مع الشروق : فصل آخر من الحصار الأخلاقي    كأس إفريقيا للأمم – المغرب 2025: المنتخب الإيفواري يفوز على نظيره الموزمبيقي بهدف دون رد    "طوفان الأقصى" يفجر أزمة جديدة في إسرائيل    الغاء كافة الرحلات المبرمجة لبقية اليوم بين صفاقس وقرقنة..    نجاح عمليات الأولى من نوعها في تونس لجراحة الكُلى والبروستاتا بالروبوت    وزارة الداخلية تطلق خدمة جديدة لاستخراج بطاقة التعريف عن بعد لفائدة تلاميذ السنة الثالثة ثانوي    الليلة: الحرارة تترواح بين 4 و12 درجة    الإطاحة بشبكة لترويج الأقراص المخدّرة في القصرين..#خبر_عاجل    مناظرة 2019: الستاغ تنشر نتائج أولية وتدعو دفعة جديدة لتكوين الملفات    كأس افريقيا للأمم 2025 : المنتخب الجزائري يفوز على نظيره السوداني    أستاذ قانون: العاملون في القطاع الخاصّ يمكن لهم التسجيل في منصّة انتداب من طالت بطالتهم    هيئة السلامة الصحية تحجز حوالي 21 طنا من المواد غير الآمنة وتغلق 8 محلات خلال حملات بمناسبة رأس السنة الميلادية    بابا نويل يشدّ في'' المهاجرين غير الشرعيين'' في أمريكا: شنوا الحكاية ؟    تمديد أجل تقديم وثائق جراية الأيتام المسندة للبنت العزباء فاقدة المورد    تونس 2026: خطوات عملية لتعزيز السيادة الطاقية مع الحفاظ على الأمان الاجتماعي    الديوانة تكشف عن حصيلة المحجوز من المخدرات خلال شهري نوفمبر وديسمبر    توننداكس ينهي معاملات الإربعاء على منحى سلبي    القصور: انطلاق المهرجان الجهوي للحكواتي في دورته الثانية    في الدورة الأولى لأيام قرقنة للصناعات التقليدية : الجزيرة تستحضر البحر وتحول الحرف الأصيلة إلى مشاريع تنموية    الرابطة الأولى: علاء الدين بوشاعة رئيسا جديدا للمستقبل الرياضي بقابس    الديوان الوطني للأسرة يجهّز ثلاث مصحات متنقّلة بهذه المناطق    زلزال بقوة 1ر6 درجات يضرب هذه المنطقة..#خبر_عاجل    عاجل: شوف شنيا قال عصام الشوالي على الماتش الجاي لتونس    عاجل: بعد فوز البارح تونس تصعد مركزين في تصنيف فيفا    تزامنا مع العطلة المدرسية: سلسلة من الفعاليات الثقافية والعروض المسرحية بعدد من القاعات    عدّيت ''كوموند'' و وصلتك فيها غشّة؟: البائع ينجّم يوصل للسجن    عاجل/ بعد وصول سلالة جديدة من "القريب" إلى تونس: خبير فيروسات يحذر التونسيين وينبه..    قائمة سوداء لأدوية "خطيرة" تثير القلق..ما القصة..؟!    حليب تونس يرجع: ألبان سيدي بوعلي تعود للنشاط قريبًا!    هام/ المركز الفني للبطاطا و القنارية ينتدب..    عاجل: هذا موعد الليالي البيض في تونس...كل الي يلزمك تعرفه    ندوة علمية بعنوان "التغيرات المناخية وتأثيرها على الغطاء النباتي والحيواني" يوم 27 ديسمبر الجاري على هامش المهرجان الدولي للصحراء    رد بالك: حيلة جديدة تسرّق واتساب متاعك بلا ما تحسّ!    عركة كبيرة بين فريال يوسف و نادية الجندي ...شنوا الحكاية ؟    قابس: أيام قرطاج السينمائية في الجهات ايام 25 و26 و27 ديسمبر الجاري بدارالثقافة غنوش    درجة الحرارة تهبط...والجسم ينهار: كيفاش تُسعف شخص في الشتاء    هذا هو أحسن وقت للفطور لخفض الكوليسترول    تونس: حين تحدّد الدولة سعر زيت الزيتون وتضحّي بالفلاحين    بول بوت: أوغندا افتقدت الروح القتالية أمام تونس في كأس إفريقيا    عاجل: تغييرات مرورية على الطريق الجهوية 22 في اتجاه المروج والحمامات..