ظهر المحامي احمد بن حسانة بعد الثورة التونسية، برسالته التي لم يكتف بتوجيهها الى وزارة الداخلية، فنشر محتواها على صحيفتكم المحترمة، معبرا عن معارضته منح ترخيص لجمعية ثقافية على أساس انها شيعية، فأجبته على نفس الصحيفة، بعدم وجاهة رسالته قانونا وعرفا، وطلبت منه أن يثبت صدق دعواه التي تعلل بها في رسالته، فغاب حوالي شهرين ثم عاد من جديد لينشر بهتانا جمعه من مواقع وهابية وسلفية اجتمعت على تشويه التشيع كفكر وعقيدة اسلاميين، ولما كان لي الحق في الرد بما التزمت به صحيفة الشروق المحترمة، وعودت به كتابها وقراءها، لم أتردد لحظة واحدة في أن أبرهن بالدليل على ما جنته يد احمد بن حسانة، فنشر على مدى ستة ايام في شكل حلقات( قرآننا أم قرآنكم.. انه قرآن واحد 1و2 ،وسطية الشيعة في الصحابة 1و2، قد خاب من حمل ظلما..قد خاب من افترى 1و2). واعتقدت بعدها أن الرجل سيفهم أن سلعته التي عرضها، قد بارت في سوق المزايدين من عبيد الدنيا، وان الحق طال الزمان أم قصر، سيعلو على موجات مد الباطل، وان قانونيا مثله سوف لن ينخرط في نشاطات مخالفة للقانون، وبعيدة عن المنطق والعقل، ومجانبة لما جرت عليه أعراف العقلاء، لكن ما أملته ذهب أدراج الرياح، فتفاجأت بظهوره الثالث، وهو يعلن تأسيس رابطة عنصرية معادية للتشيع، وقد تزامن الاعلان مع قدوم السيد وزير الخارجية الايراني، في ايحاء سياسي خبيث، القصد منه التشويش على تلك الزيارة، ولفت انظار أعداء الجمهورية الاسلامية في ايران، بأنه يوجد في تونس من يمكنه أن يقدم لهم خدمة مدفوعة الأجر، دون مراعاة للمصلحة الوطنية. وتأسيس ما سمي برابطة وقف المد الشيعي، اعتبره انخراطا في مخطط وهابي جديد، يريد جر الساحة التونسية إلى متاهات، لن تقدم للمواطنين سوى مزيد من الإرباك والفوضى، التي يريد الصهاينة والأمريكان وحلفائهم من وهابية ورجعية خليجية، معاقبة التونسيين على نجاح ثورتهم بافتعالها، واقحام البلاد - بعنوان الدفاع عنها - في هاوية التطرف والإرهاب.
وما خطر قلة قليلة من التونسيين، اختاروا عن قناعة الشيعة الامامية الاثني عشرية عقيدة وشريعة، منهجا اسلاميا أصيلا، بعدما أفحمتهم الادلة العقلية والنقلية، التي ضمنها علماء الأمة الأعلام في كتبهم الاستدلالية، ومن نفس مصادر مخالفيهم، خروجا عن قاعدة التقليد الأعمى، ألا يعتبر تحصيل الحقائق عبر البحث والدراسة والمقارنة، من نعم العقل والعلم والعقلاء؟
لم يقنع أحمد بن حسانة باسفافه في جميع دعاويه، التي أراد من ورائها اثارة المواطن التونسي السني، ضد أخيه المواطن التونسي الشيعي، الذي اختار عبادة الله وفق اسلام أهل بيت النبي(ص)، بما تبين له من نصوص صحيحة، وجدها في مصادره السنية المعتمدة، تضمنت أحقية نهج ائمة أهل البيت عليهم السلام، وتميزه عن بقية المذاهب، باتصاله بعصر النبي(ص) وانقطاع غيره، وتكامله أصولا وفروعا، وبتر ونقصان غيره، وتحريمه للظلم وموالاة الظالمين، وموالاة غيرهم للظلم والظالمين، وبقاء باب الاجتهاد عنده مفتوحا بينما أغلق عند غيرهم، وتميز ائمتهم بأنهم 12 اماما، لم يختلفوا في مسالة فقهية واحدة فيما بينهم، وهذا دليل على ربانية خطهم، مضافا الى أن من اتخذوهم ائمة، هم خلفاء الرسول(ص) من عترته الطاهرة، الذين أمرنا بالتمسك بهم:» تركت فيكم ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي.»(راجع صحيح مسلم والترمذي وغيرهما باب فضائل أهل البيت).
