في خطوة فاجأت ساكنة دار الإسلام حذّر المجمع الفقهي الإسلاميّ في دورته الحادية والعشرين من استفحال بوادر الإلحاد في بعض المجتمعات الإسلاميّة، ومن تنامي نزعات ازدراء الأديان والدعوات إلى التغريب والزيغ عن ثوابت الأمّة عبر شعارات مشبوهة كالديمقراطيّة والمدنيّة ناهيك بالعلمانيّة !
وكان بيان للمجمع الفقهي الإسلاميّ قد تنبّه منذ أيّام إلى هذه الداهية فخصّها ببيان يحذّر من تزايد «بوادر الإلحاد والتشكيك في الدين والتطاول على الله» بالدول الإسلامية، داعيا الحكومات إلى «التصدي لبوادر الإلحاد والوقوف أمام ذرائعه» مع ضرورة إحالة «المشكّكين» في المقدّسات إلى القضاء الشرعيّ للحكم عليهم.
والحقّ أنّ هذا البيان الأوّل (!!) لا يجافي، فقط، حركة التاريخ والمجتمعات وهي تنشد عالما أرحب سمّاه البعض ربيعا عربيّا بل هو يلزم ذات النوازل المفتعلة والمشبوهة منذ عهد ليس بالقريب، مستمرّ في اختلاق نوازل تسهم في مزيد التضليل عن قضايا الناس الحقيقيّة. لم يذهل المجمع عن تنفيذ أجندة مهندسيه في إدانة النظام السوريّ وحشد التأييد الدولي لل«ثوّار» ، وعن التذكير بأنّ زواج القاصرات مسألة لا تعني نشطاء حقوق الإنسان والأطفال ولكنّها مسألة يبتّ فيها «الفقيه» بالأساس مع الاستئناس برأي الطبيب الذي يؤشّر على مدى احتمال الطفلات القاصرات للوطء من عدمه. ولا ينسى المجمع أنْ يساند علماء بنغلاديش ضدّ «تحدّيات العلمانيّة التي تحارب القيم الإسلاميّة..»
ما يذهل عنه شيوخ الدين المجتمعون في مكّة المكرّمة أنّ ما يتهدّد مجتمعاتنا وبلداننا ليس الإيمان والإلحاد، ولكنّه الاستبداد والفساد. وما يتناساه قصدا هؤلاء المجتمعون أنّ الممالك تبقى مع الكفر ولا تبقى مع الظلم كما جاء في الأثر.
إنّ افتعال نوازل لا تراها إلاّ مراصد المجمع الفقهي ونظرائه من المجامع وروابط فقهاء السلاطين كنازلة الإلحاد هو خير دليل على الدور التضليليّ والنكوصيّ الذي يقوم به سدنة «إسلام البترول» في الالتفاف على احتمالات «الربيع العربيّ»، وعلى مطالب الشعوب العربيّة والإسلاميّة وأشواقها إلى الحرّية والكرامة والعدل والتقدّم.. ولقد بات من الواضح اليوم أنّ «إسلام البترول» الذي يدعم ويساند التيّارات السلفيّة والدينيّة المتعصّبة ليس من مصلحته أنْ تستتبّ الديمقراطيّة في دول المنطقة..
للعلم وعلى سبيل التذكير فقط، كانت الثورة الإيرانيّة التي استحالت إسلاميّة قد شنّت حربا أنموذجيّة على ضمائر الناس وحرّياتهم فبادرت إلى إغلاق المدارس لعامين وتسريح آلاف المدرّسين ريثما يقع إعداد مناهج إسلاميّة يضطلع بها مدرّسون موالون لل«مشروع».. وحرصا على الفضيلة أوقفت البعثات إلى الخارج وطبّقت منع الاختلاط بحزم وأعدّت ميليشيات لفرض السلوك «الإسلاميّ»، ومنعت السفور، وتكفّل حرّاس الفضيلة بجلد كلّ امرأة تسيء ارتداء حجابها 75 جلدة أو حبسها ل15 يوما. وفُرض على نساء إيران اللون الأسود حدادا على الأئمّة الأطهار. وتمّت «أسلمة» الإعلام، وحظرت الصحافة الأجنبيّة وحظر استيراد الأفلام.. فماذا كانت النتيجة؟ اندثرت أو تكاد أسماء شيعيّة أصيلة كعليّ والحسين بين المواليد الجدد منذ التسعينات في مقابل صعود كبير لأسماء وثنيّة قديمة كداريوش وأراش، ممّا حمل الحكومة على سنّ قوانين لمحاربة الأسماء غير الإسلاميّة. وصار الإيرانيّون يتحدّثون همسا عن ترك متزايد لشعائر الإسلام، ومنها ظاهرة الجوامع المهجورة.. وكشف نائب رئيس بلدية طهران حجّة الإسلام علي زم أنّ 75 في المائة من الشعب و88 في المائة من الطلبة تركوا الصلاة حتّى اضطُرّت الجمهوريّة الإسلاميّة أمام هذا الترك الجماعيّ ل«عماد الدين» إلى تخصيص شهر أكتوبر من كلّ عام للحثّ على الصلاة!!
واعترف الرئيس خاتمي في نهاية ولايته للسفير الألماني بأنّ نسبة من يصومون بحسب «مراصد» حرس الفضيلة وصلت إلى 2 في المائة بعد أنْ كانت في عهد الشاه 80 في المائة..
على أنّ المفاجأة كانت التحقيق الذي أجرته منذ ثلاث سنوات الأسبوعيّة الفرنسيّة «ماريان» عن الثورة الإسلاميّة في إيران. وقد عنونته ب«إيران: 30 سنة من الثورة = 30 بالمائة من الملحدين !» وغنيّ عن القول كيف تصل نسبة الملحدين في مجتمع إسلاميّ شبه تقليدي إلى 30 في المائة فيما 25 في المائة فقط من الأوروبّيّين يقولون أنْ لا دين لهم، و6 في المائة فقط يصرّحون أنّهم ملحدون مقتنعون !
المقدّمات ذاتها لا تقود إلاّ إلى النتائج عينها. والمفاجأة الإيرانيّة يمكن أن تتوقّعها في سائر البلاد الإسلاميّة نتيجة محاكم التفتيش التي يقيمها سدنة الدين للمواطنين والمفكّرين والمثقفين والفنّانين، فهذه سياسة إنْ لم تؤدّ إلى النفور من الدين القويم فهي تقود إلى النفاق والتظاهر بعكس ما تخفي الضمائر.
متى تكون للمجامع الفقهيّة الإسلاميّة جرأة المجمع الفاتيكاني الثاني وخاصّة في بيانيْه الشهيريْن حول الحرّية الدينيّة المعروف ب Dignitatis Humanæ وعلاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحيّة Nostra Aetate (في عصرنا)؟ [email protected]