زيارة اليمن تشكل سفرا في الزمن، نافذة مفتوحة على ماض مترامي الأعطاف والأطراف، ذاكرة مشرعة على القديم الراسخ في قدامته، وعلى سجلاته المكتوبة بحروف لا تمحى، وعلى صوره ومشاهده وناسه وعمرانه، وعاداته وتقاليده وتفاصيل حياته اليومية، كلها تسكن في منطقة قصية من الذاكرة البشرية. إن استطعنا أن نحذف السيارات والحافلات من المشهد العام لحياة اليمن اليومية، لخال المرء نفسه يتجوّل في بيئة عربية إسلامية من القرون الخوالي. من لم يزر اليمن لا يمكنه أن يفهم دهشة الروائي الألماني العالمي «غونتر غراس» وهو يصف زيارته الأولى لليمن بأنها خرافية، وما أبلغ وصفه،... فعلا ثمة خرافة تنبض بالحياة وتقطن في أطراف القارة الآسيوية على ضفاف المحيط الهندي وشط العرب محاذية للقارة الافريقية. لن نلج الخرافة ولن نتيه في متاهتها، حسبنا منها بعض الأطياف التي لا سبيل للكلمات تفاديها من فرط الحاحها على الذهن والخيال. كانت زيارة غونتر غراس الأولى لليمن في ديسمبر من سنة 2002 بمناسبة لقاء جمع الشعراء العرب والألمان تحت عنوان : «في البدء كان الحوار»، رغب غونتر غراس أن يصحب زوجته معه فرفضت، متعللة بأن تلك المنطقة من العالم غير آمنة، وليس فيها ما يغري بالزيارة، ومن الأفضل لزوجها الروائي الكبير أن يحافظ على سلامته ويمتنع عن تلبية الدعوة اليمنية لمنطقة ينشط فيها الإرهاب المدجج بالسلاح، ولكن غراس المغامر الجسور لبى الدعوة فأدهشه الاكتشاف وامتلك شغاف قلبه، فاعتبر نفسه يمنيا وراح يلهج بذكر اليمن ويصف زيارته له بالخرافية، والخرافة لها سحرها الذي يغري الجميع، بما في ذلك زوجة الروائي الألماني التي اصطحبته بحماس في الزيارة الثانية التي تمت من 9 الى 17 جانفي 2004 وكانت برفقتهما ابنته الكبرى التي تزوجت وعمرها 22 سنة، ولها الآن خمسة أبناء أكبرهم يبلغ العشرين من عمره، وعندما تراها لا يمكن أن تقدر أنها بلغت الثلاثين... علما بأن غونتر غراس الروائي والشاعر والمؤلف المسرحي والرسام والنحات تزوج ثلاث مرات، وقد حصل على عدة جوائز أدبية رفيعة، بفعل مقدرته الابداعية لا مقدرته كزوج، أهمها جائزة نوبل للآداب عام 1999 وجائزة بوشنر أكبر الجوائز الأدبية الألمانية عام 1965، على روايته «طبل الصفيح» التي أثارت ضده المحافظين ورجال الكنيسة الذين نظموا مظاهرات للتنديد بالروائي وروايته مطالبين بمنعها من التداول وبحرمانه من الجائزة بسحبها منه. شعار الزيارة الأولى التي احتفت بالشعر كان : «في البدء كان الحوار» وشعار الزيارة الثانية كان : «ويستمر الحوار... ملتقى الرواية العربية والألمانية يمن 2004»، وبالمناسبة وقع افتتاح مركز غراس للعمارة الطينية بقصر السلام بمدينة التريم الحضرموتية. وهذا النشاط الثقافي هو بداية قوية لليمن عاصمة الثقافة العربية طيلة هذه السنة. مع الملاحظ أن اليمن يبدو أنه صار خبيرا في المبادرة لعقد فعاليات ثقافية عربية عالمية خصوصا مع بلدان أوروبية، فقد سبق له أن عقد الملتقى العربي الفرنسي الذي تمحورت أغلب أنشطته حول الشاعر الفرنسي الشهير رامبو، الذي سبق له أن زار اليمن وأقام فيه، وجاب جباله ووهاده وسهوبه ينشد الثراء