ان الادلة التي توصلنا اليها بخصوص دخول الاسلام الى تونس وافريقية، تؤكد أن منهج ائمة الهدى من أهل بيت المصطفى، كان أول الوافدين اليها، وقبل تفقه أول فقهاء ما اصطلح عليه بأهل السنة أبوحنيفة، وظهور آرائه، فهذا الامام محمد بن علي بن الحسين عليه السلام، والد الامام جعفر الملقب بالصادق، أستاذ أبي حنيفة ومالك، قد أرسل داعية من تلاميذه الى افريقية اسمه راشد، وقد سال قافلة من التجار المغاربة قدمت الى المدينة عنه(كتاب دلائل الامامة لمحمد بن جرير بن رستم الطبري) لذلك فانه لا معنى لكلام من ينادي بمنطق وقف البلاد التونسية على المذهب المالكي، لأنه تعصب، ومحاولة فرض تدين قسري على الناس، مخالف لروح التدين الحقيقي، القائم على أساس من العقل والعلم والحرية.
لقد واكبت منذ انتصار الثورة الاسلامية في ايران وقيام نتاجها السياسي المعروف بولاية الفقيه الساهر على سير دواليب النظام الاسلامي ومؤسساته، فلم أجد ما يؤشر الى توجه أو مسعى ايراني رسمي، لنشر التشيع في تونس على الأقل، وأنا شخصيا لم أتلقّ أي كتاب يدعو الى التشيع من سفارة الجمهورية الاسلامية الايرانيةبتونس، ولا من أي جهة رسمية تمت الى ايران بصلة، والكتاب الذي اقنعني بوجاهة الطرح الشيعي الامامي الاثني عشر للاسلام، هو كتاب المراجعات الذي الفه عالم لبناني من علماء القرن الماضي، وقد تلقيناه من الدكتور التيجاني السماوي، الذي أهدي له في العراق، وذلك كله قبل انتصار الثورة الاسلامية في ايران وقيام جمهوريتها الاسلامية، فأين هذه الحقيقة من بهتان أحمد بن حسانة؟
والتشيع كما هو معلوم عند أهل العلم والمعرفة عربي الأصل والمولد، ارتبط بعصر النبوة والوحي نشأ في المدينة، وانتقل منها الى العراق وبعض المناطق المجاورة ومنها تونس، وهذا العلامة عبد الرحمان ابن خلدون يقول في تاريخه:»ولصنهاجة ولاية لعلي بن ابي طالب...» وصنهاجة هي أكبر القبائل في شمال افريقية(تاريخ ابن خلدون ج6 ص153/154 دار احياء التراث العربي ط.1999 ) هذا التشيع الذي لم يعتنقه سكان ايران الا منذ حوالي 500 سنة، بينما سبقهم العرب بنحو900 سنة، فلماذا يحاول بن حسانة جاهدا اقحام ايران الاسلام، واتهامها بما لم يثبت عنها، حتى في أقرب المواقع منها كالبحرين مثلا، وهي القادرة على انهاء معاناة الشعب البحراني في يوم واحد، لكنها لا تفعل ذلك، التزاما منها بالعهود والمواثيق الدولية، في عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
لقد ثار الشعب التونسي بكل مكوناته العقائدية والفكرية، والمواطنون الشيعة من بينهم، رفضا لسياسات القمع وكبت الحريات، والاستخفاف بالحقوق المدنية للمواطنين الرافضين للظلم والاستبداد، لقد كنا ضمن حراك نضالي تواصل ثلاثين سنة تقريبا، عانى فيه عدد من وجوه الشيعة من استبداد النظام البورقيبي والذي تلاه، فأوقفوا وسجنوا وعذبوا وأهينوا، وفتحت لهم ملفات في وزارة الداخلية، وهم اليوم بعد أن من الله على البلاد بالخلاص من دكتاتورها، يتطلعون مشاركة إخوانهم من بقية مكونات المجتمع، الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات المدنية بلا فرق، نحن نسير في اتجاه تأصيل حقوقنا، وسندافع عنها بالطرق المشروعة، لأننا نرفض الظلم، ولا نريده ان يسلط على أحد من التونسيين مهما كان فكره، والمواطن التونسي الواعي يقدر ويفهم ذلك.
