هل تمثل أحداث السفارة الأمريكية الفصل الأخير قبل المواجهة الحاسمة بين حركة «النهضة» والسلفيين وهل جنت تلك الأحداث على الحركة وعلى الحكومة بعد أن أحرج المحتجون - وكثير منهم من السلفيين – الحكومة بالاعتداء على سفارة دولة أجنبية؟ يرى محللون أنّ ما جرى في محيط السفارة الأمريكية يوم الجمعة الماضي ستكون له عواقب وخيمة وتداعيات خطيرة لأن الأمر لم يقتصر على مجرد الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة كما حصل في احتجاجات سابقة شهدت حالات انفلات وانزلاق إلى العنف وإنما أيضا لأن التخريب هذه المرة شمل سفارة دولة أجنبية بحجم الولاياتالمتحدة.
وذهب البعض إلى اعتبار أنّ اقتحام السفارة الأمريكية يوفر فرصة للتدخل الأجنبي في تونس، خاصة أنّ الصور المتداولة عن الأحداث توحي بأن ما جرى لم يكن مجرد هبة شعبية غاضبة لنصرة الرسول الكريم وإنما هو أمر مدبر للتخريب والتدمير والإساءة إلى صورة تونس، فالسفارة الأمريكية واحدة من أكثر السفارات تحصينا ومراقبة أمنية وبدا أن عملية اقتحامها بتلك الطريقة مثيرة للشكوك وللحيرة. غموض... وأسئلة معلقة
وزير الداخلية علي العريض قال إن تونس خسرت إلى جانب الأرواح سمعتها كبلد يحترم تعهداته في حماية السفارات والبعثات الدبلوماسية. وقال العريض إن المحتجين كانوا خليطا ممّن جاؤوا للتعبير السلمي عن مواقفهم ومن كان مجهزا لرد الفعل وإن من بينهم من كان يحمل تجهيزات لقطع الأسلاك الشائكة وإنّ الآلاف هاجموا السفارة من كل حدب وصوب.
وقد طالبت عدة أطراف بفتح تحقيق في ما حدث وخصوصا حول المعالجة الأمنية وما رآه كثيرون فشلا من قوات الأمن في التعامل مع هذه الأحداث، كما دعا البعض إلى مساءلة وزير الداخلية وحتى إلى استقالته على خلفية هذه الأحداث.
واتجهت أصابع الاتهام إلى مجموعات سلفية باقتحام وحرق جانب من السفارة الأمريكية بعد ظهر يوم الجمعة الماضي. وتمكّنت الاستخبارات من الكشف عن «اتّصالات» بين زعيم السلفية الجهادية أبو عياض والمتظاهرين، حيث قام بتوجيههم وإعلامهم بالمخطط الذي يجب اتّباعه خلال اقتحام السفارة الامريكية.
وقد أكّدت الشرطة أنّها مقتنعة تماما بأنّ ابو عياض لم يغادر التراب التونسي، مع العلم أنّ الفرقة العدلية تكفّلت بالتحقيق في أحداث السفارة الأمريكية. وطالب أبو عياض أمس في خطبة له بجامع الفتح بالعاصمة وزير الداخلية بالاستقالة بعد أحداث السفارة الأمريكية. وكان أبو عياض قد هدد بالانتقام من وزير الداخلية، وقال في خطبة اشبه بإعلان حرب، قبل أسابيع متوجها للوزير علي العريض بالقول» اخسأ… الزم بيتك... الزم جحرك واعرف قدرك» مضيفا «صحيح أننا مجرّدون من أسباب القوّة المادية لكن ووالله لنجعلك عبرة لمن يعتبر. طال الزمان أو قصر».
واعتبر الناشط الحقوقي عبد العزيز المزوغي ان هناك تقصيرا كبيرا من قبل الحكومة خاصة وان هذه المظاهرة وقع التحضير لها منذ ايام عبر صفحات التواصل الاجتماعي «الفايسبوك» وعن طريق التصريحات ولم تقدر وزارة الداخلية خطورتها لأنها «متواطئة مع السلفيين.» حسب قوله.
وقال المزوغي ان وزارة الداخلية عجزت عن حماية مبنى مثل السفارة الامريكية وكان من الممكن تفريق الجماعات قبل الوصول الى السفارة ولكنها لن تفعل ذلك مبينا انه «لو كنا في بلد ديمقراطي ناضج ومتقدم لقدم وزير الداخلية اليوم استقالته» لأنه من الناحيتين عجز في التعامل مع هاته الجماعات منذ سنة وعجز عن تأمين السفارة الأمريكية أثناء احتجاجات المتظاهرين ولذلك هنالك إشكال كبير في الحكومة التونسية فهي تريد التوازي بين مصالحها الدولية مع أمريكا وتريد في نفس الوقت ان لا تهاجم الجماعات الاسلامية.»
