حين انطلق بث قناة «فرانس 24» الفرنسية باللغة العربية في أكتوبر 2010، لم يكن أحد من المشاهدين في تونس في ذلك الوقت يتوقع أن أول وجه سيظهر على شاشة القناة كقارئ أخبار، ربما يكون من تونس، إذ كانت غالبية الوجوه الاعلامية الطاغية في الفضائيات الدولية وقتها من المشرق العربي. وكان أول وجه يظهر على شاشة القناة الفرنسية، الاعلامي التونسي حكيم باللطيفة الذي تحول في ظرف وجيز الى واحد من أبرز الاعلاميين في القناة. كما خاض ولا يزال الصراع السياسي في تونس على الفضائيات الدولية زمن النظام السابق وبعد الثورة، وكان ملاذا للمعارضة التونسية، خصوصا قبل الثورة حين كانت وسائل الاعلام المحلية وخاصة السمعية البصرية موصدة.
«الشروق» حاورت حكيم باللطيفة حول تجربته في «فرانس 24» وسياسة أو خط تحرير هذه القناة وعلاقتها بوكالة الاتصال الخارجي زمن النظام السابق، كما سألناه عن رأيه في واقع الاعلام التونسي اليوم. حكيم باللطيفة من معهد الصحافة وعلوم الأخبار الي قناة «فرانس 24» بين المحطتين هل كانت لديك تجارب إعلامية أخرى؟
تجربتي الاعلامية بدأت بالتوازي مع دراستي الجامعية في معهد الصحافة، عملت وقتها على مدى أربع سنوات في العديد من الصحف التونسية كمتعاون صحفي الى حين تخرّجي عام 2000 وتحصلي على الأستاذية اختصاص راديو وتلفزيون، وقتها غادرت الى باريس حيث تحصلت على الماجستير في الميديا والملتيميديا وأنا الآن بصدد استكمال أطروحة الدكتوراه، هذا أكاديميا أما مهنيا في فرنسا، فقد تدربت في مكتب الجزيرة في باريس ومن ثم عملت لدى وكالة الأنباء العالمية «أسوشيتد برس» مراسلا لعديد القنوات العربية تلتها تجربة مهنية قصيرة مع مجموعة «لاغاردير» الاعلامية الفرنسية. بعدها اجتزت اختبارات الانتداب بنجاح في إذاعة «مونت كارلو الدولية حيث أصبحت أقدم نشرات الأخبار.. تجربة مونت كارلو الدولية لم تطل فقد وقع انتدابي بعدها بأسبوع تقريبا من قبل القناة الفرنسية الدولية الاخبارية «فرانس 24» والحمد للّه التجربة مستمرة بخير منذ نحو ست سنوات.
ما لا يعرفه البعض هو أنك كنت أول تونسي يلتحق ب«فرانس 24» وأول وجه تلفزيوني يظهر على القناة عند انطلاقها.. كيف كان إحساسك يومها وكيف تقيم هذه التجربة؟
إحساس فريد من نوعه.. فهو مزيج من السعادة والإحساس العميق بالمسؤولية.. كانت الفرحة هي الشعور الغالب عند انطلاق هذه المغامرة التي تستحق العناء.. تجربة العمل في «فرانس 24» ثرية بامتياز على مستويات عدة.. تعلمت منها شخصيا الكثير ولازلت كل يوم أتعلم خاصة أنني التحقت ب«فرانس 24» عدة أشهر قبل انطلاقها الرسمي.. وكان لي الشرف آنذاك وعلى مدى أسابيع طويلة في المساهمة في جهود التحضير لانطلاق هذه القناة سواء كان ذلك على الصعيد التحريري أو حتى التقني.. كنا نتحسّس طريقنا ونجحنا بفضل الثقة الكبيرة التي لمسناها من إدارة القناة وبفضل تظافر جهود الجميع في هذا الاختبار.
البعض اعتبر أن قناة «فرانس 24» هي مشروع إعلامي فرنسي رسالته الترويج للسياسة الرسمية الفرنسية في المنطقة العربية.. من خلال تجربتك في هذه القناة الى أي مدى شعرت أنك أحد أطراف هذه الرسالة؟
يغالط نفسه من يعتقد أن الموضوعية غاية من السهل إدراكها.. فهي مبدأ ونهج تحريري قبل كل شيء.. ومجهود يومي أيضا.. وهذا ما نجتهد من أجله دائما في «فرانس 24».. صحيح أن قناة «فرانس 24» قناة فرنسية يمولها دافعو الضرائب في فرنسا ولها توجهاتها لكنها ليست بوق دعاية لفرنسا أو لسياساتها فغالبا ما تكون هذه السياسات محل تحليل وتمحيص وانتقاد في برامجنا.. فعلى سبيل المثال، كنا سبّاقين قبل غيرنا الى تغطية هفوات الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وفريقه على مستوى السياسة الخارجية وحتى الداخلية.. «فرانس 24» هي النظرة الفرنسية لأخبار العالم بما تجمعه هذه النظرة من مبادئ حضارية وإنسانية عامة لا يختلف بشأنها إثنان.. حيادنا في تغطيتنا للأحداث الفرنسية والدولية وطريقة تعاطينا مع الخبر هو الذي أكسبنا مصداقيتنا لدى المشاهد العربي وهو الحكم أولا وأخيرا.. ولو كان الوضع غير ذلك لتركت «فرانس 24» منذ زمن.. فيكفينا فخرا اليوم أن مقدمي نشرات الأخبار عندنا هم من يكتبون نصوصهم وأسئلتهم بأنفسهم على عكس ما يحدث في باقي القنوات كما يتصلون بالمراسلين ويقترحون الضيوف ويشاركون في النهج التحريري للقناة بشكل فعّال ومتطور.
