن ما أعرفه ويعرفه زملاؤنا من عناية الاتجاهات التعليمية الحديثة بالمكتبة المدرسية ودورها الفاعل في تحقيق اهداف التعليم، ليس بالامر الذي يخفى لا في البلدان الغربية المتقدّمة فحسب، وإنما في بعض البلاد النامية أيضا حيث أدرك القائمون على شؤون التعليم فيها أن المكتبة المدرسية تضمن للتلميذ اكتساب جملة من المهارات، من أهمّها: إتقان القراءة والكتابة، والقدرة على الحصول على المعلومة من مصادرها وكيفية التعامل معها. وكلّنا يدرك ان عصرنا هو عصر «فيضان المعلومات» أو «انفجار المعلومات» كما يسمّي البعض هذه الظاهرة تشبيها لها بالانفجار السكاني. ومما تقدّره الاحصائيات الحديثة، بلغة الارقام ان ما تصدره المطابع سنويا في جميع انحاء العالم يربو على تسعمائة الف كتاب ونحو خمسمائة ألف دورية ومليونين من المواد السمعية والبصريّة، ومثلها من المصغّرات الفيلمية ومئات الألوف من الاقراص والاشرطة والاسطوانات الممغنطة أو تلك التي تسمّى المدمجة او المتراصّة... حتّى أصبح من المتعذّر على أي باحث أو دارس متابعة هذه الوفرة في المعلومات وتصخّمها، بما فيها تلك التي تتعلّق بتخصصه العام، ناهيك عن التحكم فيها والسيطرة عليها. من هذا الجانب تتّضح اهمية المكتبة المدرسية الحديثة في ما نطلق عليه «مدرسة الغد» او «البعد المستقبلي للتعليم» المطالب باعداد انسان يستطيع ان يعيش في هذا العالم ويعيش حداثته التي لم نعد نملك خيارا في رفضها او الاعتراض عليها. ذلك ان المكتبة المدرسية فيما يقرّره أهل الذكر، نظام فرعيّ للتعليم لا غنى عنه ومركز اشعاع ثقافيّ أثره أبقى وأكثر فائدة من تعليم المعلّم، بما توفّره من موادّ تعليمية وتثقيفية مختلفة، من المفروض ان تختار بعناية، وتنظّم تنظيما فنيّا خاصا، بحيث تقدّم خدماتها الى التلاميذ والى هيئة التدريس بصورة كافية. وربّما كان المتعلّم احوج اليها، فهي تدرّبه على استخدام المكتبة ومصادرها، وعلى كيفية الحصول على المعلومة والوصول اليها في مكانها، بما يحقّق أكبر استفادة منها، فضلا عن تنمية قدراته في اكتساب مهارة التعليم الذاتي وتنشئته تنشئة اجتماعية سليمة، من خلال تقيّده بالانظمة والتعليمات التي تضعها المكتبة، وإلمامه بالوسائل الفنيّة مثل فهرسة الكتب والدوريات والمجلات. وهذا وغيره مما يعرفه القاصي والداني، يستدعي عناية جادّة بالتربية المكتبية في مؤسساتنا التعليمية، بدءا بتعويد التلميذ منذ المرحلة الابتدائية على دخول المكتبة المدرسية وتشجيعه على ارتيادها في المراحل الدراسية اللاحقة. على أن اكثر مكتباتنا المدرسية وهذه حقيقة ينبغي ان نعترف بها مغلق او مهمل، والقليل المفتوح منها، يكاد لا يغني ثقافة التلميذ او يزوّده بالمعرفة الأساسية إما لندرة الاصدارات الحديثة والتعامل غير اللائق مع الكتاب... وكثير من الكتب فيها اشبه بالاوراق النقدية الوسخة من كثرة التداول والاستعمال، حتى أن القارئ لا يمسك بها الا وفي يده من نتنها عود! وإما لأن المشرفين عليها غيرُ مؤهلين تأهيلا مناسبا. وكثيرا ما يوكل امرها الى مدرّسين مرضى او هم غير قادرين لسبب ما على ادارة أقسامهم. والحل الأنسب هو تعيين امين مكتبة قارّ في كل مدرسة، واعداد قاعة مناسبة للمطالعة، فإن تعذّر فالعودة الى اجراءات استعارة الكتاب، إذ لا ينبغي ان ننسى ان المكتبة المدرسية هي أوّل ما يقابل التلميذ القارئ في حياته من مكتبات. وعلى مدى تأثّره بها وانطباعه عنها تتوقّف لاحقا علاقته بأنواع المكتبات الاخرى وبالكتاب عامّة. فعسى ان تتنبّه وزارة التربية الى هذا النقص الفادح في مؤسساتنا التربوية، وأن تعيد للمكتبة المدرسية مكانتها.