ليس للمتابع إلا أن يمتدح المدونة التي حققت اختراقا هاما في مجال تقصي عورات السياسيين وبالأخص منهم رجال السلطة وعملت بجهد ملحوظ أن تبحث عن مؤيدات إدارية ومالية وأخلاقية ترفد جهدها.
تجاوزت ألفة الرياحي ما هو معهود في واقعنا الإعلامي والاتصالي وأقامت الحجة على أنه بالإمكان تحريك المياه الراكدة والغوص بعيدا في الاستقصاء والمضي قدما في إنارة الرأي العام حول حقيقة ما يدور في البلاد وكشف الألاعيب والمناورات وما يجري في الكواليس بعيدا عن الأضواء والأنظار أيضاً ، دون أن ننسى أمرين على غاية الأهمية : الأمر الأول هو أن تكون المدونة «ضحية» عملية تلاعب وتوظيف متقنة، وأن تكون الملفات المقدمة لها محاولة للزج بها في معركة لا تهدف لكشف الحقيقة وإنما للإساءة لوزير الخارجية ، وهو ما يفسر التحول من موضوع إلى موضوع، من الخيانة الزوجية إلى هدر المال العام ، إلى الهبة الصينية...
الأمر الثاني ويرتبط بمنهج الإعلام الاستقصائي، وشموليته وتجنيبه الانتقائيّة والاستهداف وسياسة الكيل بمكيالين، فهل من المعقول مثلا أن ندين رفيق بن عبد السلام من أجل 4 ليال في الشيراتون والحال أن سلفه قضى 60 ليلة في نفس النزل ومن المال العام؟.
اعتذار ثمّ ماذا؟
وهو ما يُفسّر أيضا تمسّك ممثلي حركة النهضة بطرح الملف في الاجتماع الأخير لتنسيقيّة الترويكا أوّل أمس بما فُهم منهُ توجيه ما يُشبه الإدانة أو اللوم أو شُبهة تورّط أسماء من أحد الحليفين في اللعبة التي استهدفت الوزير عبد السلام. هذا دون أن نعود إلى الاعتذار الّذي تقدّمت به المدوّنة لقريبة وزير الخارجيّة في أنّها لم تُقدّر جيّدا عواقب ما أكّدته في بداية السجال من جزم وقطع بوجود خيانة زوجيّة ، إن ثبُتت كانت تُعتبر حبل مشنقة لإنهاء لا فقط الحياة السياسيّة بل الحياة الإجتماعيّة لرجل دخل عوالم الدولة من الباب الكبير (وزارة الخارجيّة) وصاهر أبرز الشخصيات السياسيّة الفاعلة والمؤثّرة والتي تلقى ولا تزال احتراما وتقديرا دوليّا وإقليميّا لافت.
ودونما نظر إلى ما سينتهي إليه مسلسل إدانة السيد وزير الخارجية، فمن الحري أن نُسجل القدرة الكبيرة التي أظهرها رفيق بن عبد السلام في الدفاع عن نفسه وبهدوء ودون إثارة زوابع، ويبدو أنها أحرجت الترويكا نظرا للشكوك حول وقوف حزب المؤتمر وراء تسريب الوثائق، والحكومة التي أصدرت بيانا مساء السبت وصفه المتابعون « بالمتأخر» و«الخجول»، وحتى حركة النهضة التي لم يصدر عنها أي «موقف رسمي» ، إلا بداية الأسبوع الحالي، طبعا عدا كلام الأستاذ راشد الغنوشي في خطبة الجمعة المنقضية عن «حادثة الإفك»، وما كتبه رئيس المكتب السياسي والإعلامي عامر لعريض في صفحته على الفايسبوك من إدانة للحملة على الوزير.
سياقات متداخلة وتساؤلات
ومن المفيد أيضا البحث في السياقات التي تم خلالها تسريب ذلك الكم من المستندات والوثائق، بقطع النظر عن قيمته وجديته، ذلك أنه من المؤكد أنّ أطرافا أو أياد خفية نشطت بحيوية عالية لتقديم العون وتسرب الفواتير والمراسلات والهويات سواء في وزارتي المالية والخارجية أو نزل الشيراتون، تلك السياقات تميزت أساسا ب: حالة الشد والجذب داخل الترويكا بعد رفض المصادقة على ميزانية رئاسة الجمهورية ، وتسرب أخبار عن «الرحلة الرئاسية لأمريكا» ورحلة أحد كتّاب الدولة إلى واشنطن لا تُبشر بخير في خصوص التصرف الرشيد في المال العام ، وفشل حزب التكتّل في إيصال مرشّحه عبد اللطيف عبيد إلى الأمانة العام للألكسو وهو فشل كان معلوما ومؤكّدا حتّى قبل خوض غمار المنافسة الإنتخابيّة والتوجّه لإقصاء المرشّح الأفضل الدكتور محمّد العزيز بن عاشور.
ارتفاع الحرارة بين السلطة والمعارضة والتي بلغت مؤخراً حالة صدامية وعنيفة على غرار ما حدث للرئيسين المرزوقي وبن جعفر في سيدي بوزيد أو ما لحق حزب نداء تونس من اعتداءات في جربة وما رافق كل ذلك من اتهامات واتهامات مضادة. تواصل المشاورات والمفاوضات بشأن التحوير الوزاري وما توسط ذلك من تكتيكات ومناورات حتى داخل الترويكا نفسها ناهيك عن سائر أطياف المعارضة وخاصة الفاعلة منها على غرار الحزب الجمهوري والمسار الاجتماعي الديمقراطي وحركة وفاء وحزب نداء تونس ، هذا التحوير الّذي قد يقلب واقع التحالفات والعلاقات السياسيّة وصورة الخارطة السياسيّة رأسا على عقب في ظل تقارب الجمهوري مع «النهضة» وتباعده عن «نداء تونس».
فتح العديد من ملفات الفساد وإخضاع العديد من الوجوه والرموز للمساءلة ورغبة بعض الأطراف في إدانة حكومة الثورة بسوء التصرف لجرها لإغلاق الملف من باب المماثلة في إلحاق الضرر بالمال العام. مواصلة خطّة استهداف زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، وهو مسار بدأ يتكشّف شيئا فشيئا لرمزيّة الرجل والدور الّذي يضطلعُ به سواء في تثبيت وحدة حركة النهضة أو من أجل تواصل تجربة الترويكا الحاكمة والحرص على توسيع الوفاق الوطني وانجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس كنموذج لما يجري في المنطقة.
طبخة جيّدة أم احتراق؟
في المحصلة لم تكن التسريبات عفوية او مجانية بل كانت «طبخة» في غاية الدقة، ولكن يبدو أنّ حرارة الفرن كانت أكثر من اللازم. ليبقى السؤال المطروح، من سيحترق « الطباخ» الذي قد يكون فشل في إخفاء نفسه، أم المدونة التي قد تكون أقحمت في موضوع لا تتحكم في كل تفاصيله، أم الوزير الذي يدفع فاتورة باهظة لعدم إمساكه بكل خيوط اللعبة في وزارته أو استسهاله لمنطق الدولة والحكم، أم الاسم العالمي لشيراتون الذي لم يلتزم بحماية أسرار حرفائه أو البعض من موظفي الدولة في الخارجية وخاصة المالية في أعقاب ما لوّح به أمس كاتب الدولة للمالية من فتح تحقيق إداري في تسريب مراسلات ووثائق إداريّة ، أم هيبة الدولة وحرمة مؤسساتها ومصداقية تونس التي تضررت دون ريب مع دولة في حجم الصين ؟ ، موضوع للمتابعة وربما الفرجة المثيرة.