التفاصيل    صفاقس: تركيز محطة لشحن السيارات الكهربائية بالمعهد العالي للتصرف الصناعي    عاجل: اصابة هذا اللّاعب من المنتخب    اتصالات تونس تطلق حملتها المؤسسية الوطنية تحت عنوان توانسة في الدم    راس السنة : جورج وسوف بش يكون موجود في هذه السهرية    مع بداية العام الجديد.. 6عادات يومية بسيطة تجعلك أكثر نجاحا    وزارة التجهيز تنفي خبر انهيار ''قنطرة'' في لاكانيا    عاجل/ قضية وفاة الجيلاني الدبوسي: تطورات جديدة..    البرلمان الجزائري يصوّت على قانون يجرّم الاستعمار الفرنسي    تونسكوب تطلق نشيدها الرسمي: حين تتحوّل الرؤية الإعلامية إلى أغنية بصوت الذكاء الاصطناعي    عاجل/ العثور على الصندوق الأسود للطائرة اللّيبيّة المنكوبة..    كأس الأمم الإفريقية المغرب 2025: برنامج مباريات اليوم والقنوات الناقلة..#خبر_عاجل    اتحاد المعارضة النقابية: استقالة الطبوبي ليست نهائية ولم تكن مفاجئة    عبد الستار بن موسى: المنتخب الوطني قادر على التطور.. والمجبري كان رجل مباراة اليوم    دعاء السنة الجديدة لنفسي...أفضل دعاء لاستقبال العام الجديد    الطقس اليوم شتوي مع أمطار غزيرة بهذه المناطق..#خبر_عاجل    مع الشروق : تونس والجزائر، تاريخ يسمو على الفتن    في رجب: أفضل الأدعية اليومية لي لازم تقراها    برّ الوالدين ..طريق إلى الجنة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في كتاب : العراق في القلب دراسات في حضارة العراق : عزيز العرباوي
نشر في الفجر نيوز يوم 22 - 01 - 2011

صدرت عن الدار العربية للموسوعات في بيروت، الطبعة الثانية من كتاب "العراق في القلب، دراسات في حضارة العراق" للدكتور علي القاسمي، الكاتب العراقي المقيم في المغرب، وتمتاز هذه الطبعة عن الطبعة الأولى التي صدرت عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء/بيروت، من حيث الحجم وعدد الموضوعاتالتي تتناولها، إذ تقع الطبعة الثانية في 712 صفحة من الحجم الكبير، أي ضعف الطبعة الأولى،وغطت فترات أخرى من التاريخ الحضاري للعراق .
أول ما يلفت انتباهنا في هذا الكتاب هو عناوانه، باعتبار أن العنوان، هو العلامة الأولى التي تؤسس ميثاق القراءة، وتحدد أفق انتظار القارئ. فعنوان هذا الكتاب يجمع بين طبعتين مختلفتين في آن واحد: أدبية إبداعية، وعلمية موضوعية. فالقسم الأول من العنوان "العراق في القلب" هو تعبير أدبي وجداني، أما قسمه الثاني فيشير إلى أن الكتاب يضم بحوث موضوعية تتناول حضارة البلاد. ولا غرابة في هذا الجمع بين النقيضين، إذا علمنا أن المؤلف هو أحد علماء المصطلحية والمعجمية البارزين، والوقت نفسه قصاص روائي مترجم لامع .
كتبت الدراسات العلمية الموضوعية في هذا الكتاب،بأسلوب أدبي شعري رفيع. وقد أشار إلى ذلك الشاعر الكبير فاروق شوشةالأمين العام لمجمع اللغة العربية في القاهرة فقال في مقالتين نشرهما في جريدة "الأهرام" القاهرية عن هذا الكتاب، ما نصه:
"في كل ما قرأت من شعر وكتابات نثرية تتغنى بالعراق وطنا وحضارة وتاريخا وانتماء، لا أظنني وجدت هذا الفيض الغامر من الولاء والمحبة الذي تنبض به كلمات الدكتور علي القاسمي في كتابه "العراق في القلب" ... الذي هو في حقيقته قصيدة ذائبة في ثنايا نثره الأدبي الجميل، مغموسة بروحه المتوهجة، وعاطفته الجياشة، وشجنه الآسر، في سطور تذكرنا بتجليات السياب، ووثبات البياتي، وسبحات نازك، وفضاءات بلند،...." .
