تسألني قارئة لاذعةُ القلبِ واللسان على لسان «جدعان» على لسان كنفاني غسان : « - هل جرّبت مرّة أن تجلس في الصحراء فيأتي الغزال بنفسه إليك، يحك رأسه فوق ذراعك ويمُدّ فمه إلى رقبتك، يدور حولك، ينظرُ إليك بعينيه الواسعتين، ثم يمضي..أجربت ذلك..؟». أجيبها : - أجل لقد جرّبتُ ذلك، غير أنيّ لم أجلس إليه في الصّحراء, ولم يأت إليّ طوعا، بل راودته عن نفسي بحبّات من «رشوة الكلام»، فرأيت في عينه الواسعتين خيال طفل يركض وراء غزال يركض وراء بلاد تختفي وراء حرائق ودخان وعواصف رملية صفراء وقوافل من سيارات رباعية الدفع يترجّل منها دعاة ملتحون يجرّون النعال وعباءات النّفطلين (أو النفط أون لاين ) يسيل لُعابهم المنويّ الفاجر على عتبات زرائب بُنيّاتٍ صغيراتٍ حليبُ أمهاتهن على أبجدية أسنانهن...
(2)
في الجنوب، جنوب البلاد تبكي البنية التي لُبّستْ حجابها الوردي بدموع الجمر فتسبق دموعها إضرام حريق الأغنية «ناري على جرجيس وبناويتا» في أذهان أهل جرجيس الذين لا يحبذون سماع هذه الأغنية التي تذكرهم بتاريخ قاتم حين عمد المستعمر وقد أوعزته الحيلة في الانتقام من الثوار الأحرار إلى التحرش والمسّ من بنات جرجيس، ولأن الاستعمار يظل استعمارا يتبع نفس الطرائق مع تنويع طفيف في الأساليب، ولأن البلاد أصبحت مفتوحة على الفتح الوهابي النفطليني المتواطئ مع أتباعه من الظلاميين الذين صعدوا على حين غرّة من جحورهم بعد الثورة، فإن هذا الغزو الوهابي النجدي حين أعوزته الحيلة في الدخول إلى البلاد، ولأنه لا ينسى قواصف منجنيقات علماء الزيتونة التي أمطرت في القرن التاسع عشر دعوة بن عبد الوهاب وردّته على أعقابه، فإن هذا الغزوبدأ يعتمدُ أسلوبا متوغلا في البذاءة حين بدأ باسم العمل الدّعوي يُطلق حملات - يُسمّيها حملات المليون حافظ للقرآن - يستهدفُ فيها الحلقة الأضعف في المجتمع التونسي وهو حقل الطفولة البريئة والتي يرى في بُنياتها الصغيرات مشاريع سبايا وجواري وغنائم ومشاتل لما ملكت أيمانهم أمام مرأى ومسمع جموع غفيرة من المتأسلمين الذين لم يتخلوا على ذهنية الجاهلية التي ترى في البُنيّةِ الصغيرةِ مشروع عورة لابد من حجبها أو بالأحرى وأدها بلفافات القماش.
(3)
ويدرك هؤلاء الوهابيون وأتباعهم الذين لم يغادروا بعدُ الجاهلية النجدية وإن توغلوا في الاستهلاك التكنولوجي حتىّ لم نعد نراهم، قلتُ يدركُ هؤلاء أن البُنيّة التونسية الصّغيرة هي أيقونة المقاومة لمجتمع مدني متقدم قائم على مجلة أحوال شخصية مذهلة كتبها جيل وطني مجاهد باسم الله وباسم الوطن، مجلة تقض مضاجع البهموت الوهابي الذي يرى في سياقة المرأة للسيارة خروجا عن الطريق السريعة للملة. يدرك هؤلاء الوهابيون أن البنية التونسية بوصفها امرأة تونسية مرتجاة ستبرهن لا محالة للتاريخ – هكذا يريد التاريخ - كجدتها منذ دولة الاستقلال على ذودها على مكتسبات البلاد ومقاومتها الشّرسة لكل مظاهر المهانة والتخلف والظلم في المجتمع، كما يدرك أن هذه البُنيّة هي ذات البُنيّة التونسية التي كبرت وعنونت كتابها «سأحمل السلاح إذا لزم الأمر» من رحم النسغ الإحتجاجي الذي ألقى والدها في السّجن، وهي ذات البُنيّة التي تنزع علم الظلام ذودا عن علم البلاد وهي ذات البُنيّة القادرة على سياقة الطائرات، وهي ذات البُنيّة ذات العينين الواسعتين التي تجعل ما يستحق الحياة على هذه الأرض استحقاقا إلهيا.
