التلفزيون الإيراني: فرق الإنقاذ تعثر على حطام طائرة الرئيس رئيسي    ما الذي نعرفه عن إبراهيم رئيسي الذي تعرضت مروحيته لحادث ؟    كيف سيكون الطقس هذه الليلة؟    4 تتويجات تونسية ضمن جوائز النقاد للأفلام العربية 2024    الزارات -قابس: وفاة طفل غرقا بشاطئ المعمورة    ايران: فرق إنقاذ تقترب من مكان هبوط مروحية الرئيس    جندوبة: تحت شعار "طفل ومتحف" أطفالنا بين روائع مدينة شمتو    تراجع توقعات الإنتاج العالمي من الحبوب مقابل ارتفاع في الاستهلاك العالمي    يوسف العوادني الكاتب العام للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس يتعرّض الى وعكة صحية إستوجبت تدخل جراحي    أنصار قيس سعيد اليوم : ''تونس حرة حرة والعميل على برة''    البنين تعتزم إجلاء 165 من مواطنيها بصفة طوعية من تونس    القيروان: الملتقي الجهوي السادس للابداع الطفولي في الكورال والموسيقى ببوحجلة (فيديو)    عاجل/ الرصد الجوي يحذر من حالة الطقس ليوم غد..    الأهلي المصري يعامل الترجي بالمثل    هام: انخفاض أسعار هذه المنتوجات..    بعد "دخلة" جماهير الترجي…الهيئة العامة لاستاد القاهرة تفرض قرارات صارمة على مشجعي الأهلي و الزمالك في إياب نهائي رابطة الأبطال الإفريقية و كأس الكاف    سفيرة الامارات في زيارة لصالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    القنصل العام للجزائر في زيارة الجناح الجزائري بالصالون المتوسطي للفلاحة والصناعات الغذائية    الجمعية النسائية ببرقو تصنع الحدث    السيارات الإدارية : ارتفاع في المخالفات و هذه التفاصيل    اليوم : انقطاع التيار الكهربائي بهذه المناطق    نابل: اختتام شهر التراث بقرية القرشين تحت شعار "القرشين تاريخ وهوية" (صور+فيديو)    هيئة الانتخابات تشرع غدا في تحيين السجل الانتخابي    علماء يكشفون : العالم مهدد بموجة أعاصير وكوارث طبيعية    إضراب بالمركب الفلاحي وضيعة رأس العين ومركب الدواجن    طقس اليوم ...امطار مع تساقط البرد    نابل: تضرّر ما يقارب 1500 هكتار : «الترستيزا» مرض خفي يهدّد قطاع القوارص    بفضل صادرات زيت الزيتون والتّمور ومنتجات البحر; الميزان التجاري الغذائي يحقّق فائضا    أخبار النادي الإفريقي .. البنزرتي «يثور» على اللاعبين واتّهامات للتحكيم    الأونروا: 800 ألف فروا من رفح يعيشون بالطرقات.. والمناطق الآمنة "ادعاء كاذب"    في عيده ال84.. صور عادل إمام تتصدر مواقع التواصل    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة .. «عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    نهائي دوري ابطال إفريقيا: التشكيلة المتوقعة للترجي والنادي الاهلي    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    تفكيك شبكة لترويج الأقراص المخدرة وحجز 900 قرص مخدر    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    المنستير: القبض على 5 أشخاص اقتحموا متحف الحبيب بورقيبة بسقانص    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خميس الشماري: "أنا إصلاحي متجذِّر، والسلطة جعلتني معارضا"
نشر في الفجر نيوز يوم 08 - 12 - 2009


أجرى الحوار صلاح الدين الجورشي
يجمَع السيد خميس الشماري في شخصه أبعادا متعدّدة. فهو من جهة، شخصية حقوقية لم تغِب عن أبرز المحطّات التي عرفتها مسيرة حركة حقوق الإنسان في تونس منذ لِجان الدفاع عن المساجين السياسيين في الستينات، مُرورا بالانتساب إلى الرابطة التونسية للدِّفاع عن حقوق الإنسان، التي أصبح كاتبها العام، وُصولا إلى مُختلف مبادرات الاحتجاج ضدّ انتهاك الحريات والحقوق الأساسية، لكنه إلى جانب ذلك، هو وجْه بارز من وجوه اليَسار التونسي ومعارض ديمقراطي وناشط سياسي، أثار باستمرار الجدل حول مواقِفه وتحرّكاته.
