يحزنني جدا كأب وأخ وكإنسان ما أراه في مغامرة «الحرق» اذ أن من النادر جدا أن تنجح تجربة في هذا المجال ومن ينقاد وراء لعبة الموت هذه فإنه يقدم على عملية انتحار بكل ما تعنيه الكلمة. و«الحراقة» هؤلاء ليسوا حالة تونسية بل هم حالة انسانية نجدها على امتداد قارات العالم فبلدان أمريكا اللاتينية ينقاد شبابها وحتى شيوخها نحو «الحلم الأمريكي» بالثراء والعيش الرغيد وعندما يصلون الى هناك لا يجدون مكانا الا في الهامش، يطاردهم رجال الشرطة لأنهم مهاجرون غير شرعيين، أقول هذا في حالة وصول القليل منهم الذين لا تبتلعهم المياه وهم يركبون مغامرة الهجرة هذه على متن زوارق صيد قديمة لا تقوى على مواجهة أبسط الأمواج.
لكن حلم شبان البلدان الافريقية والعربية منها بشكل خاص هو الوصول الى شواطئ أوروبا، وبالنسبة لشباب تونس كما يبدو هذه الجزيرة ا لايطالية الصغيرة الأقرب الى تونس «ميدوزا»، وكم هي لعينة هذه الجزيرة لأن المبحر اليها بزوارق المهربين الأراذل سيسلك كما تقول الحكايات القديمة (درب الصدّ ما ردّ) أي أن الذاهب لن يرجع الا في حالات قليلة.
والمهربون يأخذون مبالغ كبيرة من هؤلاء البؤساء المسكونين بالحلم الأوروبي الذي سيأتيهم بأوراق أوروبية (جوازات سفر وإقامة) ثم العمل اللائق الذي سيأتيهم ب(المنّ والسلوى).
قبل سنوات طويلة كان هذا الحال موجودا في بلدان الخليج العربي حيث ترمي زوارق المهربين بمئات الآسيويين في البحر، يصل منهم من يصل ويغرق من يغرق، ولكن بلدان الخليج العربي انتبهت الى هذا الخطر الداهم فجرى تنظيم وصول اليد العاملة بالاتفاق مع الحكومات وفي هذا ضمان للطرفين.
وكان العراقيون وغيرهم من عرب المشرق يسلكون دروب الصحارى مع أدلاء يدخلونهم في أراضي النفط، وكم هلك منهم من هلك عطشا وجوعا أو افترستهم ذئاب الصحراء وضباعها.
ومازلنا نتذكر رواية الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني «رجال في الشمس» عن مجموعة من الشباب الفلسطينيين الذين أرادوا العبور نحو الكويت عبر الصحراء الحارقة في خزان ماء حديدي فارغ فكان أن فطسوا فيه.
وربما كانت من أقدم القصص القصيرة التي تناولت موضوع «الحراقة» هؤلاء وكانت تحت العنوان نفسه «حراقة» للكاتب العراقي عبد الهادي سعدون المقيم في اسبانيا وقد نشرتها مجلة «الحياة الثقافية» التونسية قبل سنوات، لكن هذا الموضوع صار حاضرا في عدد من الأقاصيص التونسية والروايات منها رواية «هبني أجنحة» لعفيفة السميطي. مؤلم مشهد الأمهات والآباء والزوجات والأبناء وهم يبحثون عن أعزائهم الذين أخذهم البحر! لكن دروس الموت هذه لا أحد يتعلم منها فما جرى أوائل هذا الأسبوع كان كارثة انسانية بكل معنى الكلمة،ولكن دروس الموت كما سميتها لا أحد يتعلم منها ففي الأسبوع نفسه ومازال البحث عن الضحايا جاريا وأجهزة الدولة مستنفرة لذلك جرى افشال محاولتي حرق ضمتا حتى امرأة حاملا وأطفالا، وقد تكرر ما يشبه الجواب الواحد على لسان بعض الشبان أنهم يريدون أن يجربوا حظهم ويحصلوا على أوراق ويحسنوا من وضعهم المعيشي.
من قبل قال شاعر عربي لأمه أو لحبيبته: (اتركيني بلاد ا& واسعة غدا أبدّل أحبابا وأوطانا) ولعل من تضيق بهم الدنيا لا يتوانون عن اقتراف جريمة الحرق هذه، نعم انها جريمة بحق أنفسهم وأسرهم وأوطانهم لأن وجودهم ان وصلوا غير الشرعي يشكل مشكلة لدولته وله هو شخصيا.
وكم كنت أتمنى لو أن هؤلاء الحارقين يتوجهون الى بلدان الثراء العربي الملأى بالعاملين الأغراب، ليجدوا فيها أعمالا تتناسب مع مؤهلاتهم الفنية والعلمية.
ولكن من المؤلم والمؤسف ان جل البلدان العربية لا تفكر بشيء من هذا او ترى وجود الغرباء أسلم. حتى في تونس نفسها أعرف صديقا عربيا يقيم فيها منذ 24 سنة وقد حاول الحصول على أوراق تونسية منذ ثماني سنوات ولم يحصل عليها الأمر الذي جعله يفكر جديا هو الآخر بهجرة جديدة، ولكن ليس حرقا.