مباشرة بعد الثورة ، سحب كثيرون، أغلبهم رجال اعمال، اموالهم من البنوك، مما دفع بالبنك المركزي التونسي إلى ضخ سيولة ضخمة للبنوك قصد إعادة تمويلها وتفادي الانهيار الاقتصادي.. جانب كبير من هذه الاموال لم يعد إلى حد اليوم للبنوك ولا للدورة الاقتصادية.. خلال شهري جانفي وفيفري 2011 لوحدهما، تم سحب ما يقارب 750 مليون دينار من البنوك التونسية في شكل أوراق نقدية من الحسابات الجارية ومن حسابات الادخار. ويُرجّح خبراء الاقتصاد ان رجال الاعمال والمستثمرين هم أكثر من سحب امواله من البنوك. ورغم عدم كشف السلطات المالية التونسية عن المبالغ الحقيقية المسحوبة إلى حد الآن من البنوك دون موجب (أي يتم سحبها من البنوك دون أن تكون لصاحبها أية نوايا لاستثمارها مجددا) إلا أن المختصين والخبراء يؤكدون أن المبلغ الاجمالي المسحوب إلى حد الآن أرفع بكثير من المبلغ المُعلن عنه بالنسبة لشهري جانفي وفيفري 2011 . لكن لسائل أن يسأل أين ذهبت تلك الأموال المسحوبة من البنوك؟ وما الذي يدفع بأصحابها إلى الإحجام إلى حد الآن عن إعادتها للبنوك او إعادة استثمارها في الدورة الاقتصادية ؟ وهل يُهدد هذا الوضع التوازنات الاقتصادية في البلاد ؟
من فائض إلى عجز
قبل الثورة كانت البنوك تسجل دوما فائضا من الموجودات النقدية (السيولة) وهو ما كان يقتضي تدخل البنك المركزي لسحب هذه السيولة وامتصاصها، من ذلك مثلا انه قبل الثورة بأيام كان هذا الفائض يناهز 600 مليون دينار. وهذا ما كان يمثل حسب الخبراء والمختصين مؤشرا جيدا على سلامة الاقتصاد وعلى وجود بعض الانتعاشة داخله. لكن منذ الثورة بدأت البنوك تسجل باستمرار نقصا واضحا في توفر السيولة لديها ، و لولا تدخل البنك المركزي لضخ السيولة النقدية داخل هذه البنوك لانهارت وانهار معها جانب كبير من الاقتصاد. فإلى حد ديسمبر 2011 قام البنك المركزي بضخ سيولة نقدية للبنوك تُقدر بما ما لا يقل عن 3.616 مليار دينار بينما بلغت و5.240 مليار دينار إلى حد جويلية 2012 ، وهو مؤشر واضح على تراجع ملحوظ للموجودات النقدية داخل خزائن البنوك بسبب ارتفاع عمليات سحب الأموال وتراجع عمليات الإيداع. وإذا ما تواصل الوضع على هذا النحو ، يرى المختصون أن عمليات ضخ السيولة باستمرار من قبل البنك المركزي ستُرهق حتما الاقتصاد والتوازنات الاقتصادية للبلاد ولا يمكنها أن تمثل إلا حلا وقتيا لان توفير السيولة يجب أن يكون عبر النشاط الاقتصادي المتحرك.
في الخزائن المنزلية
وفق ما يتسرب بين الحين والآخر من معطيات، فان الجانب الاوفر من هذه الاموال المسحوبة من البنوك مخبّأة داخل المنازل. ويقول ملاحظون أنه ليس أدل على ذلك من الانتعاشة التي عرفها طيلة الأشهر الماضية نشاط بيع الخزائن المنزلية المؤمنة ضد السرقة ( coffre fort) في المحلات وعلى قارعة الطرقات فقد أصبح نشاطا لافتا للانتباه منذ الثورة إلى الآن و مُربحا لكل من مارسه باعتبار كثرة المبيعات في هذا المجال. كما ان الشركات المختصة في تركيب هذه الخزائن وفي تجهيز المنازل بالمنبهات الصوتية المضادة للسرقة نشطت بشكل ملحوظ بعد الثورة، وهو مؤشر على ارتفاع نسبة تخزين الاموال داخل المنازل مقابل تراجع إيداعها بالبنوك .وبالتالي فان عدم استثمار هذه الاموال يعني انها ستذهب تدريجيا نحو الاستهلاك.