وإذا كانت الطبيعة تكرَه الفَراغ، فإن خميس الشماري يرفُض أن يكون غائِبا عن أي حدث له علاقة بالنِّضال الديمقراطي. كذلك، لا يُمكن أن تكون على صِلة به، دون أن يتحوّل إلى مصدر رئيسي من مصادر معلوماتك، نظرا لِما يتمتّع به من شبكة واسعة للعلاقات والمصادر، مع قُدرة لا تقبل المنافسة في كشْف المستور وغير المعلوم من أخبار الكواليس والغُرف المُغلقة.
الحوار الذي أجريناه معه، تجنّبنا فيه التعليق على الآني وأردناه أن يكون تأمّلات في تجربة شخصية وتعميق لنِقاش يُفترض أن يُشارك فيه الكثيرون، يجمع بين استِحضار الماضي وممارسة النّقد الذاتي والتفكير قليلا في استِشراف المستقبل.
لن نتوقّف في هذا الحوار عند الانتخابات التي جرت مؤخّرا في تونس، ولكن ما لفَت انتباهي في موقِفك، أنك بالرغم من تأكيدك في عديد التصريحات على أن شروط المنافسة الديمقراطية لم تكُن متوفرة حسب اعتقادك، إلا أنك تمسّكت إلى آخر لحظة برفضِك الدّعوة إلى مقاطعة الانتخابات، كما فعل غيرك. على أي أسُس بَنيْت هذا الموقف؟
خميس الشماري: سؤال وَجيه. فأنا من خلال مسيرة حياتي السياسية، سيكون من الصّعب علي أن أخالِف قناعاتي وأقبل بفِكرة المقاطعة، لأني سأكون عندها غير صادِق مع نفسي. نعم هناك مَن قال بأن اللّعبة مغشوشة، لكن ذلك من وِجهة نظري لا يمنَع من خَوْض معركة سياسية، ولاسيما بالنسبة للانتخابات الرئاسية. المقاطعة النشيطة، التي دعا إليها بالخصوص السيد حمة الهمامي باسم حزب العمال الشيوعي التونسي، تستوجِب ميزان قِوى مغايِر لِما هو سائد، إلى جانب شروط أخرى، وفي مقدِّمتها التحرّك الميداني. ويُمكن لهذا الحزب أن يعتبِر - بعد الأخطاء التي ارتكبتْها السلطة والمحاولات التي قام بها - أنه قد مارَس المقاطعة النشيطة، لكن هل ينطبِق ذلك على بقِية الأطراف التي تبنّت تلك الدّعوة، مثل السيد راشد الغنوشي أو مقاطعة آخر لحظة للحزب الديمقراطي التقدّمي. أنا لا أعتقِد ذلك.
جرت العادة أن تُحمِّل المعارضة السلطة مسؤولية ضعفها وفشَلها في تحقيق أهدافها، لكن من وِجهة نظرك، ما هو حجم مسؤولية المعارضة عمّا آل إليه وضعها؟
خميس الشماري: للأسف، ضاعت مرّة أخرى فرصة لتغيير أسلوب إدارة الحياة السياسية. وأنا أعتقد بأن تونس تستحقّ أن تُنظَّم فيها انتخابات تختلف عمّا حدث. لكن مع الأخذ بعيْن الاعتبار هذا الارتباط العُضوي بين الحزب والدولة والإدارة، لا يُمكن أن ننكِر أن المعارضة تتحمّل قِسطا من المسؤولية. جزءٌ منها مُلقاة على ما يُسمّى بأحزاب المُوالاة، التي تُشبه أحزاب البلدان الاشتراكية قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. وللتذكير فقط، كان يوجد في بولونيا 14 حزبا معارضا، منه 11 حزبا مرتبطا بالاستعلامات. أما في ألمانيا الشرقية، فقد كان عددها إحدى عشر حزبا.
لكن ما يميِّز أحزاب المُوالاة في تونس، أن بعضها خرج من صُلب المعارضة الديمقراطية، وبالتالي، لا يمكن حصْر التطوّرات التي حصلت في صُلب هذه الأحزاب في الأخطاء الفردية، وهو ما يجعلني أطرح جُملة من الاحتمالات لتفسير ما حصل. مثلا لعلّ الاعتدال الذي تميّز به السلوك السياسي لرجل أحترمه كثيرا، وهو السيد أحمد المستيري، كان موقِفا خاطئا! أو لعلّ رفضنا لصيغة الجَبهة الوطنية التي طرحت عام 1989، يوم كنت أنتمي لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، لم يكن موقِفا صائبا بعد أن قبلت أطراف عديدة بذلك، ومن بينهم الإسلاميين الذين رضَوا بثلاثة أو أربعة مقاعِد، ثم تراجع الجميع بعد أن قرّرنا رفض العرض الذي قدّم!
