بقلم: عبد الرحمان مجيد الربيعي يبدو أن الأجهزة الثقافية التي يجري تشكيلها في العراق المحتل تحاول أن تعيد ما كان، تعيد ما تخرّب ولو بالاسم، وكان من أبرز ما سعت إليه هذه الأجهزة إعادة المهرجانات الثقافية العراقية العريقة وأولها مهرجان المربد، وكلفت أحد سماسرة ثقافة الاحتلال مادام يحمل جواز سفر أوروبي يسهّل عملية تنقله للاتصال بالشعراء والأدباء العرب وحثهم على المشاركة في مهرجان المربد، هذا المهرجان الذي كان أكبر لقاء ثقافي عربي تحتضنه بغداد بكل ما فيها من كرم وبذخ وحنان وعمق. ولكن ما كان وليد مرحلة ثقافية أخرى، مرحلة جرى تدميرها بسادية عجيبة، المكتبات والمتاحف والأحلام والبشر فأية ثقافة بقيت حتى يعاد المربد البهيّ كسيحا هزيلا وغريبا، مربد ليس فيه من المربد إلا الاسم. وليس المربد وحده بل هناك من يعمل على إعادة مهرجان بابل بعد أن خرّبت بابل وتحولت منذ الاحتلال الى قاعدة عسكرية أمريكية وصار الجنود الأمريكان يلتقطون الصور التذكارية وهم يمتطون ظهر أسد بابل! وخربت المجنزرات الأرض التي عمرها آلاف السنوات وقلبت عاليها سافلها، ولا أدري إن كانت هذه القاعدة مازالت «تستوطن» بابل المجد؟ أم أنها انسحبت منها ضمن عمليات اختصار قواعد الاحتلال فوق أرض الرافدين الى (92) قاعدة عسكرية فقط! ولم يلبّ الدعوة إلا بضعة أدباء جلّهم من عراقيي الخارج، وكان من بينهم الذين لبّوا الدعوة الكاتب والشاعر السوري بيان صفدي الذي درس الجامعة ببغداد وبعد تخرّجه ونظرا لاهتماماته بأدب الأطفال وجد عملا في دار ثقافة الأطفال حتى أُبعد من بغداد كما يذكر وربما وجد في الدعوة فرصة للقاء أصدقائه الذين زاملهم في العمل والجامعة. توجّه لبغداد غير آبه للتحذيرات وبعد أن عاد من «المربد» كتب مقالة مثيرة في جريدة «القدس العربي» وتحدث عن الخراب الذي واجهه بل وواجه المربديين كلّهم. لم يجد المربد الذي يعرفه، ولم يلبّ الدعوة معه من العرب إلا شاعر مغربي لم أسمع به شخصيا رغم تعدد صداقاتي المغربية أما الشعر الذي ألقي فكان جله محزنا وقد اقتصر الاحتفال بالمربد في مدينة البصرة فقط وليس في بغداد والبصرة والموصل كما كان رغم أن موقع المربد القديم هو في ضواحي البصرة إلا أن التوجه كان أن كل مدن العراق «مربد» سواء في الشمال أو في الجنوب. لقد بكى بيان صفدي فقدان العراق الذي عرفه وعاش فيه وسمع ما لم يتوقع مساعه سمع قصائد أعادت حديث زمن مضى وانقضى فكأننا قد عدنا الى مرحلة الخلفاء الراشدين وشعر ببأس مما يسمع، ولم يصدق أن هذه الديدان مازالت تنهش الجسد العراقي طيلة مئات السنوات، وأن من قدموا كثر هم امتداد الجواهري والبياتي والسياب والملائكة والحيدري وسامي مهدي وسركون بولص وسعدي يوسف وحميد سعيد وحسب الشيخ جعفر ومحمود البريكان وفاضل العزاوي وغيرهم. كان ما يحصل مأساة وملهاة في الآن نفسه، لا أحد يغادر مكانه إلا بحماية الحرس من الجيش والبوليس، والخوف يسكن قلوب الجميع حتى الذين نظموا المهرجان. تلفّت الصفدي وتساءل عن أدباء وشعراء العراق الكبار الذين كان المربد يعمر بهم، وسمّاهم بأسمائهم، ولكن كل الذين سأل عنهم غادروا العراق المحتل، بحثوا لهم عن ملاذات أخرى في انتظار أن يعود لوطنهم وجهه العربي الأصيل، أن تعود له هويته ووحدته أن يتبرّأ من ثقافة الطوائف والمحاصصات التي شرذمته وقزّمته. تساءل صفدي بصوت عال وجاءه الجواب من مسؤول «كبير» من هؤلاء المتواجدين دون ماض ثقافي أو حاضر إبداعي بأنه يعده وفي «المرابد» القادمة أنه سيرى كل الذين سأل عنهم، ولم يقل كيف؟ وبماذا يقنعهم لكي يعودوا و«يتمربدوا» مع «المتمربدين»؟! كان ما كتبه بيان صفدي شهادة نعي، بل ومرثاة مرّة للذي يجري الآن. فلا مربد بدون مربديين ولا بابل بدون بابليين، ولا أدب بدون الأسماء النيّرة الكبيرة! والسماسرة الصغار لن يأتوا بثقافة حقيقية أبدا، وربما كان في حضور أسماء قليلة من الذين لم يغادروا بعض المواساة. ولعل صديقنا القديم الشاعر المجروح موفق محمد كان على حق عندما خاطب القيّمين بسخرية عالية بأن يذهبوا الى جوامعهم ويتركوا للشعراء حاناتهم! وهذا يعني أن المأساة وصلت أعلى ذراها! في العراق الذي كان، تتآخى القصائد بكل اختلافاتها، وكل واحد مسؤول عمّا يفعله، لا وصاية لمبدع على آخر، ولم يمتثل كل الشعراء للأوامر ليكتبوا كما أريد منهم، أبدا، هذه المهرجانات محاولات «ترقيع» لفتق أكبر منها! ولا أدري لماذا تذكرت بيتا بسيطا لشاعر عراقي من شعراء الفترة المظلمة التي أعقبت سقوط بغداد على يد هولاكو وقال فيه: «تذكّر من يهوى فهاجت بلابلُه الى بابل أين العراق وبابلُهْ؟»