يتألف الكتاب من دراسات ومقالات وعروض كتب،تتناول أبرز معالم العراق الثقافية في مختلف فترات التاريخ: العصر السومري والبابلي، صدر الإسلام، العصر الأموي، العصر العباسي، العصر المغولي،عصر النهضة العربية، العصر الحديث .
في العصر السومري والبابلي، يدرس المؤلف في عدد من المقالات تاريخ السومريين بوصفهم مؤسسي الحضارة الإنسانية، فمعظم الاختراعات الكبرى التي أثرت في مسيرة الإنسان وأرست اسس حضارته، كانت من بنات أفكارهم،مثل: ابتكار الكتابة، واختراع المحراث، وتطوير الزراعة، وتدجين الحيوانات، وتقسيم الزمن إلى سنين وشهور وأيام،وتقسيم الدائرة إلى 180 درجة وغيرها. فلا غرو أن يقال "التاريخ يبدأ من سومر"، إذ لا تاريخ علميا من دون وثائق مكتوبة،والكتابة من اختراع السومريين .
يركز المؤلف على تطور مفهوم حقوق الإنسان في حضارة العراق القديم: سومر وبابل وآشور، نتيجة ظهور عدد من الأنبياء والمصلحين مثل: أبو البشر الثاني نوح الذي ظهر في مدينة شورباك السومرية في أوائل الألف الرابع قبل الميلاد، وأبو الأنبياء إبراهيم الخليل الذي ولد في مدينة أور السومرية في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، والأنبياء هود وصالح ويونس وغيرهم. وكان هؤىء الأنبياء يطالبون ملوك المدن في العراق القديم الذين كانوا يدعون أنسابا إلى الآلهة ويحكمون بسلطة مطلقة، بالعدل ، والإنصاف، ونبذ الشرك، وعبادة الإله الواحد، لأن عبوديته تلغي عبودية الإنسان للإنسان،إضافة إلى أن عددا من الملوك السومريين والبابليين أسسوا المحاكم، ووضعوا شرائع تحدد حقوق المواطنين وواجباتهم، مثل شريعة الملك السومري أوروكاجينا سنة 2350 ق.م، وشريعة الملك أورنامو سنة 2050 ق.م، وشريعة الملك لبت-عشتار سنة 1995 ق.م، وهي الشرائع التي جمعها وطورها الملك البابلي حمورابي سنة 1750 ق.م. ووضعها في مسلة حمورابي الشهيرة التي كانت منصوبة عند مدخل عاصمته، مدينة بابل ذات الحدائق المعلقة، ثم سرقها منقبو الآثار الغربيون ووضعوها في متحف برلين. وهذه المدونة يدرسها طلاب الحقوق في جميع أنحاء العالم .
ونظرا لأن الأدب السومري هو من أقدم الآداب الإنسانية المكتوبة وأروعها، فإن المؤلف يتناول الأساطير السومرية خاصة أسطورة "عنانا/عشتار"، إلهة الحب والجمال والخصب عند العراقيين القدماء والتي عبدت في جميع أنحاء الشرق الأوسط،واتخذت أسماء مختلفة مثل أفروديت لدى الإغريق وفينوس لدى الرومان. وفي فصل آخر ينجز عرضا وتلخيصا لملحمة "جلجامش" التي ترجمت إلى لغات العالم القديم والحديث، وقلدتها ملاحم الإغريق مثل ملحمة الإلياذة والأوديسا لهوميروس .