ولعل السبب يعود إلى أقدم من ذلك، وتحديدا صبيحة يوم السابع من نوفمبر، عندما كُنا نتحاوَر حول نصّ البيان الذي ستصدره حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، وكان هناك من يدعو إلى تأييدٍ مُطلق، في حين كان مِنّا من يقترح شيئا أقلّ اندفاعا. ويجب أن أذكر في هذا السياق بأن الحزب الدستوري لم يكُن مذكورا في نصّ بيان السابع من نوفمبر، ثم تمّ إلحاقه في المساء ضِمن التشكيلة الوزارية. فماذا سيكون الوضع لو نزَلَت القِوى السياسية يومَها إلى الشارع ورفَعت الشعار التالي "نعم للتّغيير لا للحزب الواحد"؟ أم لعلّ الشّبح المُخيف الذي أطل علينا من الجزائر عام 91 وجعل الكثيرين وأنا منهم يقبلون صِيغة القانون الانتخابي المغشوش الذي نُظِّمت على أساسه انتخابات 94، لعل ذلك لم يكن اختيارا سليما؟ هذه الاحتمالات وغيرها تجعلُني اليوم أقول بأن وضْع أحزاب المُوالاة، جاء نتيجة إفرازات لجِيل كامل. كذلك الشأن بالنسبة للمَسارات التي شهِدها اليسار التونسي، وبالذّات مجموعات أقصى اليسار. فحين ألاحِظ بأن مِن مؤسِّسي تيار الوطد، جماعة حزب العمل الوطني الديمقراطي قد اعتبروا في الفترة الأخيرة أن حركة التجديد كان عليها أن تخفِّف مِن "حِدّة خِطابها السياسي"، في حين أن هذا الحزب قد سبق له أن اعتبَر في أواخر السبعينات أن مجرّد الانتماء إلى الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، انحرافا. لقد توفّ
رت للمعارضة فُرصة زمانية استمرّت من 1980 إلى 1990، لكنها خلَت من وجود خطّة إستراتيجية وسادت مُمارساتها العَفوية والنّزوات الفرْدية، ولم يتِم اللّجوء خلالها إلى إقامة جبهة لتخويف السلطة والضَّغط عليها. أما بالنسبة للمعارضة الجِدية، فإن ظروف القمْع التي واجهتها حَرَمتها مِن أن تكون فاعِلة، لكن حُبّ النفس زاد من إضعافها وتشتُّتها، إضافة إلى التورّط في صراعات هامِشية أو خاطئة، وأشير بالخصوص إلى التيار الاستِئصالي الذي تسبّب في إحداث شرْخٍ في صفوف المعارضة الجدية، لمجرّد قِيام جزءٍ منها بإجراء حِوار سياسي وفِكري مع الإسلاميين، وهو أمر استغلّته السلطة بشكل واضح. لكن مع أهمِية هذه العوامل، فإنه لا يجوز مُقارنة مسؤولية المعارضة بمسؤولية السلطة، التي تعمّدت كسْر أي نَواة لقيام تعدُّدية مرتكِزة على عمَل مؤسّساتي قابل للنمُو والتطور.