من تجارة لم يفلح فيها قط، وأودت بحياته القصيرة، كما عقد اليمن الملتقى العربي الإسباني وتلاه العربي الألماني في دورته الشعرية ثم السردية وثمة تفكير لعقد ملتقى عربي ايطالي وآخر عربي أمريكي... وما دمنا بصدد الملتقيات التي تعقدها اليمن لا بد من الإشارة الى أن ملتقى الرواية العربية الألمانية عقد مباشرة إثر اختتام أعمال المؤتمر الاقليمي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ودور المحكمة الجنائية الدولية الذي عقد برعاية الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي، دام يومين من 10 إلى 11 جانفي وشارك فيه حوالي 650 عضوا يمثلون نحو خمسين دولة، وتمخض على بيان صنعاء الذي دعا إلى تعاون أفضل في الأسرة الدولية لوقف انتهاكات حقوق الإنسان، وشدد على وقف الانتهاكات في فلسطين، ورفض فكرة أن الديمقراطية وحرية التعبير يمكن فرضها من الخارج، وقد اعتبر الرئيس اليمني على عبد الله صالح أن الديمقراطية هي خيار العصر الحديث لكل الناس في العالم أجمع وهي سفينة الإنقاذ للأنظمة السياسية. ذلك يدل على حيوية المجتمع السياسي والثقافي في اليمن، ويدل خصوصا على الرغبة اليمنية العارمة في العثور لها على موقع متقدم في المشهد الدولي، رغم شحّ امكانياتها ومواردها، وهو شحّ تسعى اليمن الى تحويله سخاء ووفرة في الدور والأداء بفضل عزيمة أبنائها الذين يتقدون ذكاء وحماسا لبلدهم ويغارون عليه ولا يدخرون أي شيء لتقديم صورة نبيلة جذابة وساحرة عنه، وذلك ما تبيناه عن كثب طيلة أسبوع يمني خرافي، غادر على اثره الروائيون والاعلاميون الألمان مشدوهين مبهورين متقطعي الأنفاس من الأجواء المفعمة بالكرم والسخاء والأصالة والعفوية والذوق الرفيع، الذي يحكي تمدنا وتحضرا موغلين في القدم، تشهد عليهما العمارة الطينية التي ناطحت السحاب قبل أن تناطحه ناطحات الاسمنت المسلح بالحديد والنار، وتشهد عليهما اللغة القحطانية في فصاحتها العتيقة الرنانة ويشهد عليهما الطعام اليمنى الذي كأنه يطهى على نار الذاكرة المتوقدة وفي قدورها لا في مطبخ من مطابخ هذا الوقت، ويشهد عليهما اللباس والسلوك والشخصية اليمنية في شمالها وجنوبها، في مدنها وأريافها، من أقصاها الى أقصاها، هذا دون مبالغة، فقد زرنا اليمن كلها خلال أسبوع فطوع تصرف ضيوف ملتقى الرواية طائرة بوينغ ضخمة بكل طاقمها وخدماتها الجليلة تجوب بنا اليمن وتختزل لنا المسافات والزمن، ولعل الافضل في ذلك يعود في قسم منه الى أن الروائيين العرب كانوا في صحبة الروائيين والاعلاميين الألمان، وعلى رأسهم غونتر غراس، الذي هو ضيف الرئيس اليمني علي عبد الله صالح فصحبة الفرنجة لا تخلو من بهجة وفوائد جمة أظهرها أن المشاركين في هذا الملتقى كانوا ينتقلون كل يوم من وليمة فاخرة ولائم الزمن القديم إلى أخرى بدعوات كريمة من شخصيات يمنية رفيعة، وفق برنامج حافل بالزيارات والنقاشات والاكتشافات والعروض... وللحقيقة فإن اليمنيين لا يميزون في معاملة العربي عن الأجنبي، الأريحية والسلاسة والبساطة والحميمية وروح البذل هي ذاتها للجميع.... نعود في كلمات أخرى لبعض تفاصيل هذه الزيارة اليمنية السعيدة.