الآن وقد انطلق موسم الأمطار في تونس عادت صور آلاف العائلات التي شردتها فياضانات السنة الفارطة لتطفو على السطح في وقت لازال الغموض يخيّم على مشروع الثلاثين ألف مسكن الاجتماعي الذي وعدت الحكومة بإنجازه للشرائح الأكثر فقرا. لا تتطلب الوضعية المؤلمة والمأساويّة لألاف العائلات التونسية مختصيّن لفهم الأخطار المحدقة بها كلما تكلم الرعد وانفجرت الأمطار من رحم السماء. والمسألة لا تتعلق فقط بالجوع والبرد بل كذلك بحالة المساكن التي يقطنها هؤلاء التونسيين من ذوي الدخل المحدود أو من معدومي الدخل أساسا. وقد اكتشف الرأي العام في تونس فظاعة الأوضاع الاجتماعية بعدما أتت فياضانات السنة الماضية على آلاف المساكن التي هي أقرب إلى الأكواخ منها إلى المنازل المتوفرة على حدّ أدنى من شروط العيش الكريم.
أمام صدمة التونسيين في رؤية إخوانهم في ولايات الشمال الغربي والجنوب الغربي وحتى في بعض أحياء العاصمة يقضون أيّامهم ولياليهم في العراء بعد أن عبثت الأمطار بمساكنهم البدائية عجلت الحكومة باتخاذ جملة من الإجراءات لفائدة هذه الشرائح التي تناساها عمدا النظام السابق واستثرت على حسابها نوعية من المسؤولين المستكرشين من تجار الفقر والخصاصة وكان مشروع الثلاثين ألف مسكن بمثابة الانتصار لكرامة هؤلاء التونسيين.
ومرّ العام وهاهي الأمطار تعود لترمي بظلالها على نفس الضحية الاجتماعية ولم نر فأسا واحدة تحفر الأرض لوضع أساس هذا المشروع السكني الواعد والحامل للأمل. ومن باب التذكير لا غير كان رئيس الحكومة شخصيا قد أشار في بداية توليه الوزارة أن أولى أوليات حكومته تتمثل في التعجيل والإسراع بإنجاز مشروع المساكن الاجتماعية لفائدة فقراء تونس بعد ما كان وقف شخصيا على حجم الكارثة وعمق المأساة وهو يتجول بين الأنقاض التي خلفتها فياضانات السنة الفارطة.
ولأن الكلام أني على لسان شخص عرف الفقر وعاش الظلم فإن أهالينا من الجهات المحرومة استبشروا خيرا بل وكانوا متأكدين من أن 2012 لن يكون كسابقه وإن التونسيين لن يرضوا من هنا فسابقا أن تحمل الأمطار رضيعا من حضن أمه ولن يبيت شيخ أو عجوز في العراء والخلاء.
لكن يبدو أن المسألة لا تتعدى أن تكون إلا أضعاث أحلام بما أن أمطار نهاية الأسبوع الماضي تسربت بعد إلى داخل المنازل في أحياء عديدة من العاصمة وفي ولايات الداخل.
الأرقام السوداء
تحيل الأرقام المتعلقة بقطاع السكن في تونس على مفارقات غريبة من ذلك أن أكثر من مائة ألف مسكن في تونس لم يجد مشتريا وبالتالي غير مشتغل اليوم بسبب ركود سوق العقارات بعد الثورة نتيجة الأزمة الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية الغير مستقرة الأمر الذي دفع بالعديد من المستثمرين إلى عدم المغامرة والإستثمار في قطاع السكن في ذات الوقت يعيش أكثر من مليون تونسي في منازل بدائية لا تتوفر على المرافق الدنيا من ماء صالح للشراب وكهرباء وربط بالصرف الصحي . أما في المناطق الريفية فالمسألة أكثر خطورة وتعقيدا إذ يعيش أكثر من مائة ألف تونسي في مساكن تشبه الأكواخ لا تليق بصورة تونس بعد الثورة.