ينتقل المؤلف في قسم آخر من الكتاب إلى العراق في صدر الإسلام، وما كان يجيش به من حركات فكرية، وأحزاب سياسية، ومدارس فقهية، وفرق كلامية، ومدارس نحوية، وغيرها. وفيما كانت الفرق الكلامية تبحث في صفات الله والرسل ومسائل القضاء والقدر والجبر والاختيار ويوم الحساب والعقاب والثواب والتكفير والتضليل، فنتج عنها فرق المعتزلة والمرجئة والقدرية وغيرها؛ كانت الأحزاب السياسية، كالحزب الأموي، والحزب الزبيري، والخوارج، والشيعة، والحزب العباسي، تبحث في الإمامة، والشروط الواجب توفرها في الخليفة. وقد تبلورت المدارس النحوية في مدرستين رئيستين هما: مدرسة البصرة التي ترسي قواعدها النحوية على جمع مدونة كبيرة من كلام الأعراب في البادية، ومدرسة الكوفة التي تكتفي بأمثلة قليلة من الجمل، تستخلص منها القاعدة النحوية مستعينة بالقياس. أما المدارس الفقهية آنذاك فتمثلت في: مدرسة أهل الحديث في المدينة المنورة وعلى رأسها الإمام مالك، ومدرسة أهل الرأي في العراق ورأسها الإمام أبو حنيفة. ويعتمد فقهاء المدرستين على استنباط الأحكام الفقهية من مصدري الشريعة الإسلامية: القرآن والسيرة النبوية، غير أن أهل الحديث أكثر بالسنة النبوية وعمل أهل المدينة، فيما قلل أهل الرأي من اعتمادهم على الحديث خوفا من الأحاديث الموضوعة، واعتمدوا أساسا على أحكام القرآن والقياس عليها .
وحاول المؤلف أن يجيب على سؤال محير هو: إذا كانت دمشق هي عاصمة الدولة الإسلامية في العصر الأموي، فلماذا وجدت مراكز الثقافة الإسلامية في البصرة والكوفة والمدينة، وليس في دمشق؟ .
وفي القسم الخاص بالعصر العباسي، نجد فصلا عنوانه: "تجليات العمارة الإسلامية في تخطيط مدينة بغداد القديمة" (145ه) وهي المدينة التي ظلت أكبر حاضرة في العالم مدة قرنين من الزمن، حتى خلفتها مدينة فاس في المغرب الأقصى. ويتطرق هذا الفصل إلى الأخطاء الشائعة عن مدينة بغداد ويصححها. ومن هذه الأخطاء أن اسم مدينة "بغداد" ذو أصل فارسي معناه "عطية الصنم"، في حين أن الاسم ذو أصل سومري معناه "قلعة النسر"، إذ كانت بغداد قرية قائمة منذ زمن السومريين والأكديين، قبل أن يعرف العراق أية تأثيرات فارسية، لغوية كانت أم سياسية،بوقت طويل. ومن ناحية أخرى، أوضح المؤلف أن بغداد لم تكن مدينة عسكرية لإيواء الجيوش الإسلامية من المجاهدين، كالمدن التي اختطها المسلمونقبلها: البصرة والكوفة والفسطاط وواسط؛ ولم تكن مدينة تجارية ولا شعبية، وإنما كانت مدينة ملكية، اختطها الخليفة المنصور العباسي لسكناه وأولاده وأقربائه وقواده. ونفى أن يكون المنصور قد اغتصب الأرض واستخدم الناس بالسخرة لبناء بغداد كما يدعي بعض المستشرقين، وإنما اشترى الأرض من أصحابها واستخدم عمال البناء المهرة التي ذكر المؤرخون المعاصرون للبناء، أجرة كل رتبة من رتبهم. وبعملية حسابية، يستنتج المؤلف أن المنصور أنفق على بناء بغداد ، خمسة ملايين دولار بأسعار الوقت الحاضر. ولفت المؤلف الانتباه إلى أن التطورات السياسية والاجتماعية التي طرأت على الحياة الإسلامية أدت إلى تغيير في دور المسجد في المدينة. ففي حين كان المسجد في صدر الإسلام، حيث يجتمع المسلمون للتشاور، والتعلم ، والصلاة، هو مركز المدينة، وأكبر بناء فيها، ويلحق به بناء أصغر حجما بكثير، هو دار الإمارة لسكن الخليفة أو الوالي، كما هو الحال في البصرة والكوفة والفسطاط، فإن مركز مدينة بغداد صار قصر الخليفة الفخم الذي ألحق به مسجد صغير، لصلاة الخليفة والمقربين منه. وهو مؤشر إلى تغير التناسب بين الديني والدنيوي .
