لم يثر هيرفي غاتينيو أيّ اعتراض يُذكَر حين قال في راديو مونتي كارلو وفي مجلّة لوبوان بتاريخ 22 نوفمبر 2012 «إنّ ما يحدث في حزب الاتحاد من أجل حركة شعبيّة لا يشرّف السياسة ولا يشرّف السياسيّين». عبّر هذا التصريح عن مشاعر معظم الفرنسيّين الذين أخذوا يتابعون ما يحدث داخل حزبهم الحاكم السابق (UMP) بالكثير من الاستغراب والذهول، مكتشفين هشاشة الديمقراطيّة حين تنتقل من ثقافةٍ إلى نوع من الشعوذة أو «البراعة اليدويّة».
مرّةً أخرى اغتنم ساركوزي الفرصة كي يلعب دور «زورو»! ومرّةً أخرى طلب منه أبناء الحزب إنقاذهم دون أن يبدو على معظمهم الانتباه إلى أنّ ما يحدث لحزبهم ليس سوى نتيجة الأخطاء التي ارتكبها «منقذهم»!
الخطأ الأوّل أنّ ساركوزي لم يسمح لحزبه بأن يقوم على أرضيّة فكريّة بل جعل منه حزبًا قائمًا على الولاء لشخصه. هذه الشخصنة هي الفخّ الذي وقع فيه كوبيه وفيّون حين حاول كلّ منهما أن يُصبح ساركوزي الجديد.
الخطأ الثاني مرتبط بالخطإ الأوّل. فالاعتماد على الشخصنة طريق إلى تغليب الصورة على الفكرة. وهذا يعني تغييب الجدل والحجاج، أي تغييب صراع الأفكار، ومن ثمّ الحيلولة دون إنضاج خطّ سياسيّ واضح المبادئ والأهداف والوسائل يلتفّ حوله المنخرطون وتُختار على أساسه القيادات.
الخطأ الثالث ناجم عن الخطأين الأوّلين. فالشخصنة وغياب الأرضيّة الفكريّة الواضحة لا يتركان مجالاً لأيّ ديمقراطيّة حقيقيّة. وليس من نتيجة لذلك سوى تحويل الصراع السياسيّ إلى صراع عصابات تتناحر في العلن وفي الكواليس.
حاول البعض التفاؤل مقارنًا بين أزمة هذا الحزب والأزمة الماليّة العالميّة الأخيرة، معوّلاً على هزّة دراماتيكيّة تجعل النخبة السياسيّة تنتبه إلى مخاطر انحرافها بالديمقراطيّة، مثلما انتبه رجال المال إلى مخاطر انحرافهم بالمنظومة الماليّة.
لا وجاهة لهذا التفاؤل دون إنضاج وعي جماعيّ يؤكّد انتباه النخبة الفرنسيّة والغربيّة عمومًا إلى ما ذهب إليه إدغار موران منذ سنوات: سقوط المدرسة السياسيّة القائمة على إحلال النشاط السياسيّ (Activisme) محلّ الفكر السياسيّ.
وهو وعيٌ مطلوب لا في فرنسا والغرب وحدهما بل في كلّ بلاد تعتبر الديمقراطيّة أفُقًا لابدّ منه لتعايُشِ مواطنيها في مجتمع متمدّن يتيح العدل والمساواة والكرامة والحريّة، في سياق لعبة سياسيّة يحترم الجميع شروطها لأنّهم اختاروها لخدمة الجميع لا لخدمة طرفٍ على حساب الطرف الآخر.
من ثمّ ربّما تأتي أهميّة التوقّف عند صراع الديكة بين كوبيه وفيّون، وتحليله لا بوصفه حادثًا عرضيًّا يهمّ أصحابه، بل بوصفه درسًا ومصدرًا للعبرة والاعتبار. خاصّة حين نعلم أنّ الأسباب التي أتاحت لهذا الحزب أن يتماسك حين كان في السلطة هي الأسباب نفسها التي تضعه اليوم على حافة الانفجار.
لم يرغب ساركوزي في بناء حزب بالمعنى الحقيقيّ بل سعى إلى إنشاء آلة انتخابيّة تؤمّن الوصول إلى السلطة. ومن طبيعة الآلات في السياق السياسيّ كما يفهمه ساركوزي وأمثاله أن تكون بلا بوصلة إيديولوجية أي بلا روح ولا ضمير.
هكذا اجتمع في هذا الحزب الشيء ونقيضه. وعبثًا ركّزت التسمية على عبارة «الاتّحاد» فلا وحدة بين المنخرطين والقيادات غير الرغبة في الوصول إلى الحكم، مهما كان الثمن، حتى عن طريق تقديم التنازل تلو الآخر للتطرّف وسدنته.
المدرسة التي ينتمي إليها ساركوزي ليست نتاجًا فرنسيًّا محضًا بل هي مدرسة عابرة للقارّات وجزءٌ من نظرة معولمة للسياسة، تُدرج العمل السياسيّ في سياق الأنشطة الخاضعة لقوانين السوق والاستهلاك والدعاية والماركيتينغ، وتعتبر الانتهازيّة وما تتطلّبه من تضليل جزءًا لا يتجزّأ من قواعد اللعبة. قد لا تخلو هذه القواعد من جدوى أيّام ممارسة السلطة لأنّ من السهل إسكات وخز الضمير عن طريق المناصب أو الوعود. لكن ما أن يخسر الحزب السلطة حتى ينقلب السحر على الساحر وتصبح تلك القواعد وبالاً عليه قبل غيره.
هكذا تسقط الشعارات المتغنّية بخدمة الوطن ونكران الذات وتغليب المصلحة العامّة كاشفةً عن أنانيّة مرضيّة ولهفة على الكرسيّ وانحياز مُطلق إلى الأطماع الشخصيّة. وهكذا تنكشف الديمقراطيّةُ الشكليّة عن ديمقراطيّةٍ بلا ديمقراطيّين. ميزتها الوحيدة، والفكرة للساخر فيليب بوفار، أنّ حشو الأدمغة يترك مكانه لحشو الصناديق.