سوف يجيب الأستاذ مصطفى الفيلالي عن السؤال الذي ضمنه الجزء الذي سبق، ليبرهن أن السلفية نشأت في أحضان السياسة ولم تنشأ في مجال العقيدة... ولسوف يتناول في هذا الجزء تعريف الخوارج وما مثلته هذه «الفرقة» في المشهد الفكري والفلسفة الكلامية الاسلامية...كما يتناول في هذا الجزء فصلا آخر اتخذ له الفيلالي عنوانا «السلفية الاجتهادية ومذهب القدرية» ليبين عبر المعطيات التاريخية الفكرية والسياسية أنه «رأي ديني وحزب سياسي في آن واحد». في الحلقة القادمة يتناول صاحب المقال إلى اعلام في الفكر الاسلامي من أقطاب القدرية مثل غيلان الدمشقي والحسن البصري... الفصل الرابع: البيئة الفكرية يجوز القول من قراءة تاريخ الفترة الأموية أن السلفية نشأت في أحضان السياسة، ولم تنشأ في مجال العقيدة، و أن الفرق السلفية شكلت أحزاب معارضة في وجه العصبيات الحاكمة أو المتنافسة على الحكم.
وقد كانت قضية الإمامة أول يوم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم، محل التنازع بين الأنصار و المهاجرين في سقيفة بني ساعدة، وظلت محور الجدل وسبب الافتراق و الفتنة بين المسلمين، دون قضايا الدين، يرى الشهرستاني (479-548 ه) في كتاب الملل و النحل (ج1-31) «ما سلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان».
ولقد عمدت الفرق الإسلامية دوما إلى تلبيس السياسة بالدين، واتخذت احكام تطبيق الشريعة أقنعة حاجبة للمقاصد السياسية، ورفعت شعار «إن الحكم لله» و أن قرارات الحاكمين هي من قرارات المولى تعالى. وقال بعضهم بالجبرية، فما يأتيه الحاكم من ظلم أو منكر، إنما هو بمشيئة الخالق، في حين أن المعارضين للحكم يحمّلون الحاكم تبعة أفعاله، عدلا أو ظلما، ويحملون المكلف مسؤولية أفعاله كما يقول القدريون، وينفون قصد الظلم عن الخالق، كما سيذهب إليه المعتزلون.
الخوارج :
وتمثل الشرخ في الفلسفة الكلامية بين الفريقين الجبرية و القدرية في قيام أحزاب معارضة سياسية أشدها شوكة في جنب بني أمية فرقة الخوارج، وقد شهرت الحرب على الدولة واستولت جيوشهم على شطر عريض من ديار الإسلام، في بلاد فارس و اليمامة و الطائف وهددوا البصرة. وخالفوا بني أمية و أنصارهم من الشيعة القائلين بحصر الخلافة في آل البيت، ورأوا بأنها تكون باختيار المسلمين و لا تنحصر في قريش ولا يحق للإمام إذا تم اختياره أن يتنازل أو يقبل التحكيم.
أهم ما يميز الخوارج في أغلب فروعها كالإباضية و الوهابية والأزارقة التشدد في العبادة وتكفير المتهاونين في أداء المناسك، القانعين من الإيمان بالإقرار الباطني دون العمل بالطاعات ودعاهم إلى التشدد إلى أن طلبوا من عمر بن عبد العزيز المعروف بالورع و التقوى أن يتبرأ من أسلافه ويأذن بلعنهم على المنابر، وبمصادرة أموالهم المنهوبة فأبى عليهم ذلك، إلا ما كان من أمر المتاع المسروق، ولعل الذي بقي من أثر لهذه الفرقة العمل على استحداث نمط مجتمعي منطقه التشدد في التزام قواعد الدين، والصرامة مع المتهاونين إلى حد استباحة العنف والقتل، والميل إلى القول بالجبرية في التكليف.
فتكوّن من ذلك بيئة فكرية مؤاتية لعطالة الاجتهاد وللزهد في تأويل الآيات المتشابهات ولمنطق الصرامة في علاقة المؤمن بالدين ولاستباحة العنف في الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
وقام الفكر السياسي، تبعا لذلك على الانغلاق وحصر تأويل الأحكام في مجال الفرق الإمامية و الغفلة عن أن المجال السياسي هو حقل نسبية المصالح في تحولها مع الزمان و المكان، وليس حقل الأصولية المطلقة، وأن معظمها مصالح مرسلة لم يقيدها نص ثابت، وأن التقليد يؤسس لوثنية النماذج ويفضي إلى الكفر والجمود الثقافي.
الفصل الخامس: السلفية الاجتهادية ومذهب القدرية
تتمثل هذه السلفية الاجتهادية في مذهب القدرية، وهو رأي ديني وحزب سياسي في آن واحد، وجهان لعملة واحدة. فهو القائل في باب العقيدة بأن التكليف مناطه العقل و البلوغ، وكلاهما أساس اختيار المكلف لأفعاله. وأن التكليف يسقط حيثما تتعطل وسائل هذا الاختيار عند المعتوه و القاصر و المكره. وترمي القدرية في الحقل السياسي إلى تحميل أمراء بني أمية تبعة أعمالهم وكانوا يتخففون منها على إرادة الخالق، ويجعلون ظلمهم للناس من مشيئته، وهو الذي حرّم على نفسه الظلم قبل أن يحرّمه على عباده و أمسك عن «أن يهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون».
نشأت القدرية كمدرسة فكرية سياسية لها أنصار منبثون في العراق و الحجاز وحتى في دمشق، ممن يعلمهم أمراء بني أمية ويتعاملون معهم باللين و المحاورة تارة وبالتقتيل و القسوة تارة أخرى.