هل كانت تمارس عليكم ضغوطات (كإعلاميين تونسيين) من وكالة الاتصال الخارجي أو غيرها من الهيئات عندما كنتم تستضيفون رموز المعارضة في المهجر... أو تقدمون تقارير حول الحريات في تونس؟
الاحتجاج على هكذا أمور كان غالبا ما يصل بطريقة رسمية الى القناة وكان الاعتقاد السائد لدى وكالة الاتصال الخارجي أننا في «فرانس 24» وأن الصحافة الفرنسية بصفة عامة تمارس عدائية مجانية لا مبرر لها ضد نظام بن علي وأن تغطياتنا تجسيد لسياسة فرنسية خفية تجاه تونس... كنا كصحافيين نحظى بدعم القناة طالما كان أداؤنا مهنيا... لهذا السبب لم أتوان عن استضافة كل رموز المعارضة أو حتى من كنت ألقبّهم بأحزاب «المعاضدة».. الأمر الذي كان يزعج بالفعل كثيرا.. المكالمات التي تلقيتها آنذاك كانت غالبا ممتعضة... أما في الأيام الأخيرة قبل فرار بن علي فقد كان يشوبها الكثير من التطاول والتوتّر... ردّي الوحيد دائما هو أن الموضوعية تقتضي احترام الرأي والرأي الآخر وأن المجال متاح أمام المسؤولين التونسيين النافذين كالوزراء مثلا للتدخل على القناة لإبداء آرائهم بدورهم.. غالبا ما كان الردّ : «نشاور ونرجعلك».. لكنهم لا يعودون... كأن الاحتجاج غاية في حد ذاته..
إبان حكم بن علي، استضفت ايضا كل الشخصيات التونسية المعارضة في الداخل والعديد من الحقوقيين الذين أغضبت تصريحاتهم بشدة نظام المخلوع... منهم من هو في الحكم اليوم ومنهم من مازال في المعارضة.. ما الذي بقي في ذهنك من تلك الفترة؟
تلك الفترة كانت حساسة للغاية، فالمعارضون التونسيون كانوا يجدون في قناة «فرانس 24» وغيرها من القنوات الإخبارية الدولية ملاذا ومتنفسا لإدانة ممارسات النظام السابق ومطالبته بالتغيير... فبالاضافة الى اتهامهم بالعمالة والخيانة، كانت طريقة تعامل النظام معهم لدى عودتهم الى تونس أحيانا عنيفة جدّا... استحضر دائما ما حدث للمعارض حمة الهمامي مباشرة عقب استضافتي له على «فرانس 24» من تعنيف واعتداء شديدين في مطار تونسقرطاج بسبب تصريحاته... وهو حقيقة أمر أربكني كثيرا يومها.. كنت أخشى أن يحدث له مكروه جرّاء ما طرحته عليه من أسئلة او يزج به في السجن ولم يهدأ لي بال الا حين عاود التدخل معي بالهاتف من تونس مساء ذلك اليوم ليروي على الملإ ما حدث... ثمة دائما تمزّق نعيشه بين أداء الواجب من جهة وتداعيات هذا الامر من جهة أخرى.
