يحمل مشروع مسودة الدستور ثماني ثغرات بإمكانها إثارة إشكاليات في العلاقة بين الدين والدولة هذا ما خلصت إليه مداخلة تقدّم بها الدكتور محمد حداد رئيس المرصد العربي للحريّات والأديان خلال يوم دراسي نظمه أمس بالعاصمة المرصد بالتعاون مع مؤسسة كونرد إديناور. وقال حداد إنّ المشروع الذي يحمل أيضا إيجابيات «نتعامل معه كمسودّة ونحن لا نؤمن بطرح نصوص بديلة فالنص الوحيد هو الذي يكتبه المجلس التأسيسي». وقال أيضا إنّ الانطلاق في كتابة الدستور من ورقة بيضاء خلق مناطق سمّاها بالرماديّة موضحا «إذا بقيت النقاط الرمادية الثماني التي سأتحدّث عنها على ذات الغموض والإبهام الحالي ستطرح إشكالات في العلاقة بين الدين والحرّيات».
معركة حقوق الانسان والمرأة
أولى تلك الثغرات بالنسبة للمحاضر هي تلك المتعلقة بحقوق الإنسان إذ «لا يوجد في مشروع المسودة ضمانة مواصلة اعتراف تونس بالاتفاقيات الموقعة عليها سابقا في مجال حقوق الانسان وبالتالي مطلوب ربط حقوق الانسان في الدستور بالقانون الدولي فالجميع من مختلف التيارات يستعمل هذه الكلمة وفقا للمفهوم الذي يراه لذلك وجب وضعها في إطار قانوني واضح حتى لا يتم استخدامها بحسب الاختلاف في تحديد مضمونها».
ثاني تلك النقاط تتعلّق بمعركة حرية المرأة فحقوق المرأة بالنسبة لحدّاد كلمة لا تعني شيئا ما لم ترتبط بمرجعيّة قانونيّة واضحة. واستشهد المحاضر بما كان قد خلُصَ إليه في حديثه مع طلبة سلفيين قائلا «أهم حق بالنسبة للمرأة ما بعد الثورة بالنسبة لهؤلاء هو ارتداؤها النقاب داخل الحرم الجامعي فهل هذا هو المطلب؟ ونبّه إلى أن الدستور المغربي الصادر (دستور 2011 الصادر إثر الحراك الشعبي والسياسي المنادي بالاصلاح والمتمثل اساسا في حركة 20 فبراير) بعد 50 سنة من صدور مجلة الاحوال الشخصية التونسية ضمن المساواة بين الجنسين فهل يكون الدستور التونسي أقل من نظيره المغربي في هذا المجال؟. كما تحدّث حدّاد عن ثغرة ثالثة تمثلت في غياب الاشارة الى حدث الاستقلال ودولة الاستقلال مؤكدا أنّ هذا الحدث هو ملك للشعب التونسي وحده وهو مرجعية تأسيسية لتونس وأن المضي نحو محو كل ما تحقق في السابق سيثير إشكالا فكريا وقانونيا.
وقال أيضا إنّ المجلس القومي التأسيسي حاول التأسيس لديمقراطية وأعضاؤه أصبحوا فيما بعد من أكبر مناضلي الديمقراطية والدليل الرسالة التي توجه بها عضو مجلس 1956 أحمد التليلي الى بورقيبة لتنبيهه الى انحرافه عن المسار الديمقراطي كما أن حبيب عاشور قاد أحداث 26 جانفي 1978 وأحمد المستيري كان ايضا عضوا في المجلس القومي التأسيسي. وبيّن أن الدكتاتوريّة بدأت مع بورقيبة وليس مع بن علي وأنّ من أسّس لهذا البلد هو كفاءاته من معلّمين وأطبّاء وغيرهم.
احتكار الدولة للمقدّسات
استخدام عبارة الدولة راعية للدين في مشروع مسودة الدستور الذي يقترحه المجلس التأسيسي لم يرق لحدّاد لأنّ الدين كما يراه أكبر من أن ترعاه الدولة وعلى هذه الأخيرة رعاية الشعائر أي السلوك الديني الجماعي.
وانتقد المحاضر إحداث مجلس اسلامي أعلى قائلا «لا يوجد شيء في مسودة الدستور يعلّق على هذا المشروع المؤسساتي لكن بصفة عامة ينبغي أن نعرف وظائف هذا المجلس إن كانت تنفيذية أو تشريعية أو استشارية. وفي السيناريوهات الثلاث هناك بحسب الترتيب تداخلا مع مهام وزارة الشؤون الدينيّة وخروج تام عن الصفة المدنية للدولة وتداخل مع مفتي الجمهورية التونسية وليس الديار التونسية لأنّ تونس ليست ديارا بل هي بلد ذات نظام جمهوري».
