ربما كان جواد الحطاب من بين أكثر الشعراء أناة بين أبناء جيله، أقول «أناة» لأحدد بأن هذه الأناة مع الشعر فقط إذ أنه وبحكم عمله الصحفي وبحكم مهماته في اتحاد الكتاب في احدى دوراته كان يكتب للأطفال وله عملان روائيان أحدهما «يوميات فندق ابن الهيثم» الذي وظف فيه مشاركته مجندا في جبهات الحرب الطويلة مع إيران، تلك الحرب التي شكلت مادة للكتابة العراقية شعرا وقصة قصيرة ورواية ورغم ان التوجيه الرسمي الذي خضع له بعض الأدباء مضطرين أو مقتنعين كان يدعو إلى ما يسمى أدب التعبئة أسوة بما كتبه الأدباء السوفييت من وحي الحرب، وكانت ترجماته تصدر تباعا إلى اللغة العربية عن دار التقدم بموسكو، وقد تولّد لدي انطباع بأن عددا من الأدباء العراقيين الذين كتبوا أدبا تعبويا عن الحرب قد «استعانوا» بما خطه الأدباء السوفييت، هذا الرأي كان متداولا. لكن جواد الحطاب كتب روايته هو للحرب حتى انها قد نالت الاهتمام وتأكد ان الرواية ليست بالضرورة هي التي يكتبها الروائيون بل والشعراء والصحفيون فهي تجمع خلاصات كل الفنون.
أعود إلى ديوان جواد الحطاب هذا الذي ثبت في صفحاته الأخيرة مقتطفات من آراء لستة وثلاثين كاتبا عربيا وسنعود إليها وقد كتبت بعد صدور طبعة الديوان الأولى ببيروت (دار الساقي 2008).
وزع الشاعر ديوانه على جزأين الأول والثاني ولا ندري لم فعل هذا ما دام عالم القصائد واحدا؟ ومحنة العراق بعد احتلاله تشكل قاسما مشتركا لقصائد الديوان؟ وفي القصيدة الأولى يستحضر الشاعر «المتنبي» وكأنه أراد توضيح عالم القصيدة فكتب لها تقديما أوضح فيه الفترة التي أراد لقصيدته أن تغطيها مع شرح لحياة الأعلام الذين يرد ذكرهم في القصيدة، أي أنها قصيدة تعتمد المرجعية التاريخية، لكن هذا الاعتماد لا يكون على حساب شعرية القصيدة التي أفاد فيها من السينما ومن التقطيع السريع ومن «المفارقة» مثل: (يقول الصاحب بن عباد كان المتنبي مذيعا في (TV الحمدانيين) أو: (قال خراساني: رأيت المتنبي يبيع الهمبرغر في صالة مكدونالد) Mix المتنبي عارض أزياء Mix المتنبي يعلن أكبر سوق بضائع في الشرق الأوسط) هكذا... بهذه المفارقات التي تتوفر على كمّ من السخرية المرة يرى الشاعر حاضرنا العربي وخاصة بعد احتلال العراق وبعد كل مقطع يضع عددا من علامات الاستفهام موزعة على سطرين. يقول في مقطع آخر من القصيدة نفسها مخاطبا المتنبي: (لو كان بعطرك نفط كنا ألقينا الذنب على الشركات لو كنت تشايع «لينين» أو.. العم سام لتقيّد قتلك في حقل: صراع الطبقات لكنك كنت المتنبي) هذه القصيدة وإن اختار شاعرها المتنبي محورا لها، لكنه كان بصياغة أخرى، متنبي مثقل بحاضر كأنه لم يستعد عصره بل جاء به الشاعر إلينا ليحمله هزائمنا بل وخطايانا. هذه القصيدة ذكية وهي وان استعارت المتنبي فإنها لم تفعل ذلك إلا من أجل أن تحمله بكل حاضر بلده خاصة بعد أن تعرض للغزو فالاحتلال. موضوع القصيدة، أي قصيدة عند جواد الحطاب مفتوح ومتداخل، يتكئ على «المفارقة». لنقرأ مثلا آخر من قصيدة «فايروس»: (اختر حلمك بالريموت فالدولة «جزء من تسهيلات الدولة للشعب» سجلت الأحلام على «دسك»). ومما يتوقف عنده قارئ الديوان ان الشاعر معنيّ بالتناص الذي يشير إليه مقدما، مثل قصيدته «مقبرة الغرباء» وهي في رثاء الجواهري حيث يشير ان فيها تناصا مع سعدي يوسف. و«مقبرة الغرباء» هو اسم المقبرة في دمشق التي تضم قبر الجواهري وقبر حيدر ابن الشاعر سعدي يوسف أيضا. وقصيدة الرثاء هذه ليست من قصائد الرثاء التقليدية الشائعة، وتبدأ هكذا: (لم أربّ من قبل حماما لا أشعل، لا أبيض، لا أصفر، لا رماديا من أجلك أنت فقط ذهبت لسوق الغزل واشتريت مائة طير زاجل «بعدد سنواتك يا نسر لبد» وأطلقتها باتجاه مقبرة الغرباء) هكذا البداية ونشير إلى أنه أورد أسماء طيور الحمام في العراق وكذلك اسم سوق الغزل بكسر الزاء الذي تباع فيه الطيور والحيوانات الأليفة ببغداد. و«مقبرة الغرباء» معروفة عند عراقيي المهاجر والمنافي ففيها رفات عدد من الأسماء اللامعة في العراق من سياسيين وأدباء أمثال مصطفى جمال الدين وهادي العلوي وحيدر نجل سعدي يوسف والجواهري نفسه، الا البياتي فهو مدفون في مقبرة أخرى لكن الشاعر أورد في قصيدته وكأنه مدفون فيها أيضا: يقول الشاعر من القصيدة نفسها: (يا محافظ مقبرة الغرباء مقبرتك نشك في قدرتها على بلوغ آخر الصراط ... فهي تحتاج إلى حشد من الفرسان لتنمية مواردها الشحيحة أنت والبياتي ومصطفى جمال الدين وحيدر بن سعدي يوسف وسعدي يوسف يوما). والقصيدة ممتدة، تتأكد فيها وفرة المفارقات التي يتلذّذ بها الشاعر. أما التناص الذي يؤشره فهو تناص متداخل، سيذكره في قصائد أخرى مع شعراء من العالم. (وللحديث قسم ثالث وأخير)