كشف الاعلامي التونسي حكيم باللطيفة، الصحفي وقارئ الأخبار في قناة «فرانس 24» أن احتجاجات النظام السابق كانت تصل بطريقة رسمية، وخصوصا عند استضافة المعارضين للنظام، وأضاف أن الاحتجاجات كانت أكثر حدّة وعنفا قبيل هروب بن علي وكان يشوبها الكثير من التطاول والتوتر. حول هذه العلاقة، وقضايا أخرى كثيرة كان ل«الشروق» حوار مع حكيم باللطيفة هذا فحواه.
البعض يعتبر أن قناة «فرانس 24» هي مشروع إعلامي فرنسي رسالته الترويج للسياسة الرسمية الفرنسية في المنطقة العربية.. من خلال تجربتك في هذه القناة الى أي مدى شعرت أنك أحد أطراف هذه الرسالة؟
يغالط نفسه من يعتقد أن الموضوعية غاية من السهل إدراكها.. فهي مبدأ ونهج تحريري قبل كل شيء.. ومجهود يومي أيضا.. وهذا ما نجتهد من أجله دائما في «فرانس 24».. صحيح أن قناة «فرانس 24» قناة فرنسية يمولها دافعو الضرائب في فرنسا ولها توجهاتها لكنها ليست بوق دعاية لفرنسا أو لسياساتها فغالبا ما تكون هذه السياسات محل تحاليل وتمحيص وانتقاد في برامجنا.. فعلى سبيل المثال، كنا سبّاقين قبل غيرنا الى تغطية هفوات الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وفريقه على مستوى السياسة الخارجية وحتى الداخلية.. حيادنا في تغطيتنا للأحداث الفرنسية والدولية وطريقة تعاطينا مع الخبر هو الذي أكسبنا مصداقيتنا لدى المشاهد العربي.. ولو كان الوضع غير ذلك لتركت «فرانس 24» منذ زمن.. فيكفينا فخرا اليوم أن مقدمي نشرات الأخبار عندنا هم من يكتبون نصوصهم وأسئلتهم بأنفسهم على عكس ما يحدث في باقي القنوات كما يتصلون بالمراسلين ويقترحون الضيوف ويشاركون في النهج التحريري للقناة بشكل فعّال ومتطور.
قبل الثورة التونسية، الاعلاميون في تونس، يقولون لدينا صحافيون جيدون لكن لدينا صحافة رديئة وللتدليل على ذلك يستشهدون بنجاحات الاعلاميين التونسيين في الخارج.. هل كان لك هذا التقييم وأنت تراقب المشهد الاعلامي في تونس وقتها؟
الجزاء من جنس العمل هذا أكيد.. ولكن المستوى الرديء للصحافة التونسية قبل الثورة لا يعني البتة أن صحافيينا في تونس ذوو مستوى رديء.. صحافيونا في تونس أكفّاء.. أنا أرفض أي تهجم على الصحافيين الشرفاء الذين كانوا مغلوبين على أمرهم وهم كثّر وأرفض التحريض ضدهم أو تداول عبارة «إعلام العار» كمحاولة للإساءة إليهم أو تطويعهم.. فالمسؤولية كانت مشتركة ما بين الصحافي والمواطن والسياسي.. صراحة، في تونس كانت لدينا الصحافة التي نستحقها.. ولا يحسّ الجمر إلا من اكتوى به، وحده من عمل في قطاع الاعلام إبّان بن علي يعلم حجم الضغوط والمضايقات التي تمارس يوميا ضد الصحافيين ومديري المؤسسات الاعلامية، أستثني فقط من تعاطفي قلّة قليلة تفتقد الى الضمير المهني وحتى الأخلاق استفادت حتى النخاع من النظام السابق وتورطت في قضايا أخلاقية وقضايا فساد كبيرة لتحقيق مآربها الشخصية واليوم تظهر الولاء التام للنهضة..