وخصص المؤلف فصولا لأعلام في الفكر والإبداع إبان العصر العباسي، مثل اللغوي علي بن حمزة البصري (ت 375 ه) الذي كان صديقا للشاعر المتنبي ومن نقاد شعره، والباحث المؤرخ ابن أنجب الساعي (ت 593 ه) صاحب كتاب "الدر الثمين في اسماء المصنفين"، وهو من كتب الأعلام مثل كتاب "الفهرست" لابن النديم. وكانت مخطوطة هذا الكتاب مفقودة حتى عثر عليها الباحث المغربي الدكتور أحمد شوقي بنبين قبل بضع سنين في مكتبة القصر الملكي بمراكش .
في أواخر العصر العباسي، وقعت الحروب الصليبية (1097-1291) التي شنتها أوربا على البلاد العربية، الشام ومصر، بحجة تحرير الأراضي المقدسة، في حين كانت أسبابها الحقيقية تكمن في أوضاع أوربا الاقتصادية ومطامعها فب البلاد العربية. وقد برزت خلالها شخصية صلاح الدين الأيوبي (1138-1193). فقد بعث نورالدين زنكي، أمير الموصل وحلب، جيشا إلى مصر لمساعدتها في صد هجمات الصليبيين، بقيادة شيركوه بن أيوب وزيرا له. بيد أن شيركوه توفي بعد بضعة أشهر، فتولى صلاح الدين الأيوبي الوزارة. وعندما توفي الخليفة الفاطمي، ألحق صلاح الدين الأيوبي مصر بالخلافة العباسية من أجل توحيد البلاد العربية لمجابهة الصليبيين .
ويفرد المؤلف فصلا ممتعا في التاريخ المقارن عنوانه "بين يوسف بن تاشفين وصلاح الدين الأيوبي" يرى فيه أن صلاح الدين الأيوبيقد أفاد من الاستراتيجية التي اتبعها يوسف بن تاشفين أمير المرابطين في المغرب، في مقارعة الصليبيين في الأندلس قبله بقرن من الزمن تقريبا. وتقوم هذه الاستراتيجية على توحيد البلاد أولا، ونشر التعليم والمعرفة فيها، وتقويتها عسكريا واقتصاديا، قبل التوجه لمحاربة الصليبيين. وهكذا استطاع أن ينتصر يوسف بن تاشفين عليهم في معركة الزلاقة في الأندلس سنة 497 ه/1086م، وأن ينتصر صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين في فلسطين سنة 583ه/1187م .
وفي فصل عنوانه "كتب الدرس والأنس، من العراق إلى الأندلس"، يدرس المؤلف العلاقات الثقافية بين الشرق والغرب الإسلاميين. وتجلت هذه العلاقات في انتقال بعض العلماء والفقهاء والفنانين والموسيقيين من المشرق إلى المغرب وبالعكس. ومن الموسيقيين العراقيين الذين انتقلوا إلى الأندلس الموسيقي زرياب الذي طور آلة العود وأسس فرقة موسيقية في المغرب الأقصى ثم الأندلس. ومن الأدباء اللغويين أبو علي القالي (280-356ه)، صاحب معجم "البارع" الذي رحل من بغداد إلى الأندلس وألف فيها كتاب "الأمالي" الشهير؛ وكذلك صاعد البغدادي (335-417ه) الذي رحل إلى قرطبة وألف فيها كتابه "الفصوص" الذي يقع في عدة مجلدات، وروايته العاطفية "الهجفجف بن عدقان مع الخنوت بنت محرمة". وظلت مخطوطة كتاب "الفصوص" مفقودة لأكثر من ألف عام حتى عثر عليها الدكتور عبدالوهاب التازي سعود عميد جامعة القرويين بفاس في خزانة الجامعة فحققها ونشرها .