هذا وبرزت ظاهرة جديدة في العاصمة وفي المدن الكبرى ضحيتها عدد غير محدد من الكهول والأطفال الذين يعيشون في الحدائق العمومية وتحت الجسور وبالقرب من محطات القطار والحافلات دون أن تحرك الجهات المعنية ساكنا للتعرف على مشاكلهم وتحديد مصيرهم وتسوية وضعياتهم السكنية.
وبسؤال بعض الباعثين العقاريين عن سبب أزمة السكن في تونس قال السيد فوزي الحصايري : « هناك أسباب عديدة تقف وراء الأزمة التي تعصف بقطاع السكن والبعث العقاري في تونس وهي أسباب هيكلية كنا نتمنى كباعثين عقاريين أن تتنبه لها الحكومة الحالية ومن ثمة الشروع في إيجاد الحلول الكفيلة لإنقاذ هذا القطاع الإستراتيجي فقد ساهمت الدولة قبل الثورة في اهمال السكن الاجتماعي وعدم تشجيع الباعثين العقاريين على الإستثمار في هذا النوع من السكن.
من ذلك مثلا صمت الدولة على المضاربة في سوق الأراضي المعدة للسكن الأمر الذي سبب ارتفاعا مشطا في الأسعار وهو ما انعكس سلبا على الثمن النهائي للمسكن. إن تخلي الدولة على تخصيص جزء من الأراضي المعدة للسكن الاجتماعي دفع بالباعثين العقاريين إلى الاستثمار في السكن الراقي ومازاد الطين بلة هو استقالة الوكالات التي أحدثتها الدولة عن أداء مهمتها الأصلية وتحولت بدورها إلى شريك في عملية المضاربة التي شملت الأراضي المعدة للبناء».
وأكد السيد فوزي الحصايري أن الباعثين العقاريين استبشروا بدورهم خيرا بقرارات الحكومة الحالية وعزمها على العودة للإهتمام بالشرائح الاجتماعية المحرومة وذلك برغبتها في انجاز 30 ألف مسكن اجتماعي لكنه وبمجرد الإطلاع على كراس الشروط المعدة لهذا المشروع نكتشف أنه يستحيل على الباعثين التونسيين المشاركة في هذا المشروع العظيم فبالنظر إلى حجم التمويل يمكن القول بأن المسألة تتعدى امكانيات الشركات التونسية ولذلك سارعنا بمطالبة الحكومة بالتدخل لدى البنوك التونسية حتى تدعم المستثمر التونسي وخلق آلية للتعاون بين القطاع العام والقطاع الخاص حماية للرأسمال الوطني وللعملة الصعبة وتوفير آلاف مواطن الشغل للتونسيين زيادة على دفع قطاع البناء والعقار في تونس بما يمكن من جرّ ورائه قطاعات أخرى وتوفير آلاف مواطني الشغل كذلك للعاملين في قطاعت النجارة والحدادة والكهرباء المنزلية وغيرها لذلك نعيد دعوة الحكومة حتى تحسس البنوك التونسية لدعم الباعثين العقاريين التونسيين وبالتالي القدرة على منافسة الشركات الدولية.»
الأمل
أمام تردد الباعثين العقاريين التونسيين وخوفهم من إفصائهم من هذا المشروع سارعت الحكومة على لسان وزيرها للتجهيز إلى توضيح المسألة الذي أكد على حاجة تونس إلى اقامة شراكة فاعلة مع القطاع الخاص المتمثل في 2368 باعث عقاري مبينا في ذات السياق أنه تم فعلا إطلاق طلب العروض الدولي بطريقة مفتاح في اليد (clé en main) وذلك بقصد بناء 12 ألف مسكن إجتماعي في مرحلة أولى وبرمجة تهيئة حوالي 21 حي موزعة على كامل تراب الجمهورية وتحديد 10 أحياء كبرى ذات أولوية قصوى.
بقي أن وزارة التجهيز لم تحدد موعدا لإنهاء الأشغال وتسليم المنازل إلى مستحقيها. في الأثناء قد يقضي آلاف التونسيين سنتهم الثانية بعد الثورة في العراء في حين أصبح سن قانون يمنع إخراج المكترين في الشتاء أكثر من ضرورة.