هل كانت تمارس عليكم ضغوطات (كإعلاميين تونسيين) من وكالة الاتصال الخارجي أو غيرها من الهيئات عندما كنتم تستضيفون رموز المعارضة في المهجر.. أو تقدمون تقارير حول الحريات في تونس..؟ الاحتجاج على هكذا أمور كان غالبا ما يصل بطريقة رسمية الى القناة وكان الاعتقاد السائد لدى وكالة الاتصال الخارجي أننا في «فرانس 24» وأن الصحافة الفرنسية بصفة عامة تمارس عدائية مجانية لا مبرّر لها ضد نظام بن علي وأن تغطياتنا تجسيد لسياسة فرنسية خفية تجاه تونس.. كنا كصحافيين نحظى بدعم القناة طالما كان أداؤنا مهنيا.. لهذا السبب لم أتوان في استضافة كل رموز المعارضة أو حتى من كنت ألقّبهم بأحزاب «المعاضدة».. الأمر الذي كان يزعج بالفعل كثيرا.. المكالمات التي تلقيتها آنذاك كانت غالبا ممتعضة.. أما في الأيام الأخيرة قبل فرار بن علي فقد كان يشوبها الكثير من التطاول والتوتر.. ردّي الوحيد دائما هو أن الموضوعية تقتضي احترام الرأي والرأي الآخر وأن المجال متاح أمام المسؤولين التونسيين النافذين كالوزراء مثلا للتدخل على القناة لإبداء آرائهم بدورهم.. غالبا ما كان الردّ «نشاور ونرجعلك».. لكنهم لا يعودون.. كأن الاحتجاج غاية في حدّ ذاته.
إبّان حكم بن علي، استضفت أيضا كل الشخصيات التونسية المعارضة في الداخل والعديد من الحقوقيين الذين أغضبت تصريحاتهم بشدّة نظام المخلوع.. منهم من هو في الحكم اليوم ومنهم من مازال في المعارضة.. ما الذي بقي في ذهنك من تلك الفترة؟
تلك الفترة كانت حسّاسة للغاية، فالمعارضون التونسيون كانوا يجدون في قناة «فرانس 24» وغيرها من القنوات الاخبارية الدولية ملاذا ومتنفسا لإدانة ممارسات النظام السابق ومطالبته بالتغيير.. فبالاضافة الى اتهامهم بالعمالة والخيانة، كانت طريقة تعامل النظام معهم لدى عودتهم الى تونس أحيانا عنيفة جدا.. أستحضر دائما ما حدث للمعارض حمّة الهمامي مباشرة عقب استضافتي له على «فرانس 24» من تعنيف واعتداء شديدين في مطار تونسقرطاج بسبب تصريحاته.. كنت أخشى أن يحدث له مكروه جرّاء ما طرحته عليه من أسئلة أو يزجّ به في السجن ولم يهدأ لي بال إلا حين عاود التدخل معي بالهاتف من تونس مساء ذلك اليوم ليروي على الملإ ما حدث.
بعد الثورة.. ثمة تغيير في المشهد الاعلامي التونسي، ثمة من يعتبر ان الحرية هي السمة البارزة له، وثمة من يعتبر أن الانفلات هو الطاغي وأنه باسم حرية الصحافة ضاعت قيم العمل الصحفي.. كيف تنظر الى هذا التباين؟
هناك بعض التجاوزات في ميدان الاعلام باسم حرية التعبير وهي في ظني طبيعية في هذه المرحلة وتحفظ ولا يقاس عليها.. لا يصححها الا الوعي الجماعي والتكوين من خلال دورات خاصة قد يضطلع بها المركز الافريقي لتدريب الصحافيين على سبيل المثال.. فالحرية ثقافة قبل كل شيء ولكن البعض يفتقدها وهي مسؤولية ايضا لكن البعض لم يعتد عليها بعد.. فثمة فرق بين حرية التعبير وحرية الإساءة مثلا.. الحرية يجب ان تكون مسؤولة ولها ضوابطها المهنية والأخلاقية.. أقول قولي هذا وأنا على يقين من أن هذه التجاوزات لا يجب بتاتا أن تفتح الباب أمام محاولات التضييق من جديد على الإعلام مهما كانت الأسباب.. فالتضييق على الإعلام كفيل بإفراغ الثورة من محتواها تماما.