طيب في ضوء ذلك، هل تعتقِد بأن المعارضة سيكون لها دور - ولو محدودا - في التطورات القادمة التي ستشهدُها تونس؟
س الشماري: المشهد السياسي، مثله مثل الطبيعة، يرفُض الفراغ. وفي هذا السياق، أريد العودة إلى تجربة أوروبا الشرقية. فالمعارضة هناك لم تختَر العمل المسلّح، مثلما فعلت المعارضة في أمريكا اللاّتينية، ولهذا، المطلوب من المعارضة التونسية أن تبتكِر أساليب متجدّدة تتجاوز البلاغات واللقاءات، دون التورّط في أسلوب المغامَرة، مثل الدعوة إلى الانتفاضة المُستمرّة. وقد سبق لي أن قُلت لمنصف المرزوقي بأن بعض ما يطرحه من أفكار، هي حق، ولكن يخشى أن يكون مردودها باطلا. فالمقاومة المدنية لا يمكن تنزيلها في مناخ فاقِد لشروط نجاح، مثل هذا التوجّه. إن المقاومة المدنية شِعار هامّ وتصوّر إيجابي، لكنه يبقى مرهُونا بِما تضعه فيه من مضمون، حتى لا يسقُط في المُغامرة. القضية في بعض وجوهِها، قضية أجيال. لقد نجحنا في بعض الجوانب، مثل تأسيس حركة 18 أكتوبر وإدارة الحوار مع حركة النهضة، وتمكّنا بفضل ذلك من إصدار ثلاث نصوص، أعتبرها تشكِّل مرجعية هامة، لكننا في المقابل، فشلنا في إيجاد صِيغ نِضالية هامة، لكننا في المقابل، فشلنا في إيجاد صِيغ نِضالية وأشكال تدخّل ميْداني متجدّدة وناجعة، ولا يعود ذلك فقط إلى قيام السلطة بمنع اجتماعاتنا وإفشال تحركاتنا، وإنما لأن ابتكار هذه الوسائل مهمّة مطروحة على جِيل غير جيلنا. نحن في حاجة إلى تركيبة مُختلفة تجمَع بين الجُرأة والحِكمة، حتى لا تؤدِّي الشجاعة إلى التهوُّر والانزِلاق، أي هناك قطيعة قائمة بين المعارضة الجدِّية وجِيل الشباب الموزّع بين اللاّمبالاة و"الحرقان" أو هؤلاء الذين يُعدّون بالمئات اتُّهموا بالإرهاب دون دليل. أما الذين يؤمنون بالتغيير الديمقراطي من الشباب التونسي، فعددهم لا يتجاوز 1% في أحسن التقديرات.
عُرفت منذ شبابك بمعارضتك المستمرّة للسلطة، وقد عِشت تجربةً قصيرة نسجت خلالها علاقة مفتوحة وإيجابية مع النظام، لكنك عُدت بسرعة إلى موقِف المعارض. ما هي أهمّ الاستخلاصات من هذه التجربة الطويلة؟
خميس الشماري: بدأت علاقتي بالسياسة من خلال اعتِناقي للأفكار الشيوعية، لكن سُرعان ما اتّضحت لي عُيوب الستالينية. فأحداث المجَر (هنغاريا) عام 56، ثم تقرير غورباتشوف وما حدث في براغ، كلّها وقائع بيّنت حقيقة هذا النظام الاشتراكي المنشود. صحيح كان موقِفنا من نظام الحزب الواحد ومن بورقيبة تحديدا، موقفا مُعارضا، حيث لم يتركوا لنا اختيارا آخر. وتحظرني في هذا السياق، شخصية غير سياسية، لكنها تتمتّع بحدَس قوي، وأقصد به هشام جعيط، الذي نشَر مقالا في تلك المرحلة بمجلّة "جون أفريك" تحت عنوان "الوصوليون قد وصلوا". صحيح كُنا نتمتّع بجُرأة الشباب وحماسته، لكن الماسكين بالسّلطة جعَلوا منا مُعارضين بالضرورة. وأتذكر يوم استقبلني سي أحمد المستيري في إحدى أيام سنة 1968، عندما كان وزيرا للدفاع، وكنتُ أنا في مرحلة التّجنيد العسكري، ودامت الجلسة معه ساعتيْن ورُبع، حاول خلالها