بعد الثورة، ثمة تغيير في المشهد الاعلامي التونسي، ثمة من يعتبر ان الحرية هي السمة البارزة له، وثمة من يعتبر ان الانفلات هو الطاغي وأنه باسم حرية الصحافة ضاعت قيم العمل الصحفي.. كيف تنظر الى هذا التباين؟
ثمة مكاسب عديدة أفرزتها الثورة في تونس، لعل أهمها بالنسبة اليّ حرية التعبير بشتى أنواعها سواء كان ذلك من خلال التظاهر او الاعتصام او ابداء الرأى في وسائل الاعلام او في المنابر السياسية بالاضافة الى حرية ممارسة المعتقد فبيوت الله لم تعد تخضع «للتوقيت الاداري» وإقامة الصلاة فيها لم تعد شبهة... هذه حقيقة مفروغ منها ومكسب رفيع.. لكن في الجانب المقابل، لاحظنا بعض التجاوزات في ميدان الاعلام باسم حرية التعبير وهي في ظني طبيعية في هذه المرحلة وتحفظ ولا يقاس عليها... لا يصححها الا الوعي الجماعي والتكوين من خلال دورات خاصة قد يضطلع بها المركز الافريقي لتدريب الصحافيين على سبيل المثال.. فالحرية ثقافة قبل كل شيء ولكن البعض يفتقدها وهي مسؤولية ايضا لكن البعض لم يعتد عليها بعد... فثمة فرق بين حرية التعبير وحرية الاساءة مثلا... الحرية يجب ان تكون مسؤولة ولها ضوابطها المهنية والأخلاقية... أقول قولي هذا وأنا على يقين من أن هذه التجاوزات لا يجب بتاتا أن تفتح الباب أمام محاولات التضييق من جديد على الإعلام مهما كانت الأسباب... فالتضييق على الإعلام كفيل بإفراغ الثورة من محتواها تماما..
اليوم في تونس هناك معركة بين الاعلاميين والحكومة لا تختلف في عديد جوانبها عن المعركة قبل 14 جانفي.. إنها معركة حرية الاعلام واستقلالية المؤسسات الصحفية... في هذه المعركة ما المطلوب من الاعلاميين التونسيين؟
يذكّرني سؤالك هذا بواقعة شهدتها صحيفة «نيويورك تايمز» فبعد ترقية المسؤول عن القسم السياسي في الصحيفة الى منصب مدير رفض هذا الاخير التصويت في الانتخابات الرئاسية الأمريكية إمعانا منه ومبالغة في الاستقلالية.. وبعيدا عن أي غلو، المطلوب اليوم من الاعلاميين هو التقيد بثلاثية الاستقلالية والمهنية والحياد..
فالصحافي لا يجب ان تكون له أية انتماءات سياسية، تحزبه الوحيد يجب ان يكون للموضوعية والمصداقية.. وهاجسه الوحيد هو الشفافية من خلال التأكد من مصدر المعلومة ومن صحة الخبر قبل بثه وإفساح المجال لمختلف الآراء طالما أنها لا تحرض على العنف والكراهية والطائفية.. للصحافي آراؤه الخاصة أيضا ولكن لا يجب ان تكون هذه الآراء الدفة التي توجّه عمله فثمة فرق بين الصحافي والمناضل.. كل هذه الاعتبارات هي التي تجعل حتى من المواطن العادي نصيرا للإعلامي متى حاول أي طرف التضييق عليه.. وعلى الصحافي ايضا ان يستميت في الدفاع عن حقوقه ومكتسباته بالأساليب الحضارية التي يكفلها له القانون فلا مجال للتراجع اليوم.
من وجهة نظركم.. كيف يمكن للإعلام التونسي أن يتطور؟
المسؤولية مشتركة.. فتنوع القنوات وتنوع المحتوى بصدد إفراز منافسة شديدة.. الغلبة فيها للأفضل والأصدق.. والمشاهد التونسي ذكي يفرّق بين الغث والسمين ويعلم متى يكون الخطاب صادقا ومتى يكون موجها أو مبتذلا..اذا الإحساس بعبء المسؤولية وحساسية المرحلة يجب ان يكون نابعا من المؤسسات الاعلامية نفسها والتي عليها ان توفر للصحافي المناخ الصحي والظروف الملائمة للإبداع والتألق.. وبالنسبة الى الإعلاميين من الضروري انخراطهم في مسار تطوير الذات من خلال دورات تكوينية ومن الضروري تقيدهم بميثاق العمل الصحفي وأخلاقياته لدى آدائهم لمهامهم.. وان يكونوا موضوعيين مع السلطة الحاكمة وغيرها دون تملق أو نفاق ومنصفين مع كل الأحزاب السياسية بما يمليه عليهم ضميرهم المهني ومصلحة الوطن.. فالتاريخ لا يرحم.
هذا بالاضافة الى ان المسؤولية تقع ايضا على عاتق الحكومة التي يجب ان تكفل حرية التعبير وتضمن تنصل السلطة الحاكمة التام من اي تأثير مباشر او غير مباشر على وسائل الاعلام وان توكل الأمر الى هيئة عليا منتخبة ومستقلة تشرف على القطاع السمعي البصري وتضع حدا للتجاوزات اذا ما حدثت.
تونس بحاجة ماسة الى قرار سياسي جريء يأخذ على عاتقه مهمة اصلاح قطاع الاعلام بعيدا عن المصالح الحزبية الضيقة من خلال تفعيل توصيات الهيئة العليا المستقلة لإصلاح الاعلام والبحث في ديمومة هكذا هيئة.. بالاضافة الى اطلاق نقاش وطني حول «أي اعلام نريد لتونس اليوم؟» بمشاركة باحثين وجامعيين ومهنيين ومواطنين بالخصوص.