ومن العصر العباسي ينتقل المؤلف إلى العصر المغولي الذي بدأ بسقوط بغداد على يد هولاكو سنة 656ه/1258م، فيتناول بالدراسة والتحليل أعمال الشاعر صفي الدين الحلي (ت 787ه/1386م) الذي كان يستنهض الهمم بشعره لمقارعة الغزاة المغول المحتلين، خاصة في قصيدته الذائعة الصيت التي مطلعها:
سلي الرمال العوالي عن معالينا
واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا
ويقول المؤلف إن كثيرا من أعلام الدول العربية في المشرق قد استقت ألوانها من هذه القصيدة،خاصة البين:
بيض صنائعنا، سود وقائعنا
خضر مرابعنا، حمر مواضينا
ويتناول المؤلف عصر النهضة العربية خلال القرن التاسع عشر الميلادي من خلال دراسات ثلاث، تتناول أعلام العراق في ذلك العصر: "محمود شكري الألوسي (1856-1924م)، والأب أنستاس ماري الكرملي(1866-1947م)، وهبة الدين الشهرستاني (1884-1967م). وفي فصل عنوانه "عاشق العروبة راهب في ديار الحركة القومية العربية"، يتوصل المؤلف إلى نتائج تخالف عشرات الكتب والدراسات التي أنجزت عن الأب أنستاس ماري الكرملي، الذي عد دائما راهبا متصوفا مولعا باللغة العربية ونحوها، في حين أن الدكتور علي القاسمي اعتبره سياسيا من طراز رفيع سعى إلى إبراز هوية العرب القومية من خلال البحث في لغتهم وتاريخهم وتراثهم الشعبي وعاداتهم وأزيائهم، وكل ما يميزهم عن العثمانيين الذين كانوا يحكمونهم، وأن هدفه كان إثارة الشعور القومي من أجل استقلال العرب ، ووحدتهم، وتبني الديمقراطية والتنمية البشرية. وقد مهد الأب الكرملي ببحوثه ودراساته الطريق للثورة العربية بقيادة الشريف الحسين بن علي في مكة المكرمة سنة 1914م. ويلتقي الأب أنستاس ماري الكرملي في ذلك مع أعلام النهضة العربية في الشام ومصر. ولهذا عاقبته السلطة العثمانية بنفيه من بغداد إلى تركيا مدة سنتين ونصف .
أما ثقافة العراق الحديث، فيتناولها المؤلف من خلال مقالات ودراسات نقدية جادة عن القصة والشعر في العراق وعن عدد من المبدعين الكبار مثل: أحمد الصافي النجفي، ومحمد مهدي الجواهري، وعبدالحق فاضل، وعبدالوهاب البياتي، وصالح جواد الطعمة، وإبراهيم السامرائي، وعبدالرحمن مجيد الربيعي، وبعض الشعراء العراقيين المعاصرين في المنافي الغربية مثل: سعدي يوسف، يحيى السماوي، عدنان الصائغ، أمل الجبوري، عبداللطيف أطميش .
ولا يغفل المؤلف الوضع السياسي المتردي في بلده والاحتلال الأمريكي الذي وقع سنة 2003، فيخصص عددا من المقالات عن محنة العراق الراهنة. ففي مقالة عنوانها "أتهم المثقفين بانهيار العراق"، يرى أن المثقفين الذين استلموا السلطة خلال الحكم الملكي في العراق من سنة 1921 إلى 1958، اقترفوا أخطاء فادحة على الرغم من أن الملك فيصل الأول كان رجلا على جانب كبير من الحنكة السياسية والإخلاص والنزاهة؛ ولكن الساسة كانوا يتكالبون على استلام السلطة، ويستغلون النعرات الطائفية والعشائرية، ويعملون من أجل مصالحهم الشخصية، ولم تكن لديهم رؤية واضحة عن التنمية البشرية وإقامة دولة المواطنة والقانون، وقد زجوا الجيش في السياسة، وتآمروا معه في عدد من الانقلابات العسكرية التي كان وراءها التنافس بين الدول الكبرى على ثروات العراق. ثم جاءت الانقلابات العسكرية بحكومات شمولية شنت حروبا عبثية، ما مهد الطريق للأمريكان وحلفائهم لاحتلال البلاد، وتقسيمها ونهب ثرواتها .
عندما صدرت الطبعة الأولى للكتاب، نشرت عشرات المقالات والدراسات عنه بقلم أدباء، وشعراء، ونقاد، وصحفيين، ومحللين سياسيين. وقد اختار ناشر الطبعة الثانية عشرين مقالا من هذه المقالات، ووضعها في آخر الكتاب تحت عنوان "قالوا في هذا الكتاب"، فاستغرقت أكثر من مائة صفحة .
إن "العراق في القلب" مرجع فريد متميز من مراجع التاريخ الحضاري للعراق، ومن الضروري أن يتوافر في المكتبات الجامعية والعامة، ومكتبات المثقفين الشخصية بشكل عام ...
كاتب وباحث*


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.