أن يُقنعني بالبحث عن حلٍّ لمشكلة اتِّحاد الطلبة وبضرورة بناء علاقة حوارية مع النظام. وقال لي خلال ذلك اللقاء "أستطيع أن أضمن لك بأن التوصل إلى حلّ مع الحزب والدولة، أمر ممكن". وقد فكرت جيِّدا في ذلك العرض بعد انتهاء مدّة التجنيد وحاورت بعض الأصدقاء في الجامعة، لكن بعد عشرة أيام من خروجي، قامت اللجنة المركزية للحزب الحاكم بإقصاء أحمد المستيري، الذي كان واثقا من نفسه. قبل ذلك التاريخ، وعندما تمّ يوم 12 مايو 64 تأميم أراضي ومُمتلكات المستعمرين الفرنسيين، طرح البعض منّا فكرة التسلل إلى أجهِزة الدولة لمحاولة دفع المسار نحو الاشتراكية من خلال تسيير أراضي الدولة، وبهذه الفكرة، ترسّخ منهج الدّخول في صفوف الحزب الحاكِم ومُحاولة تغييره من التدخل، وهو المنهج الذي اعتمده الترتسكيون، بالخصوص في الكثير من تجاربهم نظرا لِما تعرّضوا له من اضطهاد مزدوج، سواء من قبل الأنظمة الرأسمالية أو من قبل الأحزاب الشيوعية، لكن عندما تم اعتقالنا بتاريخ 21 مارس عام 1968، كتب السيد أحمد بن صالح افتتاحية تحت عنوان "خيانة المتعلمين "، بمن فيهم الذين دعموا التوجه الاشتراكي. هذا يعني أن فرصا عديدة قد توفرت لبناء تفاهم مع النظام. حصل ذلك في مناسبات كثيرة مثل 65 و67 و68 و70، كذلك مؤتمر "قربة| لاتحاد الطلبة عام 71 ثم 72. كل هذه التواريخ شهدت محاولات لتعامل إيجابي مع النظام، لكنها فشلت. ثم جاءت مرحلة ما بعد التغيير، ومعه أنجز (الميثاق الوطني) الذي سُرعان ما وضع في الأدراج. بعد ذلك، جاءت المحاولة التي ساهَمْت فيها شخصيا، لكنني أقِر بأنها كانت سلبية، وأقصد بها محاولة تفعيل فكرة التعددية من فوق، بعد أن عجزنا على إنجازها من تحت، وكذلك خوفا من شبح الإسلاميين الذي ظهر من جهة مع القائمات البنفسجية خلال الانتخابات التشريعية لسنة 89، وبعدها جاءت تجربة الإنقاذ بالجزائر من جهة أخرى. وقد فشلت أيضا تلك المحاولة. هذه الأمثلة وغيرها تدل على أنني لم أختر أسلوب المعارضة الآلية، لكن بالرغم من تواتر فشل كل هذه المحاولات وغيرها، فإنني لا أشعر بالاحباط. نعم ارتكبت أخطاء، لكني رفضت الانسياق وراء التيار الماوي، لأن ذلك لا ينسجم مع تصوري لأسلوب التغيير. المؤكد أنني طيلة هذه المسيرة، بقيت معارضا للحكم الفردي والقمع والتعذيب ونظام الحزب الواحد، هذه الاستمراية تجعلني مرتاح الضمير. صحيح كانت طموحاتنا أكبر، وكان القمع شديدا أحيانا، لكن أخطاءنا كانت كثيرة، مثل الانزلاقات الأيديلوجية والحسابات الخاطئة والتمسك بمواقف باطلة. كانت مرجعياتي في تلك الظروف كاسترو في بدايته وفرانس فانون ومحمد حربي بجبهة التحرير الجزائرية، وعبد الناصر في خطاب تأميم قناة السويس وضحتكه التي أطلقها في تلك اللحظة والمعبرة عن شحنة التحدّي، والمهدي بن بركة، كل هذه الرموز تشكل المنظومة المرجعية لدي. وباستثناء ما آلت إليه التجربة الكوبية، فإنني ما زلت متشبّثا بهذه المرجعية، كما أعلن بأنني في ضوء ذلك كله، متمسك باختياري الإصلاحي المتجذر. وهو اختيار ليس سهلا.