تهريب وسوق سوداء
يقول شق من الملاحظين أنه يوجد احتمال آخر لمصير هذه الاموال المسحوبة من البنوك وهو تهريبها بطرق مشبوهة خارج البلاد واستثمارها في بلدان أخرى رغم أن محافظ البنك المركزي سابقا كمال النابلي استبعد هذه الفرضية . وقد راجت منذ أشهر أخبار تقول أن بعض رجال الاعمال التونسيين استثمروا اموالهم في الجزائر وفي ليبيا وفي دول أخرى. ويرون أيضا أن بعض هذه الاموال المسحوبة من البنوك قد يكون وقع التصرف فيها عن طريق معاملات أخرى مشبوهة أو عبر السوق السوداء.
مخاوف ..وعدالة انتقالية
أما عن أسباب سحب الأموال من البنوك فيقول الخبراء أنها مرتبطة أساسا بالتخوفات الكثيرة لدى رجال الاعمال والمستثمرين من عملية المحاسبة التي أصبحوا يعتبرونها أداة للانتقام والتشفي منهم خاصة في ظل تعثر مسار العدالة الانتقالية وعدم الثقة فيه. وبالتالي فهم لا يريدون المخاطرة بأموالهم بتركها في حساباتهم البنكية أو باستثمارها من جديد ، وذلك في ظل ضبابية الرؤية لديهم وخوفا من محاسبتهم بطريقة قد تكون غير عادلة دون التثبت من حقيقة تورطهم بصفة فعلية في الفساد السابق أم لا. خارج الدورة الاقتصادية في تصريح ل«الشروق» على هامش ندوة انعقدت مؤخرا بالبنك المركزي قال السيد الشاذلي العياري، مُحافظ البنك، ان وجود مبالغ مرتفعة من الاموال خارج البنوك وعدم إعادة استثمارها يعني انها خارج الدورة الاقتصادية. ولمح إلى أن هناك مخاوف من أن تتواصل عمليات سحب الأموال من البنوك وأن يتواصل احجام رؤوس الاموال عن إعادة استثمار ما يجنونه من مرابيح و أن يتواصل أيضا الامتناع عن إيداعها بالبنوك.. فهذا سيؤدي على المدى القصير إلى تراجع نسق الاستثمار وإلى إلحاق أضرار فادحة بالبنوك أولا وبالاقتصاد ثانيا.
ثقة ومصالحة
في رأي أغلب المختصين والخبراء الاقتصاديين ، فانه لم يبق أمام السلطات المالية والقضائية من خيار آخر غير وضع حد لهذه الوضعية الخطيرة في رأيهم. ولن يكون ذلك ممكنا إذا لم تقع إعادة الثقة لرجال الاعمال ورؤوس الاموال حتى يُعيدوا اموالهم للبنوك وللدورة الاقتصادية بشكل عام عبر إعادة استثمارها. فبلادنا تحتاج اليوم إلى اكثر ما يمكن من أموال لتجاوز المشاكل العاجلة على غرار البطالة والتنمية الجهوية التي تتطلب وجود سيولة في البنوك المحلية وفي البنك المركزي حتى يقدروا على تمويل المشاريع الاستثمارية حتى لا نضطر للجوء إلى الاقتراض الأجنبي لتوفير الاستثمار الذي يُرهق التوازنات المالية للدولة.
ويقول الملاحظون أنه على الحكومة التعجيل باتخاذ الاجراءات المناسبة لإبرام مصالحة مع رجال الاعمال المعنيين بهذا الاشكال وإعادة الثقة إليهم بعد اخضاعهم للقضاء بطريقة عادلة بعيدا عن المُحاصصة السياسية والانتقام والتشفي. وهذا ما نادى به محافظ البنك المركزي ومسؤولو البنوك والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة وخبراء الاقتصاد .