وذكر أن النائب عن حركة النهضة في التأسيسي الصادق شورو قدّم تصورا غريبا للمجلس من ذلك أنه سيحسم في الخلافات الدينية والحال أن الخلافات الدينية قائمة منذ 14 قرنا فهل من مهام التونسيين حل هذه الخلافات فهل من مهمة الدولة التونسية حل هذه الخلافات ثمّ من سيعطي صفة العالم لعضو هذا المجلس؟. وفيما يتعلّق بمفهوم المقدّس وحماية الدولة للمقدسات بعد الاتفاق حول التخلّي عن تجريم المقدّسات قال حدّاد هناك قراءتان أولهما إيجابيّة وثانيهما سلبية. الإيجابي منها هو احتكار الدولة لمسألة المقدسات حتى لا تحتكرها الجماعات فانحراف الدولة أقل خطورة من انحراف الجماعات لأن الدولة لديها ضغط تشريعي ومراقبة دولية.
والسلبي منها هو عدم وجود تعريف قانوني للمقدّسات وحتّى على المستوى الأكاديمي لم يتم الاتفاق حول تعريف المقدسات فالمسألة ليست بين الأديان بل في الدين الواحد. واقترح إضافة «حسب ما يضبطها القانون» لعبارة الدولة تحمي المقدسات واقترح أيضا إضافة عبارة «في إطار التسامح والاعتدال» فمن مهام الدولة بحسب حدّاد هو نشر قيم التسامح والاعتدال. واستنكر المتحدّث استخدام كلمة التدافع السياسي في الدستور قائلا «ما نحبّوش دستور متاع دزّان فالكلمة باطلة لغة وشرعا وقانونا».
تمييع مفهوم الحق
انتقد محمد الحدّاد أيضا عدم التنصيص على العلاقة بين الحريات والدين قائلا إنّه أيّ كان شكل النظام السياسي الذي سيتم اعتماده فإنّ تجميع الصلاحيّات لدى طرف سياسي واحد سيجعل من الديمقراطي دكتاتورا في أسبوعين فقط.
وانتقد أيضا تنويع مفهوم الحق في الدستور قائلا إنّ كثرة إستخدام هذه الكلمة يخرجها عن مفهومها وبالتالي الخشية من تمييعها في الدستور. وأوضح أن تمييع هذه الكلمة سيكون له تبعات في إشكالية العلاقة بين الدين والحريات.
واقترح المتحدث اضافة مدنية الدولة في الفصل الاول للدستور قائلا «كان الاشكال في دستور 1959 يكمن في سيادة الدولة التونسية والاشكال اليوم يكمن في مدنية الدولة. كما اقترح تقييد الاحزاب بضوابط حتى لا يتم تأسيس أحزاب على اساس مذهبي أو جهوي «فالضوابط الحالية لا تمنع ذلك» مستشهدا بما توصّل إليه في دراسة سوسيولوجيّة أعدها مع زملائه حول تنامي ظاهرة المد الشيعي في إحدى المناطق التونسية والتي أثبتت التداخل بين ما هو عشائري وما هو عقائدي.
وقال ايضا إنّ بعض الأحزاب الحالية لا تستجيب لضوابط الدستور القائمة على التقيّد بالدستور أولا والشفافية المالية ثانيا واحترام حقوق الانسان ثالثا والايمان بالديمقراطية رابعا وغيرها من الضوابط.
واقترح المحاضر سحب شرط الاسلام على رئيس الحكومة مؤكدا أن المرصد سيعد تقريره النهائي حول الدستور الجديد للدولة التونسية بعد إعداد المسودة النهائيّة للدستور. كما قال إنّ المرصد دعا 15 عضوا من التأسيسي لحضور اليوم الدراسي فلم يحضر سوى 3 نوّاب عن الحزب الجمهوري موضحا أنّ «حركة النهضة كانت لا تتغيّب عن أنشطة المرصد حين لم تكن في السلطة لكنها تدريجيا خففت من حضورها ثمّ تغيّبت تماما».
والأعضاء الذين حضروا اليوم الدراسي المنتظم حول «الحريات والدين والدولة في مسودة الدستور الجديد» هم سميرة مناعي ونعمان الفهري وريم محجوب.