ان التنوع الفكري والمذهبي يؤشر على سلامة وصحة المجتمع، من حيث تعاطيه السليم مع هذه المكونات، فلا بد من مراعاة حق تبني الافكار، وتوظيفها في الاطار اللائق بها، بما يسمح للمجتمع في الرقي، ولا يمكن للافكار أن تتلاقح الا بنظائرها، وهي اذا ما عولجت بمنظور علمي، تعطي مجالا اكبر للمعرفة، بعيدا عن اليات الحصر والاتهام والاقصاء، التي مللنا من احكامها الجائرة في العهود المنصرمة، ولا نريدها اليوم ان تعود من جهات اثبتت بعدها عن العلم وارادة الخير لتونس واهلها. ان التكالب على اظهار العداء للتشيع، مع انه اسلام يمتلك تراثا زاخرا بملايين الكتب المعتبرة، من شتى علوم الدين، كعشرات التفاسير، وموسوعات الحديث وعلومه، والسيرة والتاريخ، والفقه واصوله، يدفعنا الى القول بان من يقف وراء هؤلاء المسعورين، هو من اخرج من تحت مملكته فتنة التكفير والتطرف الاولى، التي اكتوى بها المسلمون منذ ما يزيد عن القرن من الزمن.
وكما لا تبعد مسالة معاداة الجمهورية الاسلامية في ايران رغم مبادئها المؤسسة على الوحدة الاسلامية، ومساعيها التي اجهدت نفسها فيها، وتبنيها الكامل لجوهر القضايا الاسلامية، وعلى راسها القضية الفلسطينية، وهي تقف اليوم بمفردها في مواجهة الصهيونية والاستكبار العالمي، غير عابئة بالتكاليف الباهظة والتضحيات الجسام، التي قدمتها سابقا وتقدمها لاحقا، من أجل تحرير فلسطين والقدس الشريف، قد أعدت نفسها عمليا كما يجب الاعداد، و هي تتحين الفرصة التي تناسب حركتها التحريرية، لا تريد من وراء ذلك سوى مرضاة الله تعالى.
من عرف الاخوة الايرانيين عن قرب، وقف على حقيقة انهم لا يعيرون للمذهبية اهتماما يذكر، شعارهم في ذلك أن الاسلام دين يجمع ولا يفرق، وما اختلف فيه لا يمكن مقارنته بما اتفق عليه، والعدو لا يلتفت الى تنوعنا الطائفي، بقدر ما يهمه ابقاءنا في حالة من التخلف والجهل، تحوطنا هذه الحالة من التطرف والتكفير، مزكاة ومرضية منه باعتبارها الة هدم، تحركها عقول وايد تدعي الاسلام وهو منها براء.
لقد كان من الاجدر لبن حسانة، من تبعه على هذا التنطع السافر على القيم الانسانية( والتشيع والفكر الشيعي منها)، وعلى دولة اسلامية عتيدة بلغت في سرعتها القصوى، عنان التطور التكنولوجي والصناعي، والتقدم العلمي والتطور المدني، ما أثلج صدور المسلمين التواقين الى عودة الدين الاسلامي لقيادة العالم، ان يلتفت الى اولئك الذين هربوا السلاح الى تونس بعنوان الاعداد للجهاد، وهو الان بين ايد سوف تستعمله، وفق نظرتها القاصرة عن ادراك حقيقة الدين الاسلامي، المبني عل اساس من الرحمة ومكارم الاخلاق، وسيكتوي به المجتمع التونسي، ان لم تعالج ارهاصاته الخطيرة، فهل وعى بن حسانة هذه المعضلة أم انه ينتمي الى هؤلاء؟فهل فهم أحمد بن حسانة ومن لف لفه؟
انه باثارته لنعرة التطرف والفتنة الطائفية، يزرع شوكا سيؤذيه لا محالة، وبقي أن نسأله بماذا سيقاوم التشيع والشيعة، بعد أن فقد القدرة على الرد على ما لفقه من الانترنيت، ونشره على صحيفتكم الشروق المحترمة؟ وبعد عجزه عن الاجابة، هل سيدفعه حقده الى اتخاذ سبيل اعلان حرب تصفية جسدية للشيعة؟ أم أنه سيعتمد أسلوبا آخر لا نعلمه؟
وكان عليه أخيرا أن يعمل على المساهمة في آلية تماسك وتضامن، لكافة مكونات المجتمع التونسي بلا إقصاء، لأننا لم تقدم على البلاد من خارجها، وكان ما باب أولى أن يؤسس رابطة لوقف التدخل الأمريكي الفرنسي الغربي، في شؤون بلادنا الداخلية والخارجية، فذلك أجدى وأقوم لمحام تعلم القانون، ثم عاد بعد ذلك ليدوس عليه بشطحاته الغريبة.