(4)
وللأسف فإن هذا الغزو الوهابي قد استسلم إليه بعض هؤلاء المتأسلمين على المذهب الوهابي في تونس حين سلموا بناتهم الصغيرات إلى هذا الوأد الرّمزي على يد الدّاعية الوهابي الكويتي الشيخ المراهق نبيل العوضي استكمالا لدعوة الداعية وجدي غنيم الداعي إلى ختن البنات. إن الحقد على الأنوثة متأصل في هذا الفكر السقيم الذي يرى الشرّ كله مكتنز ومختزل في الأنثى مهما كان سنها حتى وإن كانت رضيعة, حتى وإن كانت عجوزا على حافة القبر، وعلينا أن نذكر الناس بما حدث في الكويت في نوفمبر من العام الماضي 2012 حين عمد الداعي الوهابي فيحان الغامدي إلى قتل ابنته الصغيرة «لمى» التي لم تتجاوز الستة سنوات بسبب أنه شكّ في أمرها وأثبت الأطباء في المشرحة أنها لم تفقد بكارتها. والناظر إلى الصورة التي تناقلتها شبكات التواصل الاجتماعي وقد يتباهى بها أولياء الفتيات الصغيرات في حملة «بشائر الخراب» المقامة على شرف الداعية نبيل العوضي كيف سيقت هذه البُنيّات الصغيرات إلى زريبة هذا الدّجال الواقف بعباءته النفطلينية ولحيته الهوجاء متباهيا كما يقف أسدُ البحر مزهُوّا بين فقماتِه، وللتذكير فإن هذا الرّهط من الدّعاة الوهابيين - وما أكثرهم - لم نسمع لهم في صدق إسلامهم وصحة توحيدهم ما يُشيرُ إلى أنهم دافعوا عن حياض أوطانهم ولا على كرامة حدودهم ودولهم المفتوحة كالرّيع لأسيادهم الأمريكان ينصبون قواعدهم العسكرية ويستبيحون أجواءهم ويدوسون أديم الأرض الذي هم عليها والتي داسها الأنبياء والصّحابة والتابعون اللذين يتشدقون باتباع سننهم. (5)
إن هذا الغزوالوهابي في الحقيقة لا يستهدف بناتنا الصغيرات، ولكنه كان غزوا متواصلا في شكله الرمزي الأكثر قبحا وسفالة منذ سنوات حين ينزل أمراء النعال كل عام في الصحراء التونسية يقيمون معسكراتهم لصيد طير الحبارى الذي هوالآن في طريقه إلى الانقراض بالتواطؤ مع السلط التونسية آنذاك على أساس أن هؤلاء الرهط يدعمون السياحة التونسية. والحال أنهم يخرّبون البيئة الصّحراوية مقابل ما يرمونه من فتاتٍ للأهالي الذين يقومون بخدمتهم، وهؤلاء الأمراء يعتبرون ذلك مجرد ترويح على النفس وفي هذا الترويح يُبيدُون هذا الطائر الجميل يقتلونه بالآلاف من أجل نزْوةٍ شبقية تُعشّشُ في رؤوس هؤلاء العُربان تقول أن قلب طائر الحبارى صالحٌ للباه ومنشّط للشاهية الجنسية مما يجْعلُ طيور الحبارى «فياغرا طائرة» تُقتنص بالسّلاح والطيور الكاسرة. وأذكر أن الكاتب توفيق بن بريك أوّل من كتب في تسعينات القرن الماضي في جريدة «ليبيرسيون» منددا بهذا التخريب الذي يقوم به هؤلاء العربان فناله ما ناله من بوليس بن علي بسبب مقالاته حول هذه الإبادة لطائر الحبارى وتبيّن أن بن علي المخلوع كان يغُضّ الطرف عن هذا التخريب إرضاء لنعال هؤلاء الأمراء السعوديين والأمرُ لا يتوقف عند طائر الحبارى فغزال ريم الصحراء التونسية والمحْمِيّ بوثيقة دولية هوأيضا من ضحايا أمراء النعال، وقد نشِطتْ منذ الثورة ووصول أخوان النهضة إلى الحُكم المواسمُ المفتوحة لإبادة هذا الصنف من الغزال النادر والذي يتمّ صيده من على سيارات رباعية الدفع وبأسلحة حربية يستعملها مرتزقة «البلاك واتر» ، في حين أن هؤلاء السعوديين لا يصيدون أنواع الغزلان من ظباء ومها ورشا وأراو وغيرها من الأنواع على أرض الجزيرة بحكم تحجر السلط السعودية ذلك، ولا غرابة إذا تواصل هذا التخريب في البيئة الصحراوية وينقرض الحبارى وغزال الريم في الصحراء التونسية سيعود هؤلاء الأعراب لقنص الضب واليربوع والفنك وحتى الجعلان إذا ما تبين أن لها فوائد أفروديزايكية.
