يعيش الوطن الجريح في منعرج خطير بعيد اندلاع ثورة 17 سبتمبر و14 جانفي التي توّجت نضالاتها الدموية الدامية بسقوط رأس النظام وهروبه من البلاد بعد سقوط المئات من الشهداء والجرحى في صفوف الشباب المعطل عن العمل ولم يجد من نصير وشريك في انتفاضته إلا الجماهير المظفّرة وأصحاب الحاجة في هذا الوطن وفي طليعتهم نقابات الاتحاد العام التونسي للشغل ومقرّاته.. في أيام الجمر هذه غابت الأحزاب وفي مقدمتها «الترويكا» ورافقتها النهضة إذ عاد زعيمها من المهجر في آخر يوم من شهر جانفي بعد شهر ونصف من فعاليات هذه الثورة الخالدة.. كما رجع المرزوقي في 18 جانفي بعد شهر من هذا الحراك الدامي، فصرّح في الطائرة بترشحه للرّئاسة فبهت الذي كفر.. وفي التوّ والحين ذهب الى الجنوب الثائر الهادر فرُدّ على أعقابه بقوّة.. في زمن جحيم الانفلات الأمني الاجتماعي السياسي الذي ذاق فيه الشعب مرّ المحن فتكاتف مع الجيش الوطني لحماية الوطن من السقوط في وهاد ومجاهل الفوضى «الفلاّقة».. والعمل على حماية الثورة وأهدافها من همجيّة السّطو والتخريب الممنهج من طرف فلول التجمّع. وعند قيام حكومة الغنوشي تحرّك أصحاب الثورة من موقع الاعتصام الأول والثاني بالقصبة لإسقاطها.. وفي ظلّ الحكومات التي مسكت بزمام السلطة الوقتية دون شرعية ثورية وعملت عبر اللجان الثلاث التي بعثها بن علي قبل رحيله إذ تقاطعت وتناقضت مع رغبة الثورة في بعث حكومة إنقاذ وطني وكتابة دستور والدخول في انتخابات تشريعية دون إطالة وتسويف وتدويخ لحيوية فعاليات الانتفاضة وأهدافها الثورية.. ومن هنا بدأ العدّ التنازلي للإلتفاف على أهداف هذا الحراك الاجتماعي الشعبي وركوبه من خلال السعي المحموم لخلق شرعية انتخابية تقوّض الشرعية الثورية عندها تناسلت الأحزاب وخرجت من غيوم الغيبة والغياب كالجراد تزحف بشراهة الجائع الى تقاسم كعكة البؤساء من روّاد الثورة.
ولهذا السبب تغيّبت أغلبية الشعب عن هذه الانتخابات طبق موقفها المساند لثورة الكرامة والحرية التي حرّرت الشعب المولّى عليه من طاغوت الاستبداد والفساد والإفساد الذي نشره وجذره حكم الطاغية وعائلته واللفيف الكريه من أزلامه وزبانية نظامه البغيض فتحول وطننا الجميل لمدة 23 سنة طويلة مريرة الى اقطاعية للمخلوع يعشّش فيها سوس الحيف والقهر والفقر وصمت القبور.
لذا صعب على هذا الشعب الوفي الأبي نكران جميل هذه الثورة العفوية النبيلة المقاصد والتي تمثلت كمعجزة فعل حاسم جامع لتراكمات نضال انتفاضات دورية دموية مضنية خاضها الشعب المفقر الكادح صحبة منظمة محمد علي الحامي ورفيق دربه محرر المرأة الطاهر الحدّاد وشهيد الوطن فرحات حشاد بداية من ثورة 26 جانفي 1978 التي سقط فيها 1200 بين قتيل وجريح. مجزرة ذلك الخميس الأسود الرهيب أدارها باقتدار الجنرال بن علي ومنها وعلى جثث ضحاياها من النقابيين والعامة من الشعب تحصّل على شهادة الكفاءة في القمع والقتل والعمالة وبها تموقع في الصف الأول في السلطة الحاكمة فاستغل دوّامة الصراع على خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة. العاجز المريض فمدّ بليل فنزعه من مكانه وجلس وتربّع في سدة الحكم فهرع الساسة وأصحاب الحسبة والزور والكياسة وخاصة قيادة النهضة التي نشلها من حكم الاعدام فبايعوه بحرارة وشاركوه في انتخاباته الأولى... وسمع من المدح والثناء ما يقوي نزعة الجبروت فيه مثل قولة راشد الغنوشي: «ربي وبن علي»..
لكن شعبنا المكدود الضارب منذ دهر في شعاب المحن والغدر والتيه والتمويه لم يستسلم فواصل نسج انتفاضاته بخلالة الصبر قبل وبعد بن علي لأنه يعرف بان نظام التغيير افراز أقذع وأشنع من ذاك القديم كبعرة من نفس البعير فكانت انتفاضة الخبز سنة 1984 وسليانة والحوض المنجمي 2008 وتوجت بثورة الكرامة والحرية بسيدي بوزيد فسقط النظام وهرب من البلاد.
وقراءة في فصول هذه الملاحم المأساوية التي خاضها الشعب وأبناؤه المعطلين عن العمل لم نسجل اي حراك للاحزاب فيه انجاز يرفع الظلم ويحشد قوى الشعب ويدفعه عبر الانتفاض على جلاده لنيل حقوقه لذا فإن هذه الثورة ملك للمتضررين والمعطلين عن العمل وأصحاب الحاجة وعلى هذا المحك من الصدق والإخلاص نقول للنهضة وزعيمها راشد الغنوشي حاكم هذه البلاد وحزبي المؤتمر والتكتل: كفاية!؟ فقد بلغ السيل الزبى وطفح الكيل بالأذى عند تقاسم الغنيمة بتنفيل الأقارب والأنصار بالمناصب العليا والمرتبات المغرية ونشرهم كالجراد في مفاصل الدولة دون كفاءة او اختصاص وتجربة وحرمان شباب الثورة الحامل للشهائد العليا من العمل فتطابق الماضي مع الحاضر وكأن النظام نُقل من كتف الى كتف.