لم أفهم سرّ انزعاج أتباع الحكومة من تشبيه «ديكتاتوريّتهم الناشئة» بجمهوريّة الموز! هل يحدث ما حدث منذ تولّيهم «اللامسؤوليّة» إلاّ في الجمهوريّات المَوْزِيَّة؟! ليس من تفصيل إلاّ وهو يؤكّدُ أنّها تسمية مناسبة لهذه الأيّام مثلما كانت مناسبةً لأيّام النظام السابق، مادام الفرق بين العهدين حتى الآن أَوْهَى من قشر موزة!
جمهوريّة الموز هي تلك التي لا تملك من الاسم إلاّ الاسم! لا مؤسّسات ولا قوانين بل فردٌ أو عُصْبةٌ أو حزبٌ يستغلّ شكليّات الديمقراطيّة وأكسسوارات الجمهوريّة كي يحكم إلى الأبد ويقبض على كلّ السلطات ويسنّ القوانين على القياس ويقرّب الموالين وينصّب الأقربين ويقصي الأكفاء ويُقيل من لا تُعجبُه خلقته ويدعو المُعارضين إلى شُرب ماء البحر!
هل من صفاتٍ تُطابق الراهنَ أكثر من هذه الصفات؟ وإذا كان الأمر يزعجهم إلى هذا الحدّ فلماذا لا يُغيّرون ما بأنفُسهم ونحن نسمّيها «جمهوريّة الفستق» إذا أرادوا؟! تنظر إلى حركة بعضهم فلا ترى إلاّ عفسًا ورفسًا يذكّرك بالفِيَلَة في دكّان الخزف! وهو تشبيه لا يمكن نسبته إلى جماعة «الصفر فاصل» مادام منسوبًا إلى ابن شرف: موزٌ حَلاَ فكأنّهُ عسلٌ ولكنْ غيرُ جارِ يَحْكِي إذا قشَّرتَهُ أنيابَ أفيالٍ صِغارِ.. كما أنّك تبحث عن حصيلة لأقوالهم وأفعالهم فلا تجد إلاّ ما يُرعبُ النفوس ويُحوّل الحُلمَ إلى كابوس: طالبُ العمل يزداد يأسًا من عمله وطالب الكرامة يزداد قلقًا على كرامته وطالبُ الحريّة يزداد خوفًا على حريّته!
أهدافُ الثورة هباء بينما أصحابُ الكراسي يوزّعون الوعود على الهواء تأمينًا للبقاء وتمهيدًا للنكوص إلى زمن البيعة والولاء.. يمخضون فلا يُصيبك من زُبدتهم إلاّ الزبَد.. وكأنّك ويا للمصادفة الغريبة أمام الموز ثانيةً في قول ابن رشيق: موزٌ سريعٌ أكْلُهُ من قبْلِ مَضْغِ الماضِغَ الفَمُ مِنْ لِينٍ بِهِ مَلآنُ مثلُ فارغِ يُخالُ وهو بَالِغٌ للحلْق غير بالِغِ..
لقد ضيّعوا «التمييز» وأحلُّوا محلَّه «التمويز» فلا مناص من أن يأكلوا الموز بقشوره! وهل مِنْ تدبيرٍ لهم إلاّ وهو قشرةُ موزٍ تُرمَى تحت قدَمَي كلّ من يرفضُ البيعة! «مَوَّزُوا» الوزارات و«موّزُوا» مؤسّسات الدولة و«موّزوا» جانبًا من المجلس التأسيسيّ.. حتى الدفاع عن المُقدّسات أصبح على أيديهم قشرة موزٍ لإسقاط الحريّات! وها هم يسعون إلى «تمويز» الدستور و«تمويز» الانتخابات القادمة!!
لا صوت يعلو فوق صوت الموز في هذه الحكومة! ولن ينفعهم أن يتظاهروا بمُطاردة جُيُوب الثورة المُضادّة! فالثورة المُضادّة أصبحت غير مجهولة المقرّ! يكفي أن ينظر بعضهم في المرآة.. إلاّ إذا كانت مراياهم أيضًا من موز!!
فلماذا تزعجهم التسمية؟
هنا نحن أمام فرضيّةٍ من اثنتين: إمّا أنّها تزعجهم بسبب ضربها على الوتر الحسّاس! وإمّا أنّها تسمية خاطئة لا تصيب المرمى ولا تفيهم حقّهم!! الفرضيّة الثانية هي الأقرب عندي.. لأنّ من الصعب جدًّاااا.. أن يحدث ما يحدث عندنا هذه الأيّام حتى في أكثر جمهوريّات الموز «موزيّةً»! لا يُبطل رئيس الحكومة قرارًا لرئيس الجمهوريّة، ولا يُصدِرُ رئيس الجمهوريّة أمرًا فيأمر المرشد الأعلى بخلافه، ولا يجرؤ شرطيٌّ على الامتناع عن تأمين نشاط ثقافيّ لأحد الفنّانين بدعوى أنّه ينتقد رجال الأمن، إلخ..
هذه الأمور فاقت حتى ما يحدث في جمهوريّات الموز.. لذلك قد يكون انزعاجُ المُنزعجين احتجاجًا للمُطالبة بالتسمية الصحيحة وهذا حقٌّ من حقوقهم التي لا مَوْزَ عليها. ولعلّ التسمية الصحيحة «جمهوريّة الهندي المقشّر»!
أوّلاً: لأنّ كلّ شيء في منطق الغنيمة السائد اليوم يدلّ على أنّ من زرع لم يقطف بل قشّر الثمرة التي تعب من أجلها وتركها في متناول من لم ينضج لها! ثانيًا: لأنّ القشور اللزجة الموضوعة تحت أقدام الديمقراطيّة المنشودة لا تخلو من أشواك.. فهي أقرب إلى قشور التين الشوكيّ منها إلى قشور الموز! والله أعلم..