(6)
هكذا تكتمل الصّورة في بلاغتها المُعمِية بين صور تقتيل طائر الحبارى وغزلان ظباء الرّيم وصورة الوأدِ الرّمزي للبُنيّاتِ الصغيراتِ التونسيات اللواتي يُقَدّمن إلى الداعية الوهابي نبيل العوضي كجزء ظاهر من مجموع الغنيمة الإسلاموية. ودلالات الصورة أنها مؤثثة بانتهاك البراءة وتدنيس المُحرّم ومعاداة الجمال في الأنوثة القائمة في الطفولة الأبدية التي تلتمعُ في عيون البُنيّات والغزلان والحبارى، عيون تُسْرقُ منها الفرحة وتطمس فيها البراءة، وتحجب فيها الأبصار... أتأمل صورة البنيات المتحلفات وراء الداعية الوهابي وقد تَمَّ تحجيبهُن عنوة وأرى في مستقبل الدهر البُنيّات اللاتي اقتيدت لهذا الوهابي حين يصبحن نساء كاملات العقل كيف سينتقمن من آبائهن الذين حرموهن من الطفولة، وأراهن يستردّون ما أخْتُطف منهن وسيتذكرن مليّا بذاءة المتاجرين بالبراءة حين يسمعن أغنية «ناري على جرجيس وغزلانه»... الغزال لا ينسى لذلك تراه يستعذب ملوحة البحر ويستحلي مرارة الحنظل كما يذكر الدميري في حياة الحيوان الكبرى، يلذذ المرارة ليترشف حلاوة الحرية والعزّة... وعن الغزال تذكرت غزال الكعبة الذّهبي المسروق والذي تحوّل في رأيي إلى غزال مقدّس ربما كان شاهدا على بقايا ديانة وثنية عربية كانت تمجد الغزال التي رددت الأدبيات الإسلامية أنه من ماشية الجنة (بن عباس) وأنه من ركوبات الجن، وحين سرق الغزال الذهبي أتهم أبو لهب عم الرسول الأكرم وهرب من قصاص قطع اليد الجاهلي فهرب محتميا بأخواله، ونبّهني الأنثربولوجي العراقي فاضل الربيعي في كتابه الأخير «غزال الكعبة الذهبي» أن سورة المسد المكية تشير في الحقيقة إلى حادثة سرقة الغزال الذهبي فوجب الدعاء في القرآن «تبت يدا أبي لهب وتب...» فتبت أيادي هؤلاء الأمراء أمراء النّعال.
(7)
«هل جربت مرّة أن تجلس في الصحراء...» فأجيبها أجل لقد جربت ذلك ورأيت في عينه الواسعتين الجارحتين ما يجعل الموؤدة في القرآن تترجل من سورة «التكوير» وتأتيهم في مضاجعهم تُحرّقهم بالقار والنفط حتى إذا ما استوى الرّمادُ بالأرض ركض الغزال الرّضيعُ لاثغا بالمسك يقود البنية الصغيرة إلى أحضان أمها أوإلى مرابع الرّعاة الصبيان بقرب النبع بقرب أطلال المعبد الروماني في «مكتاريس» فتغري واحدا منهم بحبة خوخ أوتراوده عن مزماره فتخفيه وحين ينتبه لا تترك له من أثر إلا ما تتضوع به الخرافة من رائحة مسك الغزال.