عبّرت في تصريحاتك الأخيرة عن تخوّفك من الطريقة التي ينتهِجها النظام أو شق من داخله لإعادة الاعتبار للمسألة الدينية. ما هو الخطر الذي رأيته في هذا المسار الذي يبدو طبيعيا، خاصة وأنه جاء في أعقاب تجربة تصادمية فاشلة خلطت بين الصراع مع الإسلاميين وبين الظاهرة الدينية؟
خميس الشماري: يبدو أنه قد حصل سوء فهم للموقف الذي عبّرت عنه. لم أقصد في تصريحاتي تلك، إبراز خطر ما، وإنما أردت أن ألفت الانتباه إلى مسألة أعتبرها هامة. لقد قامت السلطة ولمدّة سنوات، بشيْطنة حركة النهضة، رغم أن هذه الأخيرة تُعتبر حركة معتدلة مقارنة بغيرها من الحركات الإسلامية في المنطقة، وأصبَحت مستعدّة لقبول لُعبة المؤسسات، مما يجلعني أعتبِر خطاب النهضة اليوم، بعد كل التطورات التي حصلت، من أكثر الخطابات اعتدالا في العالم العربي والإسلامي. ورغم هذا التطور، فإن النظام واجه أصحاب هذه التَجربة بالحديد والنار، وجعل من هذه الحركة غولا وشيطانا. اليوم، وبعد كل ذلك، يأتي نفس النظام ليتبَنّى خطابا مُختلفا على الصعيد الدِّيني، بهدف محاولة التمسك باحتكار السلطة من قِبل الحزب الواحد، في حين أن التطورات التي حصلت في هذا المجال، تقتضي الشروع في ترسيخ تعدّدية فعلية وليست شكلية تسمح بوجود تيار إسلامي نيِّر أو معتدل. أنا لست ضدّ أي صَحوة إسلامية، بل على العكس، أقدَِّر وأحترم الشعور الشعبي بالانتماء، لكنني أرفض أن يوظف هذا الشعور في اتجاه أكثر محافظة، كما أرفض بشكل موازي أن تُستغل هذه الصحوة لمواصلة تجربة الحزب الواحد. أعتقد بأن الخروج من بوتقة الحزب الواحد لن يحل كل المشاكل، لكنه بالتأكيد سينقلنا إلى أجواء مختلفة تجعل مطالب الإصلاح السياسي قابلة للتبلوُر والتجسيد تدريجيا، إذا أنني أريد أن أكشف ازدواجية لغة النظام وخطابه.
ولا ننسى أن السلطة تعتمد في دعايتها البدائية المستمرة على توظيف ثلاث مسائل وهي: الاستقرار الاقتصادي النِّسبي، الذي لا ننكر وجود بعض مظاهره، لكن دون أن يخفي الصعوبات والمشكلات القائمة. وثانيا ملف المرأة والمساواة، حيث توظيف سياسي مكثف للمكاسب التي تحققت لها بشكل حوّله إلى خطاب غير منتج. وثالثا، استعمال ما يسمّى بالحصانة ضد الإسلام السياسي. إن استعمال قضايا الهُوية من قبل السلطة، دليل على فشل سياساتها الاستئصالية، إذ يجب أن نأخذ في الحُسبان هذا البُعد الديني المكوّن للشخصية الوطنية، واعتبار ذلك أمرا مشروعا، يجب أن ننتبه في المقابل إلى وجوب أن يؤدّي ذلك إلى دعم التنوّع الفكري وقِيم التسامح بين مكوِّنات المجتمع التونسي.
هل تستبعد حصول تحالف أو على الأقل تقاطُع بين حركة النهضة وبين السلطة، إذا ما ذهبت بعيدا في اهتمامها بالبُعد الديني، وما هي انعكاسات ذلك حسب تقديرك؟
خميس الشماري: أنت تعلَم حجم الصعوبات التي تواجِهها حركة النهضة بعد سنوات القمع والجفاف السياسي، كما تعلم الجهود التي بذلناها لتذويب الجليد مع هذه الحركة بالذات، ومع ذلك، لا أستبعد أي احتمال في المجال السياسي القابل باستمرار للتطور، لكن الوسائل التي استعملتها السلطة لاختراق هياكل حركة النهضة وشبكاتها والضريبة القاسية التي دفعها أنصارها، لا تنبِّئ بخير. والذين نفَّذوا هذه الخطة وحاولوا أن يلعبوا أدوارا غير واضحة في الفترة الأخيرة، لا يفعلون ذلك من أجل تطوير الأوضاع وتحسينها، وإنما هُم ينفذون خطة ذات طابع أمني. كما أن المقارنة بين الميثاق الوطني والميثاق اللاّئكي، الذي وضعه أتاتورك وفرضه الجيش، مقارنة في غير محلها. وشخصيا، أعتقد بأن ما حدث في تركيا يشكل سابقة هامة تحتاج لمزيد من الرصد والتحليل. المؤكد عندي، هو أن بوْصلتي تتّجه دائما نحو رفض الاحتكار الدِّيني، باعتباره أداة لدعم الاحتكار السياسي وعرقلة روح وفكرة الإصلاح السياسي، الذي لا مناص منه. فهو رِهان يجب أن يتحقق، لأن البديل عنه سيكون بالضرورة مزيدا من الاستبداد.
أجرى الحوار صلاح الدين الجورشي - تونس - swissinfo.ch


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.