وأكد المزوغي انه «كلما اراد أي طرف التظاهر في تونس يطالب بترخيص من وزارة الداخلية في حين ان هناك مظاهرات يقال انها وقفة احتجاجية وليست مظاهرة تستوجب الترخيص» مشيرا الى انه مع حرية التظاهر السلمي ولكن ما وقع يوم الجمعة الماضي «هي مظاهرة غير مرخص لها وهنالك تبريرات سخيفة جدا لذلك من قبل الحكومة.» ضربة سياسية
وقد اتهمت عدة أطراف في المعارضة مرارا الحكومة بالتواطؤ مع الجماعات السلفية والسكوت عن التجاوزات التي ترتكبها وعدم تطبيق القانون كلما تعلق الأمر بتحركات سلفية، واعتبر هؤلاء أن «النهضة» تؤجل حسم معركتها مع السلفيين إلى ما بعد الانتخابات المقبلة، لكن أحداث السفارة الأمريكية احرجت على ما يبدو كثيرا الحركة التي لم يعد لها أي مبرر لغض النظر عن كل هذه التجاوزات.
واعتبر المحلل السياسي المتخصص في الحركات الإسلامية محمد القوماني أنّ «ما حصل يوم الجمعة الماضي من اقتحام للسفارة الأمريكية وسقوط ضحايا من قتلى وجرحى في صفوف قوات الأمن والمحتجين والصورة التي ظهرت عليها تونس في نظر التونسيين والمتابعين يمثل أكبر ضربة سياسية للحكم الحالي ولحركة «النهضة» وأكبر إحراج لها، وهذا الإحراج للأسف عنوانه ديني وعنوانه «المتشددون».
وأوضح القوماني أن الضربة تتمثل خصوصا في أنّ «ظهور الحكومة من خلال وزارة الداخلية أنها عاجزة عن حماية سفارة دولة عظمى مثل الولاياتالمتحدةالامريكية في ظرف سياسي مشحون كان فيه من المرتقب حدوث مثل هذه التطورات بعث رسالة سياسية سلبية جدّا، كما ان تورط قوات الامن في قتل تونسيين وسقوط عدد كبير من الجرحى يُعتبر أيضا أمرا محرجا للحكومة الحالية وحركة النهضة لأن القتل يطرح موضوع الدم وستتحدث بعض الأحزاب السياسية عن شهداء وستصبح هناك أحقاد واتهامات خطيرة... وهذا فيه حرج سياسي كبير للحكومة».
وتابع القوماني أن «هذا الحرج سيجعل العلاقة بين حركة النهضة والمتشددين الإسلاميين الآخرين تأخذ منعرجا آخر لأن هناك «دما» كما أن الحكومة وحركة النهضة تحديدا ستجد نفسها أمام حتمية مواجهة هذا المنسوب المتنامي للتطرف الذي أكد أنه خطر حقيقي خاصة أن أحداث السفارة جاءت بعد سلسلة من الأعمال المنسوبة لهذه الجماعات ضد سياسيين ومثقفين وإعلاميين، وهذه المواجهة ستكون مكلفة على الحكومة وعلى المجتمع من حيث تأثيراتها على مسار الانتقال الديمقراطي فضلا عن أنّ هذه المواجهة قد يُنظر إليها على أنها خدمة للمشروع الامريكي وبالتالي ستكون «النهضة» متهمة من الأطراف المتشددة بانها تخدم أجندا امريكية».
وأضاف القوماني أنه «إذا لم تواجه الحكومة هذه الظاهرة بصرامة ستظهر بمظهر المتواطئ والعاجز وهذا سيحرجها أمام الرأي العام الداخلي وأمام الولاياتالمتحدة التي لا أعتقد أنها تدعم طرفا سياسيا لا يبدو صارما في مواجهة التشدد والإرهاب».
وأشار القوماني إلى أن «الصورة التي ظهرت عليها قوات الأمن والتي طرحت أسئلة محيرة حول أداء الجهاز الأمني وقدرته على مواجهة المخاطر هزت صورة الحكومة وخاصة الأمن لدى التونسيين كما هز صورة تونس لدى المتابعين من إعلاميين وديبلوماسيين ومراقبين في الخارج وهذا فيه حرج كبير للحكم الحالي».
ولم يستبعد القوماني وجود بصمات «القوى المضادة للثورة والمتآمرين عليها وبصمات الإجرام في أحداث السفارة والمدرسة الامريكية وهذا يظهر في كل مرة يقع فيها انفلات ويؤكد ان المواجهة مع بعض أطراف النظام القديم لا تزال قائمة وهذا مرتبط بمسار المحاسبة والتسوية السياسية التي لم تحصل إلى الآن بين المستفيدين من الثورة والخاسرين» وختم بالقول إن «كل هذه العناوين فضلا عن علاقة النهضة بالولاياتالمتحدة في علاقة بهذه الأحداث وهي علاقة تحسنت قبل الثورة وبعد صعود النهضة إلى الحكم رغم التصريحات من الجانبين التونسي والأمريكي بأن ما حصل لن يؤثر على العلاقات... وبالتالي فإن ما حصل سيفرض على النهضة وعلى الحكومة اتخاذ إجراءات مغايرة ستكون لها تداعياتها السياسية».