زلزالُ القبض على «دومينيك ستروس كان» بتهمة الاغتصاب أعاد إلى الأذهان كلّ ما يحيط بالسياسة والسلطة من محاذير باثولوجيّة. بدايةً من الهمجيّة والتوحّش وصولاً إلى جنون العظمة والإحساس بالحصانة. المُتّهم بريءٌ حتى تثبت إدانتُه. لكنّ لهذا المُتّهم سوابق تعملُ ضدَّه. وحتى لو صحّت نظريّةُ المؤامرة الأمريكيّة أو الإيليزيّة فإنّ من المستغرب لسياسيٍّ مستهدفٍ مثله أن لا يتّخذ ما يلزم من إجراءات الحيطة. إلاّ إذا كان مُصابًا بذلك النوع من الأمراض العُضال التي تصيب رجال السلطة والسياسة. وكيف يمكن لبشر غير مريض أن يفعل كلّ هذا الذي فعله الطغاة في تونس ومصر وكلّ هذا الذي نراه في ليبيا واليمن وسوريا؟ مِثْلَ زملائه العرب مُنِحَ مديرُ الصندوق الدوليّ أكثر من فرصة في الماضي ونجا من أكثر من كارثة. لكنّه لم ينتبه إلى التحذيرات ولم يرتدع ولم يُقلع عن غيّه. بل تمادى في التصرّف وكأنّه منيعٌ «محروس» أو مجنون سكران. والغريب أنّ كلّ ذلك كان يتمّ على مرأى ومسمع. وكأنّنا أمام نوع من العمى الإعلاميّ والفكريّ والأخلاقيّ المُتعمَّد. وكأنّ ثمّة تواطؤًا على تجاهُل الوجه الوحشيّ، مادام قناعُ البهلوان السياسيّ قادرًا على تحقيق المكاسب لعائلته السياسيّة. أغلبيّةُ الشعب الفرنسي وفق أحدث سبر للآراء تعتقد حتى كتابة هذه الأسطر أنّ «دي آس كا» ضحيّة مؤامرة. وهي نسبة كارثيّة لا تدلّ على ثقة في السياسيّ المُتّهَم بقدر ما تدلّ على انعدام الثقة في النخبة السياسيّة ككلّ. «ولاية السلطان حلوة الرضاع مُرّةُ الفطام. المُلْكُ عقيم. لا أرحام بين الملوك وبين أحد». هكذا كان العرب يكتبون مشيرين إلى تمسّك السلاطين بكراسيهم، وإلى شراستهم في قمع رعاياهم ومنافسيهم. كما قالوا «ثلاثةٌ ليس لها أمانُ، البحر والسلطان والزمانُ». وأضاف الثعالبي في التمثيل والمحاضرة: «سُكْرُ السلطان أشدُّ من سُكْرِ الشراب». وهو ما يهمّنا تحديدًا. فما الذي يمنع ما حدث من أن يحدث من جديد، مادامت السياسة تدور في الكواليس أكثر ممّا تدور في العلن، ومادام السياسيّون لا يخضعون إلى متابعة سيكولوجيّة دقيقة، ولا تجبرهم القوانين على تقديم الضمانات الكافية للتأكّد من أنّهم لا يخفون هذا النوع من الأمراض. إنّه رجل عظيمٌ! هكذا يقول أشياع «دومينيك ستروس كان»، غافرين له أخطاءه المرّة تلو الأخرى. أنا رجل عظيم هكذا يقول هو مصدّقًا نفسه وأشياعه، وهكذا يقول أشباهه شرقًا وغربًا، مبرّرين لأنفسهم التصرّف مثل آلهة الأولمب. هل تغفر العظمةُ العربدةَ والظلم والاغتصاب والطغيان؟ «لا تنجب الأممُ العُظماءَ إلاّ مُرغمةً». عبارة كتبها بودلير في يوميّاته مستئنسًا ببقيّةٍ من الطوباويّة الرومنسيّة، التي سرعان ما واجهها سيوران مؤكّدًا: «إنّ على أيّ جمهوريّة تحترم نفسها أن تفزع لظهور رجل عظيم، وأن تنفيه عنها أو على الأقلّ أن تحول دون نشوء أسطورة من حوله». لم ينحز بودلير إلى العظماء في وجه الأمم عبادةً للأشخاص بل انحيازًا إلى التفرّد في وجه العدد والكثرة. ولم يرفض سيوران فكرةَ العظَمة من باب العدميّة، بل لأنّه اعتبرها مصيبةً تؤدّي إلى إحلال الأشخاص محلّ المؤسّسات، وإلى وضع القوانين نفسها في خدمة أعداء الشعب. ثمّة في كلّ هذا الذي يحدث إشارات واضحة إلى أنّنا نعيش زمن سقوط الأصنام والأباطرة. لكنّ ذلك لا يلغي ضرورة الحذر من خطر الوقوع في غواية استبدالها بأصنام أخرى وأباطرة آخرين. ولعلّ في طرافة سيوران ومكره ما يبيح لي اختتام هذا النص بمقتتطف من كتابه تاريخ ويوطوبيا: «إنّ مبدأ الموت الملازم لكلّ الأنظمة أوضح في الجمهوريّات منه في الديكتاتوريّات. الأولى تنادي به وتظهره والثانية تخفيه وتنكره. دون أن يمنع ذلك هذه الأخيرة بفضل طرقها في العمل من النجاح في تأمين ديمومة أطول وخاصّة أكثر غِنًى. إنّها تلحّ في استدعاء الحدث وتسهر على تنميته، بينما قد تستغني عنه الأخرى عن طيب خاطر، فالحريّات وضع قائم على الغياب، غياب قابلٌ للتدهور حين ينوء المواطنون بعبء أن يكونوا أنفسهم، فلا يبقى لهم من مطمح غير أن يتصاغروا، أن ينزاحوا، أن يشبعوا حنينهم إلى العبوديّة. لا شيء يثير الغمّ أكثر من وهَنِ جمهوريّة وهزيمتها. علينا أن نتكلّم في شأنها بنبرة الرثاء أو الهجاء، والأفضل أن تكلّم في شأنها بنبرة روح القوانين: «حين أراد سيلا أن يردّ إلى روما حريّتها كانت هي قد عجزت عن قبولها. كانت في الرمق الأخير من الفضيلة، وظلّ هذا الرمق يخفت حتى أنّها عوض أن تستيقظ بعد قيصر وتيبريوس وكايوس وكلوديوس ونيرون ودوميسيان، ازدادت عبوديّة: أصابت الضربات الطغاة لكنّها لم تصب الطغيان».