اليوم في تونس هناك معركة بين الاعلاميين والحكومة لا تختلف في عديد جوانبها عن المعركة قبل 14 جانفي.. إنها معركة حرية الاعلام واستقلالية المؤسسات الصحفية.. في هذه المعركة ما المطلوب من الاعلاميين التونسيين؟
يذكّرني سؤالك هذا بواقعة شهدتها صحيفة «نيويورك تايمز».. فبعد ترقية المسؤول عن القسم السياسي في الصحيفة الى منصب مدير رفض هذا الأخير التصويت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية إمعانا منه ومبالغة في الاستقلالية.. وبعيدا عن أي غلو، المطلوب اليوم من الاعلاميين هو التقيد بثلاثية الاستقلالية والمهنية والحياد.. فالصحافي لا يجب أن تكون له أية انتماءات سياسية، فحزبه الوحيد يجب أن يكون الموضوعية والمصداقية.. وهاجسه الوحيد هو الشفافية من خلال التأكد من مصدر المعلومة ومن صحة الخبر قبل بثه وإفساح المجال لمختلف الآراء طالما أنها لا تحرض على العنف والكراهية والطائفية.. للصحافي آراؤه الخاصة ايضا ولكن لا يجب ان تكون هذه الآراء الدفة التي توجّه عمله فثمة فرق بين الصحافي والمناضل.. كل هذه الاعتبارات هي التي تجعل حتى من المواطن العادي نصيرا للاعلامي متى حاول أي طرف التضييق عليه.
من وجهة نظركم.. كيف يمكن للاعلام التونسي أن يتطوّر؟
المسؤولية مشتركة.. فتنوّع القنوات وتنوّع المحتوى بصدد افراز منافسة شديدة.. الغلبة فيها للأفضل والأصدق.. والمشاهد التونسي ذكي يفرّق بين الغث والسمين ويعلم متى يكون الخطاب صادقا ومتى يكون موجها أو مبتذلا.. إذا الاحساس بعبء المسؤولية وحساسية المرحلة يجب أن يكون نابعا من المؤسسات الاعلامية نفسها التي عليها أن توفّر للصحافي المناخ الصحي والظروف الملائمة للابداع والتألق.. وبالنسبة الى الاعلاميين من الضروري انخراطهم في مسار تطوير الذات من خلال دورات تكوينية ومن الضروري تقيدهم بميثاق العمل الصحفي وأخلاقياته لدى آدائهم لمهامهم..
هذا بالاضافة الى ان المسؤولية تقع أيضا على عاتق الحكومة التي يجب أن تكفل حرية التعبير وتضمن تنصل السلطة الحاكمة التام من أي تأثير مباشر أو غير مباشر على وسائل الإعلام وأن توكل الأمر الى هيئة عليا منتخبة ومستقلة تشرف على القطاع السمعي البصري وتضع حدّا للتجاوزات إذا ما حدثت..تونس بحاجة ماسة الى قرار سياسي جريء يأخذ على عاتقه مهمة اصلاح قطاع الاعلام بعيدا عن المصالح الحزبية الضيقة.
حكيم بالطيفة
حكيم بالطيفة أول صحفي وقارئ أخبار في قناة «فرانس 24» باللغة العربية حاصل على الاستاذية اختصاص راديو وتلفزيون من معهد الصحافة وعلوم الاخبار سنة 2000 والماجستير في الميديا والميلتيميديا في باريس، عمل في وكالة الأنباء العالمية «أسوشيتد برس» وإذاعة «مونتي كارلو» الدولية وكان أول قارئ أخبار يظهر على شاشة قناة «فرانس 24» الناطقة باللغة العربية عند انطلاق بثها في أكتوبر 2010.