صفحات من كتاب «العواصف» للشاعر والزاهد والفيلسوف والناقد والصحفي والأديب جبران خليل جبران استطاعت أن تلخص وتستشرف الواقع السوري وأن تتلمس ارتسامات المشهد على أرض الشام قبل نحو القرن من الزمان. بين الورقة والأخرى , بين الجملة وأختها ,وبين الفقرة وتاليتها , يضعك جبران خليل جبران (1883 1931) بلسان الأمس وقلم البارحة في خضم الواقع السوري المعيش وفي قلب المعادلات الدولية والمشاريع الإقليمية المتقاتلة على أرض الشام .
لكأن حاضر الشام ومستقبلها مبثوثان بين صفحات الكتب ومنتثران بين أوراق المجلدات , في تمازج رائع ورهيب بين قوة التجريد وحقيقة التجريب. هكذا هو حال الأمم الشامخة ,تمتزج دما في عروق أبنائها ونفسا في رئات أحفادها وتستحيل هما ورؤى وأفكارا وفلسفة في أذهان التالهين التائهين بمائها ونارها , بسهولها وهضابها , بملحها وسكرها , بجبل قاسيونها ونهر بردها , بمساجدها وكنائسها .. بمقاومتها وجمالها.
هكذا هو حال الشام الشامخة , عبر عنه جبران خليل جبران في العواصف متسائلا : هل تبقى سوريا مطروحة بين مغاور الذئاب وحظائر الخنازير أم تنتقل مع العاصفة إلى عرين الأسد أو ذروة النسر ؟ وهل يطلع الفجر فوق قمم لبنان ؟
هكذا هو حال أهل الشام الكرام في الأزمات , لخصه جبران قائلا : مات أهلي واهلكم ايها السوريون فماذا نستطيع أن نفعل لمن لم يمت منهم ؟ إن نواحنا لا يسد رمقهم ودموعنا لا تروي غليلهم ... إن العاطفة التي تجعلك يا اخي السوري تعطي شيئا من حياتك لمن يكاد يفقد حياته هي الأمر الوحيد الذي يجعلك حريا بنور النهار وهدوء الليل .
هكذا هو حال الشهداء من السوريين الأكارم وصفات المتورطين في الدم السوري ,حبره جبران بجملة واحدة نصها : ماتوا لأن الثعبان الجهنمي قد التهم كل ما في حقولهم من المواشي وما في أهرائهم من الأقوات .. ماتوا لأن الافاعي أبناء الأفاعي قد نفثوا السموم في الفضاء الذي كانت تملؤه أنفاس الأرز وعطور الورود والياسمين. وهكذا أيضا هو وضع «الجامعة البشرية» مترهلة وتائهة وضائعة, وقد صورها جبران قائلا : في فم الجامعة البشرية أضراس مسوسة وقد نخرتها العلة حتى بلغت عظم الفك غير أن الجامعة البشرية لا تستأصله لترتاح من أوجاعها بل تكتفي بتمريضها وتنظيف خارجها وملء ثقوبها بالذهب اللماع.
وهكذا أيضا هو التجانس السوري والتواؤم الطائفي والتآخي الديني على أرض الشام .. أنت أخي ساجد في جامعك وراكع في هيكلك ومصلّ في معبدك . كلام نسوقه لمن يعرف الأدب والذوق لمن يستكنه الشعر والنثر لمن يفهم فكرا ويتعقل فهما , لمن يذوب عشقا في كينونة الأمة العربية وينصهر تلها في كيان العروبة. كلام نسوقه لمن يدرك أن على أرض الشام ما يستحق الحياة وأن في وعلى أرضها أيضا ما يستحق الشهادة للحياة بكرامة وإباء .