تسنى لي في رحلتي اليمنية أن أزور الأردن في طريق الذهاب والعودة، وفي اليمن زرت صنعاء حيث عقدت ندوة الرواية العربية والألمانية. وبعدها عدت بدعوة من رئيس جامعتها الدكتور عبد الكريم راصع وهناك قدمت ورقة موضوعها (زمن الرواية أم زمن الكتابة؟) وقد كان رفيق رحلتي العربية شاعر ومترجم مرموق ومناضل هو الصديق محمد عبد السلام منصور أحد مترجمي رائعة إليوت «الأرض الخراب» وللتدليل على مهارته في الترجمة نشر النص الانقليزي مع النص العربي في كتاب واحد. وفي اليمن قابلت عددا من العراقيين وكلهم تقريبا من أساتذة الجامعة، وجدت هناك أسماء مهمة مثل: د. حاتم الصكر، د. علي حداد، د. زهير نعاس (أول من ترجم النص الكامل لكتاب الباحثة الفرنسية سوزان برنار عن قصيدة النثر، ونشرت الترجمة في العراق ومن ثم في مصر)، د. مجبل المالكي، د. صبري مسلم، د. وجدان الصائغ، وأسماء أخرى. وما أسعدني انهم لم يكتفوا بالتدريس فقط بل عملوا بجد وصدق لا محاباة لأحد على دراسة الأدب اليمني الذي ظل مجهولا في أكثر البلدان العربية عدا أسماء قليلة وعلى رأسها د. عبد العزيز المقالح، والراحل الشاعر الكبير البردوني. وقد صدرت لكل الأسماء التي ذكرت مؤلفات قرأت هذا الأدب بتأنّ ودرسته بعمق واستفاضة، وقد عمل مركز الدراسات اليمني الذي يرأسه د. المقالح على نشر عدد من هذه الكتب التي كنت قد حصلت على بعضها وحملت معي ما لم أحصل عليه. وفي جلسات (القات) التي تعقد كل يوم في بيت لم يبق موضوع محظور، ومن الممكن الحديث عن أي شيء، وبالنسبة لي كان هناك سؤال يبدو حائرا على لسان من يوجهه لي: والعراق إلى أين كما ترى؟ وليس غريبا ان يأتيك هذا السؤال حتى من بعض الأدباء الألمان الذين حضروا الندوة والذين يريدون الاستزادة. وربما كان الكثيرون يعلمون ان الروائي والشاعر والرسام أيضا غونتر غراس كان من أشد معارضي الحرب الأمريكية على العراق. وكتب وأصدر بيانات عن رفضه لهذه الحرب، وشاركه موقفه هذا كل الأدباء الألمان عدا واحدا لم أذكر اسمه، ولكن الشاعرة أمل الجبوري ذكرته في تعليق لها، وكيف هوجم على موقفه المؤيد للحرب. ان المبدعين الأصلاء عربا كانوا أم أوروبيين هم ضمائر في الآن نفسه. ولكن السؤال الحائر الذي يوجه لي يزيد في حيرتي أنا الآخر، فكأن السؤال ليس سؤالهم بل سؤالي أيضا. نعم، انه سؤالي، فهناك منعرجات ومتاهات ذهبت فيها الأحداث، ولم يبق بريء واحد بين الذين استخدمهم المحتلون كواجهات محلية للحكم، وهذا يوسع دائرة السؤال. كل فئة أو عرق أو حزب أو طائفة جاء بنية معيّنة. وبدا طرح النوايا في زمن الاحتلال وحيث لا سلطة وطنية منتخبة، ولا دستورا أشبه بعملية ابتزاز تمارسه بعض الأطراف لأخذ ما لم يستطع أحد تقديمه لهم، ولكنها فرصة للانقضاض وللسطو فكأن البلد تحوّل إلى غنيمة، الشاطر من يستولي على أكبر حصة فيها. (ذكر الكاتب الوطني عبد الجبار الكبيسي الذي زار العراق بأن آلاف السيارات العسكرية التي كان يملكها الجيش العراقي قد جرى تهريبها لبلد مجاور مستغلا ولاء تنظيم طائفي معين له، والشيء نفسه جرى لمصانع عسكرية كبيرة فككت وهرّبت للبلد نفسه). الأكراد يتحدثون عن كردستان التاريخية وفق تصورهم. السيستاني يطرح الانتخابات والبلد شبه معطل ومحتل، وهناك مدن وقرى معزولة ومحاطة لا أحد يدخلها ولا أحد يخرج منها إلا بتصريح. فمن ينتخب من؟ ومن هم المرشحون؟ ان السؤال يكبر ليتحول إلى أرق قاتل. في عمان التقيت أصدقاء خاصة من الفلسطينيين، أحدهم ظل يكرر بأن ومضة الأمل الباقية للجميع هي المقاومة العراقية فإن انتصرت واندحر المشروع الصهيوني الأمريكي سينعكس هذا على الوضع الفلسطيني الذي لا أحد يحاسب قادة الكيان الصهيوني على جرائمهم (الاربعاء 28 1 2004 سقط ثمانية شهداء برصاص شارون) وسط صمت العالم ولا مبالاته. ولكن (إن حصل العكس لا سمح اللّه وفشلت المقاومة) والقول لصديقي فإن الانكسار سيكون كاملا وسندخل في زمن العتمة، أو ما سمي بالفترة المظلمة التي دامت عدة سنوات بعد سقوط بغداد على يد المغول. عدت والسؤال يتكرر بإلحاح: وماذا بعد؟ وماذا بعد؟ وأجدني متفقا مع الصديق بأن المقاومة هي آخر رهان رغم أنها مازالت في بداياتها وقد تصبح طوفانا يغرق الغزاة! وقد يكون العكس. وآنذاك (عليه العوض ومنه العوض).